التعليم واللغات > اللغويات

تاريخُ اللغةِ العربيةِ - أولاً: اللغةُ العربيةُ قبلَ الإسلام

تحتلُ اللغةُ العربيةُ بشكلها الفصيحِ الحديث Modern Standard Arabic مركزاً هاماً في المؤسساتِ الدوليةِ والهيئاتِ التابعةِ لها، وهي اللغةُ الرسميةُ لأكثر من 22 دولةً في آسيا وأفريقيا. وتعرِفُ تنوعاً لهجياً كبيراً، إذ ينطقُ بها أكثرُ من 350 مليونِ شخصٍ يتركّزونَ بشكلٍ كبيرٍ في الشرقِ الأوسطِ وشمالِ أفريقيا.

وقد لعبتِ اللغةُ العربيةُ في تاريخها دوراً حضاريّاً كبيراً، خاصّةً في العصورِ الوسطى حينَ كانتْ لغةَ الحضارةِ الإسلاميةِ. ويشكرُ كثيرٌ من المؤرخينَ والمفكرينَ الغربيينَ اليومَ للغةِ العربيةِ دورها في نقلِ الفلسفةِ الغربيةِ القديمةِ كالإغريقيةِ والرومانيةِ إلى العالمِ الحديث.

وكَغيرِها من شقيقاتها اللغاتِ السّاميةِ، لا نعرفُ الكثيرَ عن بداياتِ اللغةِ العربية. ولكنّ التشابهَ الكبيرَ بينها وبينَ باقي لغاتِ الأسرةِ السّاميةِ دفعَ الباحثينَ والمستشرقينَ إلى القولِ بأنَّ العربيةَ كانتْ بادئَ ذي بدءٍ لهجةً للغةٍ قديمةٍ اصطُلِحَ على تسميتِها اللغةَ السّاميةَ الأُم.

صورة: مقارنةٌ لفظيةٌ بين عدةِ لغاتٍ سامية

وهنا لا بدَّ لنا من وقفةٍ عندَ مصطلحِ " اللغاتِ السّامية" الذي ظهرَ أولَ مرةٍ على يدِ المستشرقِ الألمانيِ شلوتزر Schloezer في القرنِ الثامنِ عشر، بعدَ أن وجدَ الباحثونَ من المستشرقينَ تشابهاً كبيراً في لغاتِ الشعوبِ التي صنّفها العهدُ القديمُ على أنّها من ذريّةِ سامٍ بن نوح، على الرّغمِ منَ التّشكيكِ في الروايةِ التوراتيةِ التي تُصَنّفُ أقواماً تحدثوا بلغاتٍ ساميّةٍ ضمنَ أقوامِ غيرِ سامية، وأقواماً لا يتحدثونَ لغاتٍ ساميةً ضمنَ الأقوامِ السّامية. ويُرجِعُ المستشرقُ الألمانيُ نولدكه هذا التناقضَ إلى التقسيمِ التوراتيِّ الذي جاءَ مبنياً على اعتباراتٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ وجغرافية؛ فنراهُم يُقصُونَ الكنعانيينَ منَ البطونِ السّاميةِ نتيجةَ العداءِ التّاريخيِّ بينَ العبرانيينَ والكنعانيينَ. كما يُقحِمُ النصُ التوراتيُ العيلاميينَ والليديينَ ضمنَ الأقوامِ السّاميةِ رغمَ أنّهم لا يتكلمونَ لهجاتٍ ساميةً أو حتّى قريبةٍ منها. وعلى الرغمِ من ذلكَ اقتنعَ الباحثونَ اللغويونَ باعتمادِ مُصطلحِ اللغاتِ الساميةِ على مضض. واليومَ يطرحُ بعضُ الباحثينَ اللغويينَ مصطلحاً أكثرَ شمولاً لمجموعةِ اللغاتِ هذهِ وهو "اللغاتُ الجزيرية" نسبةً إلى الجزيرةِ العربيةِ التي يرى أغلبُ الباحثونَ أنها الموطنُ الأصليُّ للساميين.

وتشملُ المجموعةُ الساميةُ لغاتٍ عديدة قسَّمها الباحثونَ إلى فروعٍ وفقاً للتوزعِ الجغرافيِ، وتأتي اللغةُ العربيةُ في الفرعِ الجنوبيِ إلى جانبِ اللغاتِ العربية القديمةِ القحطانيةِ واللغاتِ الحبشيةِ.

ويرَى المستشرقونَ وغيرُهُم من الباحثينَ أنَّ مجموعَ هذه اللغاتِ يَرجِعُ بأصلهِ إلى لغةٍ واحدةٍ قديمةٍ اصطُلِحَ على تسميَتِها باللغةِ الساميةِ الأمِ التي لا نعرفُ عنها الكثيرَ، إلا أنّها كانت لغةً لأقوامٍ عدةٍ تسكُنُ نواحي واسعةً اختلفَ المؤرخونَ في تحديدها. إذ تتعددُ الآراءُ في الموطنِ الأصليِّ للساميينَ، فالبعضُ يرى جنوبَ العراقِ موطناً للأقوامِ الساميةِ، والبعضُ يراهُ بلادَ كنعانٍ، والبعضُ الآخرُ يذهبُ إلى القولِ بأنَّ أرمينية هي الموطنُ الأصليُّ للساميينَ، ومن الباحثينَ والمستشرقينَ من يرى أنَّ الجزيرةَ العربيةَ هي الموطنُ الأصليُ للساميينَ. ومن القائلينَ بهذا الرأيِ المستشرقُ الألمانيُ الشهيرُ بروكلمان والفرنسيُ رينان والهولنديُ دي جوج والإنكليزيُ رايت ويرجِّحُ الدكتورُ إسرائيل ولفنسون هذا الرأيَ إذ يقولُ في كتابهِ " تاريخُ اللغاتِ الساميةِ":

" وكذلك هاجرت البطونُ الكنعانيةُ والآراميةُ تاركةً بلادَ العربِ ... على أنَّ هذا لا يدُلُ يقيناً على أنَّ الجزيرةَ العربيةَ كانتْ هي المهدُ الأصليُ للأممِ الساميةِ" ولكنهُ يستدركُ قائلاً:

"وكذلكَ يلاحَظُ في مظاهرِ أغلبِ هذهِ الأممِ أنها مظاهرٌ تكادُ تكونُ صحراويةً، فعواطفُ هذهِ الأممِ وخيالُها واتجاهُ أفكارِها يُشعرُنا بروحِ الصحراءِ". ويشيرُ في موضعٍ آخر:

" نحنُ نعلمُ أنّ الآراميينَ إنَّما نزحُوا منَ الجزيرةِ العربيةِ، ولكن من العسيرِ جداً أن نعينَ البقعةَ التي كانوا يسكُنونَها في تلكَ الجزيرةِ".

ولا نعلمُ على وجهِ التحقيقِ متى انفصلت اللغةُ العربيةُ عن الآرومةِ الساميةِ، وذلكَ بسببِ ندرةِ النقوشِ المكتشفةِ في بلادِ العربِ، ولكن يَرى أكثرُ المستشرقينَ أنَّ اللغةَ العربيةَ أقربُ اللغاتِ الساميةِ إلى اللغةِ الأمِ، نتيجةَ انعزالِ العربِ في بلادِهم وقِلَةِ اختلاطِهم بالأقوامِ الأُخرى. ومن أصحابِ هذا الرأيِ الدكتور إسرائيل ولفنسون وأولساوزن ودي جوج.

يميزُ الباحثونَ في نشأةِ اللغةِ العربيةِ بينَ اللهجاتِ العربيةِ في شمالِ الجزيرةِ العربيةِ وجنوبِها، ويذهبُ كثيرونَ إلى أنَّ اللغةَ العربيةَ الجنوبيةَ تَختلِفُ عن اللغةِ العربيةِ الشمالية. والحقيقةُ أنَّ اللغةَ العربيةَ تشكَّلت من لهجاتٍ عديدةٍ جنوبيةٍ وشماليةٍ حتى تفوقَتْ اللهجاتُ الشماليةُ وشكّلَت لغةً أدبيةً وتجاريةً في عصرِ ما قبلِ الإسلام.

على أنَّ ذِكرَ العربِ بصفَتِهم القوميةِ قديمٌ جداً، فنجدُ العهدَ القديمَ يذكُرهُم بأوصافٍ شتى كالعربِ والإسماعليينَ أو الأوصافِ الدّالةِ على نمطِ العيشِ البدويِ الذي كانَ عليهِ العرب. ولكنَّ أقدمَ ذكرٍ موثقٍ للعربِ يعودُ إلى القرنِ التاسعِ قبلَ الميلادِ في أحدِ نقوشِ الملكِ الآشوري شلمنصر الثالث.

وعلى الرغمِ من ذلك فإنَّ أقدمَ ما وصلَ إلينا منَ العربيةِ القديمةِ نقوشٌ اكتُشِفَ مُعظمُها في المنطقةِ الممتدةِ بينَ الحجازِ ودمشق، كُتِبت بخطُوطٍ شتى وتَعُودُ للقرونِ الميلاديةِ الأولى، وقد يعودُ السببُ في ذلكَ إلى أنَّ العربَ لم يعرفوا الكتابةَ إلا في القليلِ النادر.

وعدا عنِ النقوشِ اللحيانيةِ والصفويةِ والثموديةِ المكتوبةِ بالخطِ المُسندِ اليمنيِ، نجدُ نقشَ النمارةِ المكتشفَ قريباً من جبلِ العربِ في باديةِ الشامِ، ويعودُ تاريخهُ إلى العامِ 328 م وهو نقشٌ على شاهدِ قبرِ امرئِ القيسِ بن عمرو ملكُ العربِ الذي كانَ أحدَ ملوكِ الحيرةِ البارزين.

صورة النقش

نص النقش:

(1) تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج

(2) وملك الأسديين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وجا

(3) يزجي في حبج نجرن مدينة شمر وملك معد ونزل بنيه

(4) الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه

(5) عكدي هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده

وفيما يلي قراءة للنقش بالعربية الحديثة:

هذهِ نفسُ (قبرُ) امرئِ القيسِ بن عمرو ملكِ العربِ كُلِّها الذي أسرَ التاجَ ومَلَكَ (هزَمَ) الأسديينَ ونزاراً (قبائلَ عربية) وملوكَهم وهربَ مُذحج ّبقوتِه، وجاءَ يزجي في حبج نجرانَ مدينةَ شمر و ملَّك بنيهِ الشعوبِ ووكّلهم الفرسَ والرومَ فلم يبلُغُ ملكٌ مبلغهُ هلكَ (ماتَ) سنة 223 يوم 7 بكسلول (كانون الأول) فليسعدْ الذي ولَدُهُ.

ومن النقوشِ المكتشفةِ قُربَ جبلِ الدروزِ أيضاً نقشي حران وأم الجمال.

ولنقشِ حرانَ المكتشفَ في منطقةِ اللجاةِ أهميةُ كُبرى إذ أنّهُ كُتِبَ بعربيةٍ صافيةٍ قريبةٍ من عربيةِ الشعرِ الجاهليِ، كما يُعطينا صورةً حقيقةً عن تطورِ الخطِ العربيِ قبلَ الإسلامِ فقدْ كُتِبَ بخطٍ يشابهُ الخُطوطَ العربيةَ المكتوبةَ في القرنِ الهجري الأول. وقد كُتِبَ النَقشُ باللغتينِ العربيةِ واليونانيةِ وجاءَ في النصِ العربي:

" أنا شرحبيلُ بن ظلمو (ظالم) بَنيتُ ذا المرطول بعدَ مفسدِ خيبرَ بعام"

أما النقوشُ الثموديةُ فهي كثيرةٌ جداً تزيدُ عن الألفِ، يعودُ أغلبُها إلى القرنينِ الثالثِ والرابعِ وُجِدتْ في مناطقَ متفرقةٍ بين الحجازِ ونجدٍ وقُربَ دمشقَ وشبهِ جزيرةِ سيناء.

والنقوشُ الصفويةُ كثيرةٌ أيضاً، وسُميتْ بالصفويةِ نسبةً إلى منطقةِ الصفا قُربَ جبلِ الدروزِ. واكتُشفت نقوشٌ كثيرةٌ تَذكرُ ملوكَ لحيان، وهي قبائلُ يُرجَّحُ أنها كانتْ تسكُنُ شمالَ الحجازِ قبلَ الميلادِ، ويعودُ تاريخُ هذهِ النقوشِ إلى ما بينَ سنةِ 400 و200 قبلَ الميلادِ، وقد استطاعَ المُستشرقُ الألمانيُّ إنو ليتمان حلَّ رموزها، ووجدَ أنها مكتوبةٌ بخطٍ قريبٍ من المُسندِ اليماني.

ويتفقُ كثيرٌ من الباحثونَ أنَّ اللهجاتِ اللحيانةَ والثموديةَ والصفويةَ تُشكّلُ ما يُسمّى باللغةِ العربيةِ القديمةِ البائدة.

وما إن نقتربُ منَ القرنِ الخامسِ الميلاديِ حتّى تتضِحَ لنا الصورةُ أكثرَ فأكثرَ، فنحنُ نمتلكُ مادةً غنيةً نُقِلَت إلينا بلغةٍ عربيةٍ نقيةٍ، فالشعرُ الجاهليُ يُعطينا صورةً حقيقةً لما وَصلتْ إليهِ اللغةُ العربيةُ في القرنينِ الخامسِ والسادسِ بعدَ الميلاد.

ورَغمَ أننا لا نعلَمُ على وجهِ التحقيقِ متى بدأَ العربُ قرضَ الشعرِ، إلا أنَّ أكثرَ المؤرخينَ يجعلونَ الشعرَ الجاهليَّ في فترةٍ تمتدُ من مئةٍ وخمسينَ إلى مئتي عامٍ قبلَ الإسلام.

وخلافاً للاعتقادِ السائدِ بأنَّ العربيةَ الفصحى إنما هي لهجةُ قريشٍ على وجهِ التحديدِ إلا أنَّ البحثَ اللغويَ يُشيرُ إلى أنَّ العربَ اصطَلَحُوا في نهايةِ الأمرِ على لغةٍ أدبيةٍ تشكّلت من جُموعِ لهجاتِ العربِ العدنانيةِ بشكلٍ خاصٍ دونَ أن نُهمِلَ إسهامَ الجُنوبيينَ الذينَ اختلطَوا بقبائلِ الشمالِ في هذهِ اللغةِ فكثيرٌ منْ شعراءِ الجاهليةِ ينحَدِرونَ من قبائلَ يمنيةٍ كانتْ قد تَركتْ بلادَها الأصليةَ ورحلتْ إلى الشمالِ بل وبَنَتْ ممالكَ على غِرارِ ممالكِ اليمنِ القديمِ كقبيلةِ كندة واللخميينَ ملوكَ الحيرةَ والغساسنةَ الذينَ تَذكُرُ الأخبارُ استقبالَهُمُ الشعراءَ من بلادِ العربِ ما يدُلُ على المكانةِ التي وصلَ إليها الشعرُ في تلكَ الحُقبةِ وبالتالي دورهُ الكبيرُ في اصطفاءِ لغةٍ راقيةٍ تليقُ بالأدبِ وبلاطاتِ الملوك.

المراجع:

إسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية

علي العناني، ليون محرز، محمد عطية الأبراشي: الأساس في الأمم السامية ولغاتها

شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي, العصر الجاهلي

إقليميس يوسف الموصللي: اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية

المطران بولس بهنام: العرب والآراميون

هنا

ربحي كمال: دروس في اللغة العبرية