علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

بواكير تقدير الذات

متى يُظهر الأطفال تقديرهم لذواتهم؟ يفعلون ذلك أبكر ممّا تتصور..

انتشر في الآونة الأخيرة فيلمٌ على اليوتيوب يُدعى “Jessica’s Daily Affirmation”(اقرار جيسيكا اليومي) وتظهر فيه جيسيكا ابنة الأربع سنوات وهي تقف أمام المرآة وتقول لنفسها كل ما يجعلها سعيدة حيال ذاتها. شاهد الفيديو: (هنا )

يُظهر العديد من الأطفال مثل جيسيكا شعوراً ايجابياً حيال قدراتهم ويفيدون بسعادتهم بأنهم يُجيدون الركض والقفز والرسم والرياضيات أو الموسيقى. إلاّ أنّ الاعتقاد بإجادة مهارات حسية محددة يمكن أن يختلف عن المعنى العام لاحترام الذات أو ما يسميه العلماء الاعتداد بالنفس الإيجابي .ويُفيد الأطفال في عمر مبكر ببعض العبارات كـ :" أجيد الركض." أو " أجيد كتابة الرسائل." إلاّ أنّ أطفال الروضة قد لا يقدرون على الإجابة عن أسئلةٍ أو يصيغون الألفاظ المناسبة للتعبير عن احساسهم الكلي باحترامهم لذواتهم.

إذاً متى ينمو احساس تقدير الذات والاعتداد بالنفس هذا عند الأطفال وكيف نستطيع قياسه؟

طوّر باحثونا طُرقاً جديدةً لدراسة كيفية تفكير الأطفال بأنفسهم. فلاحظ الآباء أنّ النتائج قد أظهرت أنّ الشعور بتقدير الذات والاعتداد بالنفس (الشعور الجيد أو السيء حيال النفس) ينمو لدى معظم الأطفال بشكل مبكر وبعمر الخمس سنوات وحتى قبل أن يدخلوا روضة الأطفال.

قياس تقدير الذات عند الأطفال الصغار:

يُصعب قياس تقدير الذات عند الأطفال لأنّه يتطلب مستوىً محدّداً من التأمل والتفكير الذاتي والمقدرة اللفظية فوجدنا طريقةً لتجّنب ذلك بقياس الاحساس الباطني العميق بتقدير الذات لدى الأطفال وهي طريقةٌ لا تتطلب هذه الأسئلة اللفظية.

حيث يُقاس تقدير الذات عند الكبار البالغين بالإجابة على أسئلةٍ تُقدر نسبة موافقتهم على عباراتٍ كـ :"أشعر بأنني شخصٌ جديرٌ ومؤهلٌ أو على الأقل متساوٍ مع الآخرين". أو " موقفي إيجابيٌّ حيالَ ذاتي."

بينما يجد الأطفال الصغار صعوبةً في الإجابة على هكذا أسئلة لفظية، لذلك طورنا أداةً تُدعى "اختبار المشاعر الضمنية للأطفال " (the PSIAT) لقياس شعور الأطفال بتقدير ذواتهم الضمني. وتكمن أهمية هذا القياس بأنه لا يتطلب من الأطفال أن يصفوا مدى شعورهم حيال أنفسهم لفظياً.

و إليكم كيف قمنا بذلك:

أعطينا 234 طفلاً مجموعتين من الرايات الملونة حيث رمزنا لإحداها بـ "أنا" والأخرى بـ "لست أنا" .ثم طلبنا إليهم أن يستجيبوا بضغط الزر المناسب بعد سماع سلسلة من كلمات "جيدة" مثل (مرح، سعيد ولطيف) و كلمات "سيئة" مثل (مجنون لئيم ومقرف) من مكبرٍ للصوت. وقاس هذا الإجراء مدى ربط الأطفال للكلمات الجيدة مع الرايات التي رُمّزت بـ"أنا". ويُشكّل هذا الإجراء نموذجاً معدلاً من اختبار مشاعر البالغين الضمنية Implicit Association Test وهو مقياس علم النفس الإجتماعي المستخدم كثيراً للكشف عن التحيّز المخفي عند البالغين فيما يخص العرق، الدين، النفس والمواضيع الأخرى وذلك بسؤال المشاركين أن يصنفوا وبسرعة كلماتٍ من أصناف مختلفة.

فوجدنا أنّ أكثر من 90% من الأطفال ذوي الخمس سنوات قد ربطوا أنفسهم بالكلمات "الجيدة" والتي تُشير إلى تقدير إيجابي للذات. وقد أظهرت النتائج أيضاً أنّ احساس تقدير الذات القابل للقياس ينمو لدى معظم الأطفال في عمر الخمس سنوات.

وقد زود اختبارنا الباحثين بطريقة موثوقة لتقصي العلامات المبكرة لكيفية نمو هذا الاحساس من احترام الذات لدى الأطفال في مرحلة الرياض.

يتمتع الناس ذوي المستويات العالية من تقدير الذات بمرونة أكثر:

إذاً لماذا تقدير الذات مهمٌ للأطفال؟

يزوّد تقدير الذات الصحي والسليم الأطفال بحاجزٍ واقٍ للهزيمة ويمكّنهم من تطوير مرونةٍ تجاه الفشل.

فقد أظهر تقدير الذات قدرته عند البالغين على التنبؤ بردود الفعل الفردية نحو النجاح والفشل. ويثابر الناس الذين يتمتعون بمستويات عالية من تقدير الذات بعد تعرضهم للهزيمة أكثر مما يفعل أولئك الذين يتمتعون بمستوىً منخفض من تقدير الذات.

وتنبع أهمية هكذا علاقة بين المرونة وتقدير الذات عند الأطفال الصغار من أهميتها الخاصة في عمليتي التعلم والتربية المبكرتين.

فمثلاً يُحرز قّلةٌ من تلاميذ المرحلة الأولى نسبة100% بشكل دائم في كل الاختبارات ويتمتع قّلة من الأطفال ببراعة إخوتهم الأكبر سناً ولذلك نؤمن بأنّ هزائم صغيرة كهذه يُمكن أن يُخفف تقدير الذات الايجابي من وطأتها. حيث يميل تقدير الذات إلى الثبات بشكل نسبي على مدى الحياة ويُزودنا تأسيسه الباكر بدرعٍ عاطفيٍّ في وجه صعوبات وهزائم الحياة اليومية لمدى الحياة.

أهمية تقدير الذات :

كيف يُنّمي الأطفال احساسهم بتقدير الذات؟

يهتم الأطفال كثيراً بالآخرين "يحبونني" وربما منذ نعومة أظفارهم وفي مرحلة الرّضاعة حيث أظهر بحثٌ أنّ الأطفال الرّضع يعرفون إلى أيّ حدٍّ يحبهم الآخرون. ويضع هذا حجر الأساس لتنمية علاقاتٍ اجتماعيّةٍ والاحساس بالانتماء. وتُساعد هذه المشاعر المترافقة مع الدفء و الاهتمام المتساوي الأطفال على تنمية مشاعر الارتباط بآبائهم والتي تُعبّدُ بدورها الطريق إلى تنمية الشعور بالتقدير الايجابي للذات. وقد وجدنا أنّ السنوات الخمس الأولى حاسمة وأساسية في وضع أسس تطوير العواطف الاجتماعية.

ويُساعد التقدير الايجابي للذات بطرقٍ أخرى أيضاً:

يُسمّي العلماء هذا اختيار أو تفضيل الجماعة(العُصبة). حيث تعتمد الجماعة عند البالغين على العرق، الجنسية، الدين..إلخ. بينما يعتمد تفضيل الجماعة عند الأطفال على الجنس(ذكر وأنثى) ويرتبط هذا باحترام الذات.

ويُظهر هذا أن تقدير الذات يرتبط بشكل منهجي بالمظاهر الأساسية الأخرى المبكرة في التّطور لشخصية الفرد. ونؤمن بأنّ تقدير الذات أحد الأدوات العقلية التي يستخدمها الأطفال لخلق الشعور بالهوية والانتماء إلى مجموعاتٍ اجتماعيةٍ. وبمعنىً آخر يعكس الأطفال في عمر مبكر التأسيس النفسي لآبائهم البالغين. وهذا أمرٌ يحضرونه معهم إلى الروضة ولا يتعلّمونه في المدرسة.

إنّ منح الأطفال بدايةً جيدة في الحياة عطية مهمة لا بل العطيّة الأهم التي يستطيع الآباء تزويد ولدهم بها. فالأطفال الذين يشعرون بمحبة الآخرين لهم سيدمجون في أنفسهم هذا الحب ويحولونه إلى حبٍّ لذواتهم.

المصدر:

هنا