كتاب > روايات ومقالات

"أفغانستان" بقلم "عتيق رحيمي".. هل أنتجت أفغانستان شيئاً آخرَ غير الحرب؟

لطالما ارتبطت "أفغانستان" في أذهاننا بمظاهر التّسلّح والقتل والدماء، ارتبطت بطائرات السوفييت وغارات الأمريكان وغيرهما. حتى وصلنا إلى حدٍ لا يمكننا تصوّر أنّ تلك البقعة الملتهبة من العالم تحمل أدباً، شعراً، وفناً. كما لا يمكننا تصور أنّ هذه الأرض قد أنجبت أبناءاً يشهرون أقلامهم في وجه العالم بدلاً من إشهار بنادقهم ويفجّرون صرخاتهم أدبًا بدلاً من تفجير أنفسهم!.

إنّ التعمّق أكثر في تركيبة المجتمع الأفغاني يكشف عن وجود قضايا اجتماعية وصراعات نفسية تطمر تحت الأنقاض كما تطمر الكثير من الجثث، وتضيع قصصها على حساب الصخب السياسي الذي يدور من حولها، وهكذا نبقى غافلين عما يحدث هناك.. في ذلك المجتمع الذي تم تهميشه عمداً وتناسي قصصه وصراخه وإغفال طلباته.

إذا ما أردتَ النظر للمجتمع الأفغاني عن كثب، فابتعد عن التحليلات السياسية واقترب أكثر من قصص الأدباء لأنهم وحدهم من يكترث بأولئك المعذبين القابعين تحت ضغط العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية. ولأنهم الأقدر على نقل تلك الصورة حيّة كما هي.

ولعلّ هذا بالفعل ما أراده الكاتب الأفغاني "عتيق رحيمي"، بأن يتغاضى عن الصراعات السياسية والمجتمع الدولي ليقترب أكثر من الصراعات الداخلية والمجتمع الأفغاني.

فها هو (ملعون دوستويفسكي) حاملاً (حجر الصبر) متنقّلاً بين (ألف منزل للحلم والرعب) على(أرض ورماد).

(أرض ورماد)

"إنّ الألمَ، إمّا أن يذوب ويسيل عبر العيون، وإما يصبح قاطعاً مثل شفرة تنبثق من الفم، وإما يتحول إلى قنبلة داخلية، قنبلة تنفجر ذات يوم وتفجرك معها"

عن أي ألم يتحدث "رحيمي" في هذه الرواية؟ ألم الاغتراب، الحرب، الموت، ألم اللقاء، أم ألم المجهول؟

إن تتبّعك لهذه القصّة من أوّل مشهدٍ فيها حتّى آخر مشهد سيشعرك بأنّها سيرة للحزن والألم بمختلف أشكاله وعذاباته، سواء تمّ تضمين ذلك بشكلٍ مباشر أم لا. هي رحلة للمّ الشمل من جديد، حاجة بشرية تدفعنا للالتحام بعدما عرّانا الموت من قوّتنا وتماسكنا.

إنها قصة الجد العجوز "داستاغوير" ورحلته التي مشاها وصولاً إلى حيث يعمل ابنه ليخبره بالفاجعة التي سببتها الغارة السوفييتية وقتّلت جميع أفراد العائلة ماعدا "ياسين" الحفيد الصغير الذي سرقت منه القنبلة سمعه وسرقت معها أصوات الأشياء من حوله.

نعيش مع "داستاغوير" العديد من المواقف، التخيّلات، أحلام اليقظة، لنصل معه وأخيراً عند ابنه "مراد".

لكن لهفة اللقاء، حرارة العناق المتبادل، الرثاء المشترك على عائلة متفحّمة تدفن نفسها بنفسها، الشعور بالأمان والانتماء من جديد.. كلها أمور لن تحدث، لكن لماذا؟

لعلّ الغاية التي أراد الكاتب الوصول إليها من هذه القصة القصيرة التي لا تتجاوز الـ 100 صفحة هي الحديث عن حالة الاغتراب التي يعيشها الشاب الأفغاني، عن تحوله لضحية قوتين متصارعتين: السوفييت وسعيهم لتحويل الشباب لآلة عاملة منتجة فقط وفق معاييرهم من جهة، والحركات الأصولية المتحاربة التي اقتطعت كل واحدة منها لنفسها قطعة من الأرض وأقامت عليها حكماً خاصاً بها من جهة أخرى.

وتبقى العين السينمائية في عرض الأحداث حاضرة بقوة منذ البداية، وهذا ما يميز "رحيمي" إذ تشعر وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً بكلّ أبعاده من حيث البيئة والأصوات والألوان والحوارات وغيرها.. كيف لا وهو المخرج السينمائي المشهور!

صدرت هذه الرواية سنة 2000 وتحولت لفيلم سينمائي سنة 2004 من إخراج "عتيق رحيمي".

(ألف منزل للحلم والرعب)

"هل يمكن تسمية هذه اللحظات باسم آخر غير الرعب؟ إنه الرعب الذي يجعلنا نشك في وجودنا.. الرعب الذي يدفعنا نلجأ إلى عوالم متخيلة.. إلى الإيمان بالجان.. بالمرأة الأثيرية.. بالحياة بعد الموت !"

أيّ كابوس هذا الذي يشاركنا به "عتيق" في هذه الرواية؟، وعن أية منازل ملأى بالرعب تارة وبالحلم تارات عدة يتحدّث؟ إنّه أشبه بنص هذياني تتناوب فيه أصوات من الحاضر والماضي، لنجد أنفسنا نشارك "فرهاد" كوابيسه، هروبه، وموته من غير موت.

تتحدّث هذه الرواية عن هروب "فرهاد" من قوى الأمن الأفغانية في ظلّ نظامٍ سياسيّ موالٍ للسوفييت، لسببٍ لا يدركه إلا لاحقاً، فقد وقع ضحيّة مزحة ابتدعها صديقه إذ قام بتحريف شعار الشيوعيين على ورقة لتقع هذه الورقة بيد طالبٍ حزبيّ يقوم بكتابة تقرير ضدهما، وهكذا تبدأ رحلة الهروب ليلقى نفسه فجأة في منزل امرأة تعتني به، وابنها يدعوه "يا أبي!".

يعيش "فرهاد" فترةً من الزمن في هذا المنزل الذي يلفّه الغموض والأسى، وفي كل يوم كان يزداد فضوله نحو تلك المرأة الجريئة وإصرارها على حمايته في بلد محافظ! أيعقل أن يكون السبب هو مجرد إشباع جنسي ما وتعويض فراغ تراكم عبر السنين؟ أم أنها مازالت مسكونة بقصة زوجها المقتول فعمدت لحماية "فرهاد" رداً على عجزها عن حماية زوجها آنذاك؟.

يعمد "فرهاد" للهروب إلى باكستان لبدء حياة جديدة هناك بعيداً عن بنادق قوى الأمن وقيودهم التي ترصد الأحلام.. لكن هل يستطيع النجاة فعلاً من الأمر؟ أم أنّه يجد نفسه من جديد مطوّقاً بنظام دكتاتوري مشابه لسابقه لكنه مختلف من حيث رقعته الجغرافية؟.

لعلّ الرسالة الأساسية التي عمد الكاتب على إيصالها هنا هي التأكيد على متتالية القمع التي أفرزتها الأنظمة الديكتاتورية في تلك الرقعة من العالم الرازحة تحت سيطرة القوى الكبرى.

"رحيمي" يعيش في جسد بطله، وتحت جلده، فيعبر لنا عن كل ما يجول بخاطره ضمن مونولوج يتم عرضه بعين سينمائية.. إنه بوح أفغاني بأسلوب الهلوسة، وتصوير سينمائي أكثر منه رواية.

(حجر الصبر)

تقول الأسطورة الأفغانية:

"أنّ هناك حجراً تضعه أمامك وتبدأ تشتكي له عن كلّ مصائبك، كلّ آلامك وكلّ مآسيك، الحجر الذي تؤمّنه على كل ما في قلبك من أمور لا تستطيع البوح بها أمام أحد.. تستمر بالتحدث إليه وهو يصغي لك.. يمتصّ كلّ كلماتك حتى يأتي يومٌ وينفجر فيه، عندها سوف تتحرر من كلّ آلامك وعذاباتك"..

حسناً ماذا لو كان هذا الحجر في روايتنا هنا "إنساناً"!

تدور أحداث الرواية في غرفة طينية صغيرة، عُلّق على أحد جدرانها خنجرٌ صغيرٌ سيكون الحكم في نهاية القصة، وفي صدرها نافذة مفتوحة على عالم مليء بصخب المجاهدين المقتتلين على السلطة، وداخل الغرفة جسدٌ هامدٌ غارق في غيبوبة لرجل مُصاب، وامرأة شابّة ستكون الصوت الوحيد المتكلم في هذه القصة.

مدهش "رحيمي" كيف يستطيع أن يتقمّص دور أنثى.. فيتكلّم بأسلوبها، ويعبّر بمشاعرها.. أنثى اعتادت أن تكون ملهاة بيد زوجها وفق أهوائه ورغباته هو وحده.

وهذا في الحقيقة هو جوهر الرواية.. تسليط الضوء على وضع المرأة في المجتمع الأفغاني بشكل خاص والمجتمعات النامية بشكل عام إذ تتحوّل المرأة هناك بشكلٍ أو بآخر إلى أداة لإشباع الرغبات دون إقامة أي اعتبار لكيانها وشخصها واحتياجاتها.

فضلاً عن التطرّق لظواهر أخرى رديفة، كالكبت الجنسي والشذوذ، أو حتى التطرق لظاهرة اللجوء لبيوت الدعارة كوسيلة للإنجاب في وقتٍ لا يجوز هدم التابو القائل: إنّ المسؤول الوحيد عن "عدم الإنجاب" هي المرأة، ومن غير اللائق إقحام الرجل في هذا لأن فيه انتقاص لرجولته!

الرواية بمجملها بوح تلقيه المرأة على مسامع زوجها الغافي، لتكسر وحدتها ووحدته.. تحكي له مشاعرها تجاهه، تلومه على سلوكه الوحشي، وهو كحجر الصبر الذي حكت عنه الأسطورة الأفغانية يصغي لها ويمتصّ كلماتها إلى أن تصل للبوح الأخير، البوح الذي فجّر صمته وأنهى القصة.. ياترى ما هو؟ ومالذي حدث له آنذاك؟

صدرت الرواية سنة 2008، حازت على جائزة "غونكور" الفرنسية في نفس العام، وتحوّلت لفيلم سينمائي سنة 2013.

(ملعون دوستويفسكي)

"ما كادَ رسول يرفع الفأسَ كي يضربَ رأس المرأةِ العجوز حتّى عبرتْ رواية الجّريمة والعقاب في ذهنه، صعقته، ارتعشتْ ذراعاه، تمايلتْ ساقاه، أفلتت الفأسَ من يديه. فاخترقت جمجمة المرأة وانغرزت فيها ...."

ما يلبثُ القارئ يمرّ على هذه السطور حتى تتمثّل أمامه رواية الرّائع دوستويفسكي بجريمتها وعقابها. فيعيش حالة التّماهي والمحاكاة بين شخصية البطلِ هنا والبطلِ هناك، لكنّ الفرقَ الوحيدَ هو أنّ بطلنا هذا من أرضِ الرمادِ "أفغانستان" ذاك البلد الذي قال عنه الكاتبُ عتيق رحيمي:

"إنّ الجميعَ يُقاتل فيه كي يتحوّل إلى غازياً، وحين يُقتل يتحوّل إلى شهيد".

يدخل "رسول" في حالة صراع ليثبت لنفسه ولغيره أهمية فعلته، فهو لا يبغي سوى أن يعطي لجريمته معنىً حقيقياً ذا هدفٍ سامٍ لا لمجرّد أن تكون في سياقات القتل الفوضوية المتخفية وراء اعتقادات دينيّة واجتماعيّة بالية، بل لتكون الدّافع وراءَ محاكمةِ مجرمي الحرب جميعهم ووضعهم أمامَ المساءلة والمحاكمة.

لربَما لا يهمّ رسول في نهاية المطافِ كيفيّة محاكمته، بل لماذا يُحاكم ؟ هو فقط يريد اقتلاع تلك "الشظية" المغروزة في قلبه والمتولدة عن مدى شعوره بالذنب تجاه فعل القتل.

هو فقط يريد أن يُحاكم لينبّه أبناء بلده كم أنّ القتل فعلٌ مستنكرٌ وبغيض وزرع بذور الذنب في نفس كل قاتل.

لربّما جُلّ ما يمكن الحديث عنه حول هذه الرواية هو ليس فقط السّياق الاجتماعيّ أو النفسيّ الذي صيغت فيه بل أيضاً السياق الوطنيّ الذي لخّصه الكاتب بقوله:

" هذه الرواية لأولئك الذين لا يشعرون بالذنب تجاه التاريخ الدموي لهذا البلد".

نُشرت هذه الرواية لأول مرة سنة 2011 وكانت هذه آخر أعمال الكاتب "عتيق رحيمي" حتى الآن.

يمكنكم قراءة مقالنا بالكامل عبر هذا الرابط: هنا

هذه كانت أفغانستان بقلم وعين أديبها "رحيمي".. وفي النهاية لا يسعنا إلا التساؤل:

هل حقاً لم تنجب أفغانستان شيئاً آخراً غير الحرب والدماء والاقتتال؟