البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية

أدمغة بشرية صغيرة في أطباق بترية! | البديل الأمثل للنماذج الحيوانية المستخدمة في البحوث العصبية

يعدّ الدماغ البشري أحدَ أكثر الأعضاء تعقيداً في المملكة الحيوانية، وتشكّل دراسته بالتالي تحدّياً حقيقياً يواجه العلماء ويستحوذ على اهتمامهم، لا بسبب التعقيد البنيوي والوظيفي الذي يتميز به وحسب، بل لصعوبة إخضاعه للاختبارات التجريبية (التلاعب التجريبي) أيضاً. لذا عمد الباحثون في محاولةٍ لتخطّي تلك التحدّيات إلى دراسة الدماغ -على مدى سنوات عديدة- من خلال استخدام نماذج حيوانية كان لها الدورُ الأكبرُ في تزويدنا بالأساس الذي بني عليه فهمنا الحالي لتطوّر الدماغ ووظائفه. لكنْ بسبب التعقيد والميزات التي يتفرّد بها الدماغ البشري عن سواه، لمْ يكن استخدامُ تلك النماذج الحيوانية الحلَّ الأمثلَ لدراسة كثيرٍ من الأمراض والاضطرابات الدماغية، ممّا سلّط الضوء على الحاجة لوجود نظام حيوي قادر على محاكة عملية تطوّر الدماغ البشري بتعقيداته البنيوية والوظيفية مع إمكانية إخضاعه للاختبارات التجريبية.

يُعلن اليومَ باحثون من جامعة جونس هوبكنز الأمريكية بقيادة بروفسور العلوم الصحية والبيئية في جامعة بلومبيرغ توماس هارتونغ (Tomas Hartung) عن تمكّنهم من إنماء أدمغة صغيرة "mini-brain" (يمكن بالكاد رؤيتها بالعين المجرّدة) مكوّنة من كتلٍ خلويةٍ تحوي خلايا عصبيةً وأنواعاً خلويةً أخرى تحاكي بعضَ المناطق الدماغية عند الإنسان بنيةً ووظيفةً. التقدّم الكبير الذي حقّقه الباحثون في إنماء مثلِ هذه النماذج الدماغية يمكن له أن يغيّر مسارَ الأبحاث الدماغية بشكلٍ كبيرٍ، وطريقة الاختبارات الدوائية أيضاً. إذْ يمكن للأدمغة المنمّاة أن تحلّ محلّ مئات آلاف الحيوانات التي تستخدم اليومَ في مخابر العلوم العصبية.

ويرى الباحثون أنَّ تطبيقَ أبحاثٍ باستخدام هذه النماذج ثلاثية الأبعاد، سيجعل هذه الأبحاث متفوّقةً عن نظيراتها التي تستخدم الفئران والجرذان نماذجاً في مختبراتها، ويعود سبب ذلك إلى أنّ هذه الأدمغةَ الصغيرةَ المنمّاةَ مشتقّةٌ بالأصل من خلايا بشرية.

قبلَ عقد من الزمن فقط، وتحديداً قبل إنزال الستار عن الخلايا الجذعية المحفّزة (induced pluripotent stem cells; IPSCs) في أواخر عام 2007 (يمكنكم قراءة المزيد عن هذا الموضوع في مقالنا هنا) كان وجود مثل هذا النموذج أمراً يصعب تحقيقه، لكنَّ وجود هذا النوع من الخلايا إلى جانب الدراسات العديدة التي نُشرتْ في مجال إنماء الأنسجة والخلايا خارج الجسم الحيّ (ex vivo)، قد مهّد الطريق لظهور نماذج ثلاثية الأبعاد لأنسجة عصبية منمّاة تحاكي في نموّها نموّ وتطوّر الدماغ البشري.

تُعدّ مادلين لانكاستر(Madeline Lancaster)، الباحثة في معهد العلوم والتكنولوجيا (IMBA) في فينا النمسا، أوّلَ من طوّرَ نظاماً حيوياً في المختبر، استخدمت فيه الخلايا الجذعية المحفّزة لإنماء نسيج دماغي ثلاثيّ الأبعاد، أطلقت عليه في ورقتها البحثية التي نشرتها في مجلّة نيتشر عامَ 2013 اسم العُضَيّ الدماغي (Cerebral organoid).

يقول البروفسور هارتونغ: "ما يقارب 95 بالمائة من العقاقير المجرّبة على النماذج الحيوانية التي أظهرت نتائج علاجية واعدة، قد فشلت في تحقيق الفائدة المرجوّة منها لدى اختبارها على البشر، فضلاً عن القَدْر الكبير من النفقات والوقت المبذول لإجراء تلك الدراسات. ويضيف "بالطّبع كانت هناك فائدة جرّاءَ استخدام الفئران كنماذج للتجارب، لكنّنا في نهاية المطاف لسنا فئراناً تزن 150 باونداً، أو حتّى كرات من الخلايا. ولكنْ يمكنناعلى الأغلب أنْ نحصلَ على معلوماتٍ أفضل من هذه الكتل/الكرات الخلوية المنمّاة مقارنةً مع ما يمكن أن نحصل عليه من الفئران."

ويعمد هارتونغ وزملاؤه في إنشاء الأدمغة الصغيرة إلى استخدام الخلايا الجذعية المحفّزة (IPSCs). إذْ يأخذ الباحثون خلايا جلدٍ من أشخاص أصحّاء، ويعيدون برمجتها بحيث تكتسب خواصّ الخلايا الجذعية الجنينية، وبعد ذلك يقومون بتحفيزها ودفعها للنموّ باتّجاه تشكيل أدمغة صغيرة. وبصورةٍ مماثلةٍ يمكن إنماء هذه الأدمغة الصغيرة من خلايا جلدٍ مأخوذةٍ من أشخاص يحملون صفاتاً وراثيةً معيّنةً، أو أمراضاً محدّدةً، ومن ثمَّ إخضاعها لتجارب اختبارية تستهدف دراسة تأثير أنواع مختلفة من الأدوية العلاجية.

يقول هارتونغ: "يمكن للأدمغة الصغيرة أن تُستخدم في دراسة أمراض دماغية عديدة، كمرض ألزهايمر، وباركنسون، والتصلُّب المُتعدِّد، وحتّى مرض التوحّد." ويضيف: "بدأتْ بعض المراكز البحثية فعلياً بدراسة بعض الحالات المرضية كالإصابات الفيروسية، والصدمة، والسكتة الدماغية مستخدمينَ الأدمغة الصغيرة كنماذج تجريبية في دراساتهم."

الأدمغة المنمّاة في مختبر هارتونغ صغيرة جداً، قطرها حوالي 350 مايكرومتر (كل مليمتر = 1000 مايكرومتر)، ويمكن تشبيه حجمها إلى ما يقارب حجم عين الذبابة المنزلية، وبالتالي يمكن بالكادِ رؤيتها بالعين المجرّدة، إلّا أنّه يمكن إنتاج مئات أو حتى آلاف النسخ المتطابقة، ويمكن للطبق البتري الواحد أن يحتوي على 100 نسخة من هذه الأدمغة الصغيرة. بعد ما يقارب شهرين من بدء عملية الإنماء تبدأ الأدمغة الصغيرة بتشكيل أربعة أنواع من الخلايا العصبية، إضافةً إلى نوعين من الخلايا الداعمة (Support cells). وقد تمكّن الباحثون في مختبر هارتونغ من تسجيل نشاطٍ كهربائيّ ذاتيّ ناتجٍ عن تلك الخلايا العصبية المتشكّلة، وذلك باستخدام أقطاب شبيهةٍ لتلك المستخدمة في جهاز التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG). وقاموا أيضاً باختبار وتسجيل تلك الاتّصالات الكهربائية الذاتية خلال عملية إضافة عقارات معينة.

يصرّح هارتونغ المسؤول أيضاً عن إدارة وتوجيه مركز البدائل عن حيوانات التجارب في الجامعة: "نحن لا نملك أوّل نموذج دماغيّ، ولا ندّعي حتّى أنّنا نملك الأفضل، ولكنّ هذه (الأدمغة الصغيرة) تمثّل أكثرَ النماذج المعيارية التي يمكن استخدمها، وعندما يكون الهدف هو اختبار فعالية بعض العقاقير الدوائية. فمنَ الملزِم والملحّ أن تكون الخلايا التي تخضع للدراسة مشابهةً بأكبر قدْرٍ ممكن لخلايا الشخص الهدف المراد علاجه بهذا الدواء، سنضمن بهذا الحصولَ على نتائج أكثر تطابقاً ودقّةً فيما إذا تمّ استخدام نماذج أخرى.

الجدير بالذكر أنَّ هارتونغ يسعى معتمداً على النتائج التي وصل إليها مع زملائه، للحصول على براءة اختراع، كما أنّه يهدف لاستحداث كيان تجاريّ يمكن من خلاله إنتاج أدمغة صغيرة وتسويقها، ويأمل أن يرى هذه الأدمغة الصغيرة تستخدم على نطاق واسع، وفي أكبر قدْر ممكن من المختبرات.

وفي النهاية يمكن القول إنّه قد يسعدك عزيزي القارئ وجود مثل هذه النماذج البديلة التي تَعِدُ بإمكانيات هائلة، كإيجاد العلاجات المثلى للعديد من الاضطرابات والأمراض الدماغية المستعصية، لكنْ لو نظرنا للموضوع من جانب آخر ألا يسعدك أيضاً أنه بفضل هذه النماذج قد بات بالإمكان الاستغناء عن استخدام الحيوانات كنماذج في العديد من الأبحاث العلمية؟ أم أنَّ الأمر لديك سواءٌ؟ نترك لك الإجابة عن هذا السؤال وندعوك لمشاهدة هذا الفيديو التوضيحي الذي يشرح باختصار المراحل التي يتمّ فيها تشكيل الأدمغة الصغيرة في مختبر هانغتون في جامعة جونس هوبكنز الأمريكية: رابط الفيديو .

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا