العمارة والتشييد > الترميم وإعادة التأهيل

متحف كولومبا المنتصب فوق الآثار

تُعتبَر المواقع الأثريّة واجهةً حضاريةً للمنطقة الواقعة بها فهي نتاجٌ لسلسلة طويلة من التّفاعلات الاجتماعية، وشواهدٌ حية للتقاليد القديمة، ولذا فإن صيانتها وحمايتها ضروريةٌ بهدف حماية الإرثِ المشترك للبشرية. ومن هنا برزت ضرورة حماية موقع كنيسة سانت كولومبا الأثري، والذي أدى بنهاية المطاف لتشييد هذا المتحف العصري، الذي يُراعي الآثار ويستمد جماليته منها.

يقع المتحف في مدينة كولونيا الألمانية التي تعرضت لدمارٍ شبه كامل جرّاء الحرب العالمية الثانية. ويضم المجموعة الفنية لأبرشية الروم الكاثوليك بتاريخها الممتد لأكثر من ألف عام، والتي تتضمن لوحاتٍ ومنحوتات وزخارف فنية وأيقونات دينية تعود لحقبٍ زمنية مختلفة بدءاً من أواخر العصور القديمة "Antiquity" وحتى وقتنا الحاضر.

تاريخ الموقع:

اكتسب الموقع شُهرته نظراً لاحتوائه كنيسة سانت كولومبا الّتي شيدت بالفترة القوطيّة (بين القرنين التاسع والثالث عشر) والتي لم يتبقَّ منها بعد القصف سوى أجزاء متصدّعة من الجدران، وفي الخمسينيات حُوِّلت بقايا الكنيسة إلى حديقة تذكارية وبنى المعماري الألماني Gottfried Bohm في الموقع كنيسة صغيرة تسمى The Madonna of the ruins تحيط بتمثال مريم العذراء. وفي العام 1973 كَشفت أعمال التنقيب وجود بقاياً أثرية تعود للعصور الرومانية والوسطى والقوطية تحت الكنيسة القديمة مما زاد من قيمتها التاريخية. وشيدت مجموعة من الأسقف الخشبيّة المؤقتة لحمايتها، وقد تطلبت أعمال التنقيب إزالة هذه الحديقة التذكارية.

في العام 1997 بعد استكمال أعمال التنقيب، أُجريت مسابقةٌ لبناء متحف يضم المجموعة الفنية الدينية، وفاز المعماري السويسري Zumthor Peter بالمسابقة بفكرته التصميمية التي أراد بها احترام تاريخ الموقع والمحافظة على جوهره، ليفتتح المشروع بعد عشرة سنوات لاحقاً في العام 2007.

الفكرةُ التصميمية:

توجّب على المعماري مراعاة المسقط الأصلي والبقايا الأثرية، لتكون فكرة المشروع عبارةً عن مبنى جديد وضخم يندمج مع الجدران الأثرية للكنيسة المدمرة وكنيسة The Madonna of the ruins، واحتوت الجدران المحيطة على فتحات صغيرة تسمح بدخول ضوء متناثر إلى أجزاء محددة من المتحف حيث توجد البقايا الأثرية، ومع تغيُّر فصول العام تتراقص بقع الضوء والظّل مشكلةً بيئة مسالمة دائمة التغيُّر. تقع قاعات العرض في الأعلى حيث تُحمَل على أعمدة نحيفة تجاور التنقيبات الأثرية برفق، وتتصل هذه القاعات بتلك الموجودة في الجزء الشمالي الجديد كلياً والذي يحتضن أيضاً مدخلاً للمتحف والدرج وخزينة المقتنيات ومناطق التخزين تحت الأرضية. هذا وتتفاوت خصائص قاعات العرض الستة عشر من ناحية التناسب والحجم والمسارات وضوء النهار الوارد كما توجد فيها نوافذ كبيرة الحجم تعطي إطلالات رائعة للمدينة وتنعكس هذه الإطلالات على الأرضيّات البيضاء المصقولة. وقد أعطت المواد والإنهاءات المختارة للمبنى طابعاً متناغماً، مع مراعاة احترام الجديد للقديم وذلك بوجود فاصل واضح بينها، متوافقاً مع مبادئ ميثاق البندقيّة المتعلق بحماية وصيانة المباني الأثرية، ليصبح المبنى الجديد جزءاً من النسيج المعماري للموقع.

أما داخل المبنى فتوجد حديقةٌ خاصةٌ تأخذ مكان مقبرة من العصور الوسطى تشكل مكاناً هادئاً ومنعزلاً مناسباً للتأمل وتطل على جزء من الجدار الأثري.

مخطط الطابق الأرضي

الإنشاء:

رغم مراعاة Zumthor بنهجه التصميمي لأصَالة المناطق الأثرية، إلا أن خطته كانت محفوفةً بالمشاكل. فقد اعترض العديد من الأشخاص على بناء الكنيسة الجديدة بنفس موقع الكنيسة القديمة نظراً لتخلخل وضعف البقايا الأثرية، ولهذا السبب أُجريت العديد من الدراسات لتحديد أماكن توضع العناصر الداعمة للسقف (الأعمدة المعدنية النحيفة) وممر المشاة بهدف الحفاظ على سلامة الآثار المنقبة والجدران المتخلخلة المشكّلة لحدود المبنى الخارجية والتي ستتعرض لحمولاتٍ كبيرة مما تطلب حلولاً إنشائية معقدة.

تندمج الإنشائية الجديدة للمبنى مع جُدران الكنيسة الأثرية التي تحميها، ويعرف عن Zumthor اهتمامه الدقيق بمواد البناء المستخدمة ومراعاته لأدق التفاصيل الإنشائيّة، ولهذه الغاية عمل جاهداً للعثور على مادةٍ مناسبة لهذا المشروع تمتاز بتضادٍ واضحٍ باللون والملمس مع الآثار السابقة ليَسهل تمييزها، مما دفعه لاستخدام قطعٍ متطاولة من الطوب لتنسجم مع الجدران الأثرية المبنية من أحجار الطفِّ البُركاني والبازلت والطوب، وطورت قطع الطوب بطراز عصري خصيصاً في الدنمارك وحُرقت بأفران الفحم لمنحها طيفاً من اللون الرمادي الباهت. كما أن سماكة المونة الرابطة غير اعتيادية، وتعادل نصف سماكة قطع الطوب المطوّرة ولها نفس اللون تقريباً.

يقول Jan Thorn-Prikker عضو فريق التحرير الالكتروني للمؤسسة القوطية: لا توجد حداثةٌ صارخةٌ هنا، فالمبنى مقدّم تماماً لخدمةِ الفنِّ وعرضه، ورغم تواضعه إلا أنّه يتألّق كتحفةٍ معمارية.

بلغت تكلفة بناء المتحف حوالي 43.3 مليون يورو ورُغم أهميته الثقافية إلا أنه يعتبر من أصغر متاحف كولونيا. وقد نال المعماري Zumthor جائزة DAM للعمارة في ألمانيا في العام 2008م عن هذا المتحف، وفي 2009 ربح أكثر الجوائز المعمارية أهمية، جائزة Pritzker كتقديرٍ لمسيرة حياته وأعماله.

يعتبر المتحف اليوم إحدى الوجهات التذكاريّة التي لا تنسى نظراً لغنى محتواه التراثي والثقافي، والذي يعيد الجوهر المفقود لواحدٍ من أكثر أجزاء مدينة كولونيا جمالاً.

ما رأيك بطريقة الترميم والبناء الّتي استخدمها المعماري؟ هل تعتقد أنّه وُفِّق بالتعامل مع البقايا الأثرية؟

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا