البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة

هل الجينات هي المسؤولة عن شعورنا بالوحدة؟

يرتبط الشعور بالوحدة غالباً مع الضعف الجسديّ، وضعفٍ في الصحّة العقلية، بل ربّما يرتبط الشعور بالوحدة مع الوفيّات المبكّرة أكثر من السمنة، ولمعرفةٍ أفضل للأشخاص الذين يمكن أنْ يكونوا معرّضين لهذا الخطر، أجرى فريقٌ من الباحثين في جامعة كاليفورنيا أوّلَ دراسةٍ ربطت بين الجوانب الوراثية والشعور بالوحدة كصفةٍ ملازمةٍ للفرد مدى الحياة، وليس كحالات من الشعور الآنيّ بالوحدة.

اكتشف العلماء من خلال هذه الدراسة أنَّ خطر الشعور بالوحدة يعود بشكلٍ جزئيّ إلى المورّثات، ولكنَّ البيئةَ تلعب دوراً أكبرَ في ذلك، وقد خلُصت هذه الدراسة التي شملت أكثر من 10000 شخص، أنَّ الخطر الوراثيّ للشعور بالوحدة يترافق مع التعصاب وأعراض الاكتئاب، كما انتهت أيضاً إلى أنَّه مثلما يقوم الألم الجسديُّ بإنذارنا في حال تلف نسج معيّنةٍ، ويحثّنا على رعاية أجسامنا من الناحية الفيزيولوجية، فإنَّ آثارَ الوحدة الناجمة عن وجود تباينٍ بين ما يفضّله الفرد من علاقاتٍ اجتماعيةٍ من جهة، والواقع الفعليّ لهذه العلاقات من جهة أخرى، جزءٌ من نظام التحذير البيولوجيِّ، الذي تطوَّر لتحذيرِنا من التهديدات والأضرارِ التي لحقتْ بهيئتنا الاجتماعية.

ولكنْ من جهةٍ أخرى لا يوجد إدراكٌ متشابه للشعور بالوحدةِ عند الجميع، فمثلاً بالنسبةِ لشخصين لهما العدد نفسه من أفراد العائلة والأصدقاء، يجد أحدهما هذا الأمر وضعاً مناسباً ومقبولاً، بينما يراه الآخر غيرَ كافٍ، وهنا يتوضّح مفهوم الاستعداد الوراثيّ للشعور بالوحدة، فلمَ يوجدُ شخصٌ باستعدادٍ للشعورِ بالوحدة أكثر من غيره، حتى ولو وُجِد الاثنان في الوضع الاجتماعيّ نفسه؟!

ربّما يكمن الجواب جزئيّاً على الأقلّ في الاستعداد الوراثيّ للشعور بالوحدة، الذي تمَّ اختبارهُ سابقاً، في التوائم والإخوة، الأطفال منهم والبالغين، حيث قدّرت بعض الأبحاث السابقة أنَّ نسبةَ من 37- 55 % من الشعور بالوحدة تحددّه المورّثات، وقد حاوت بعض الدراسات أنْ تحدّد الجينات المسؤولة عن الشعور بالوحدة، مع التركيز على المورّثات المرتبطة بالنواقل العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين، أو الأنظمة الخلوية المترافقة مع الارتباط (علاقات التواصل) بين البشر مثل الأوكسيتوسين، ولكنْ لا بدَّ من الإشارةِ هنا إلى أنَّ هذه الدراسات السابقة اعتمدت في معظمها على عيّناتٍ صغيرةٍ قليلة العدد.

أمّا في هذه الخطوة الاختبارية، فقد استُخدمت عيّناتٌ أكبرُ عدداً، حيث دُرِس 10760 شخصاً تتجاوز أعمارهم الخمسين، من الناحية الوراثية والصحّية، وكجزءٍ من هذه الدراسةِ، طُرحت ثلاثة أسئلةٍ محدّدةٍ، يمكنها أن تقيس الشعور بالوحدة، رغمَ أنَّ هذه الأسئلة لمْ تستخدمْ كلمة " وحيد"، وكانت كالتالي:

• هل تشعر غالباً بنقصٍ في علاقات الصداقة والصحبة؟

• هل تشعر غالباً أنّك مهملٌ أو مُستبعد؟

• هل تشعر غالباً أنّك منعزلٌ عن الآخرين؟

وبناء ً على ذلك قدّمت الدراسة بياناتٍ صُنّفت حسب الجنس والعمر والحالة الاجتماعيةِ، فالأشخاص المتزوّجون مثلاً أظهروا أنّهم أقلُّ شعوراً بالوحدة من غير المتزوّجين بنسبةٍ بسيطةٍ، وبنتيجة البحث وجد الفريق العلميُّ ما يلي: الوحدة، والميل للشعور بها مدى الحياة لا يتعلّقُ بالظروف المحيطة فقط، بل هناك نسبة 27- 32% تتعلّق بالوراثة، وهذا الرقم الجديد لا يتطابق مع السابق (37-55%)، أمّا تعليل هذا الاختلاف، فيعود إلى أنّ الفريقَ البحثيّ اعتمد تقنيات الدراسة الجينية بوساطة الرقاقات التي تعتمد على فحص أجزاءٍ وراثيةٍ أصغر، إذْ يمكّنها ذلك من دراسة الاختلافات الوراثية الشائعة، لا النادرة منها.

كما وجد الباحثون أنَّ الوحدة تميل أيضاً لأنْ تكون موروثاً مشتركاً مع التعصاب neuroticism (وهي حالة عاطفية سلبية طويلة الأجل)، وطيف من درجات الاكتئاب، بينما تشيرُ الأدلّة إلى ارتباطٍ أضعفَ بين وراثة الشعور بالوحدة والفصام والاضطراب ثنائي القطب والاضطراب الاكتئابيّ.

وعلى النقيض من الدراسات السابقة، لم يجدِ الباحثون علاقةً بين الشعور بالوحدة واختلافٍ في تركيب جيناتٍ محدّدةٍ كانت مرشّحةً لأنْ تكون المسؤول الوراثيّ عن الشعور بالوحدة، كالمورّثات المسؤولةِ عن بناء الدوبامين والأوكسيتوسين.

وهنا يكمن جوهر الاختلاف بين هذه الدراسة وسابقاتها، ويعود ذلك جزئيّاً إلى أنَّ الفريق أجرى مسحه البحثيَّ على كبار السنّ حصراً في الولايات المتّحدة، في حين ضمّت الدراسات الأخرى مجموعاتٍ أكثر شباباً في أوروبا.

أمّا في الوقت الحاليّ فما زال فريقُ البحث يعمل على إيجاد عاملٍ جينيّ محدّد متغيّر ما، يمكّننا من التنبّؤ بالآليّات الجزيئية الوراثية التي قد تضيف أفقاً جديدةً للتعرّف على مؤثّرات الشعور بالوحدة.

وفي النهاية قد تكون صفاتُ الشخص الانعزالية والميل للبقاء وحيداً، أموراً قد ورثها بالفعل، وليست رغبةً حقيقيّةً بالابتعاد عن المحيط. لكنَّ هذا لا يمنع من البحث في الحالات بشكل فرديّ من قبل أخصائيّين قادرين على مساعدتنا في الخروج من هذا النفق المظلم.

المصدر: هنا

الورقة البحثية: هنا