الفيزياء والفلك > فلسفة الفيزياء والكونيات

لماذا يحتاج ميكانيك الكم إلى تعديل؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

تُشبهُ النّقاشاتُ في ميكانيكِ الكمِ، نقاشاتِ الأحزابِ السّياسيّة. ينحازُ بعض النّاخبين نحوَ أحزابٍ معيّنةٍ، ويبدأون نقاشاتٍ لا نهايّة لها. في حين يلزمُ آخرون منازلَهم ويقبلون بالواقِعِ السّياسيِ كما هو.

كذلك الأمرُ بالنّسبةِ للفيزيائيين، بعضُهم يقبلُ ميكانيكَ الكمِ كَما هي، ويستعملُها في حساباتِه؛ والبعض الآخر، ينحازُ إلى وُجهاتِ نظرٍ أُخرى حولَ ميكانيك الكمِ، وينخرط في نقاشاتٍ فيزيائيّةٍ لا نهاية لها، مع العُلماء الآخرين، حول قُدرة ميكانيكِ الكمِ على توصيفِ الواقع.

أما الفيزيائي النظري ستيفن واينبرغ ،الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء 1979)، فقد كان في السّابق، أحد العُلماءَ المُتقبلين لميكانيكِ الكمِ، ولم يُبالي كثيراً بالنّقاشاتِ حولَها. لكن مع كثرةِ التّفكيرِ بها على مرّ السنينِ، ومع اقترابِ عُمرِه من الثالثة والثمانين؛ قام هذا العالِم بإعادةِ النّظر في أفكارهِ. فأعلنَ موقفاً جديداً في أحد المُؤتمراتِ،إذ صرّح: " أنا لستُ واثقاً اليوم، بأنني سعيدٌ بميكانيكِ الكمِ، كَما كُنتُ سابِقاً، لكنّي لستُ رافضاً لها أيضاً كباقي النُّقاد."

ظنَّ واينبرغ أنه لا بدَّ من كتابةِ فصلٍ جديدٍ لقصّة ميكانيكِ الكمِ؛ لأن العُلماء المُتفقين على أن ميكانيك الكم لا يشكوا من أية مشاكل، هم أنفُسهم، لا يتفقون دائماً عندما يدخلون في مُناظراتٍ حولَها.

تثيرُ ميكانيكُ الكمِ الرّعبَ لدى المُبتدئين، فقد أظهرَ فيزيائيون في القرنِ الماضي (مثل ألبرت أينشتاين وماكس بلانك ونيلز بور) أنّ فيزياءَ القرنِ التّاسع عشر، لا يُمكنُها أن تفسّرَ بعضَ الظّواهرَ، مثلَ الحرارة والضّوء والذّرات.

وفي عام 1920، قام فيزيائيون آخرون (مثل وورنر هايزنبرغ وإيروين شرودنغر وبول ديراك وماك بورن)، بوضع أساسٍ رياضيٍ كاملٍ لميكانيك الكمِ؛ وهو الأساسُ الذي نعتمد عليهِ اليومَ لفهمِ كلّ شيءٍ تقريباً.

يقول واينبرغ "لا تشكّل ميكانيكُ الكمِ أساسَ فهمنا للذّرة فقط، بل أيضاً، أساس فهمِنا لنواةِ الذّرّةِ، وناقليّةِ الالكترونات والمغناطيسيّةِ، والإشعاعِ الكهرومغناطيسي وأنصافِ النّواقِل، والنّواقل الفائقة ونجومِ الأقزامِ البيضاء، والنّجوم النّيوترونيّة، والقوى النّوويّة والجُّسيمات الأوليّة."

لكنَّ روعةَ النّظريّة الكمِوميّة يُقابلها ثمنٌ غالٍ، إذ تتطلب القبول بتكهناتٍ غريبةٍ حول الواقع؛ الأمر الّذي رفضَهُ العديد من الفيزيائيين، حتّى بعضُ الرّواد، مثلَ أينشتاين وشرودنغر.

أحد الاعتراضاتِ الهامةِ، هي رفضُ ميكانيكِ الكمِ لـ (الحتميّة النّيوتونيّة)، أي الاعتقادُ الذي يقضي بأنَّ كلَّ الأحداثِ يمكنُ التنبؤ بها مُسبقاً، إذا قُمنا بدراسةِ الظّروفِ التّي أدت لحدوثِها. يُمكنك مثلاً، أن تحسُب بدقّة أين ستحطُّ كُرة البيسبول، إذا كُنتَ تعرفُ سُرعتَها واتجاهَها، عندما ضَربَها اللّاعبُ بالمضرب.

لكن الأمر مُختلف مِن وجهة نظر ميكانيكا الكمِ، فهي تستخدِم لُغةَ الاحتمالاتِ في تَوصيفِ الواقِع. مثلا، عندما يتحرّكُ الإلكترون حولَ النّواةِ، لا يمكن التّنبؤُ تماماً، بالاتّجاهِ الذي سيسلُكُه. لأن ميكانيكا الكمِ، تسمحُ لكَ فقط بوضعِ الاحتمالات، إن كانَ سيسلُك هذا الاتّجاه أو غيره.

توجد صيغة رياضيّة، تدعى (التابِع الموجي)، تشرحُ لنا كيفَ نحسبُ المكان المُحتمل للإلكترون. فإن أردت تحديد مكان إلكترون ما، فإنك على الأرجح، ستجده في المناطقِ التّي تكونُ فيها الموجةُ في قمّتها. وعند تكرار التّجارب مراراً، ستجدُ أنّها تنسجمُ تماماً مع الصّيغِ الرّياضيّة الكموميّة.

اعترضَ أينشتاينُ على هذا الكلامِ. كما أنه اعترضَ على مفهومٍ آخرٍ في ميكانيك الكمِ، يقضي بأنَ الجُّسيماتِ التّي تولدُ مع بعضِها ثم تنفصلُ لاحقاً، تبقى مرتبطة مع بعضها البعض، مهما ابتعدت عن بعضها البعض. إذ يمكن لفوتونين نشآ من ذرّةٍ واحدةٍ، أن يبتعِدا عن بعضِهما، لكنّهما سيتشاركانِ نفسَ التّوصيفِ الكُمومي. أي أنّ قياسَ أحدِهما، سيُظهِرُ معلوماتٍ عن الآخر، بغضِّ النّظر عنِ المسافة التّي تفصِلُ بينَهُما.

تندرِجُ محاولات العُلماء لتفسيرِ هذه الظّواهر إلى فئتين، وهما حسب واينبرغ: "المذهب الذرائعي" و " المذهب الواقعي". يعتقد مؤيّدو المذهب الذرائعيّ، أنّ تابِعُ الموجةِ هو مجرّد أداة لحسابِ نتائج التّجارب؛ في حينِ يعتقد أنصار المذهب الواقعيّ، أن تابعُ المَوجةِ هو أمرٌ حقيقيٌ موجودٌ في الواقع، وهو الأساسُ الجّوهريُّ لكلِّ الأحداثِ التّي تحصُل في الواقِع.

لم تُعجب فِكرةُ المذهب الذرائعي العالِم واينبرغ، فبحسب قوله: "من البشع جداً، أن نتخيّلَ بأنّنا لا نعرفُ شيئاً أبداً عن الواقع، إلا بواسطةِ القياسات. إن هذا المذهب ببساطة، يقضي بأننا لا نعرفُ أيّ شيءٍ عمّا يحصل في الواقع."

في حينِ أن فِكرة المذهب الواقعي، في المُقابل، تشرح لنا ماذا يحصلُ في الواقع، لكن بطريقةٍ غايةٍ في التّعقيد؛ فهي تقضي بوجود أعدادٍ غيرِ منتهية، من التيّارات المُستقلةِ من الواقِع (عدّة أزمنة). يقول واينبرغ: "كل شيءٍ في الواقع يحصلُ وفق تابعِ الموجةِ، الذي يتناغمُ مع الزّمن بشكلٍ تام، لكن بطريقةٍ غايّةٍ في التّعقيد". تعتقد الواقعيّة، أن النّتائج المُحتملةِ للعمليّاتِ الكمِوميّة، تحصلُ في عدّة تيّرات من الزّمن، ولكنّنا لا نُدركُ هذه التيّارات الزّمنيّة الأخرى.

لكن واينبرغ يفضّلُ الواقعَ الذي فيهِ زمنٌ واحد. وبعيداً عن فِكرة تعدّد التيّارات الزّمنيّة، فإنّ مفهومَ الواقعيّةِ، لا يفسّرُ سببَ انسجامِ نتائجِ التّجارب مع الاحتمالاتِ الكموميّة. فلو كانَ كلُّ شيءٍ يحصُلُ ضمنَ عدّةِ تيارات زمانيّةٍ فعلاً ، فإنّهُ لا يوجدُ سببٌ معينٌ يجعلُ الاحتمالاتِ الكمِوميّةِ تنطبقُ على مَجرىً زمنيٍ دونَ الآخر.

لذلك يظنُّ واينبرغ، أنّه لا بدَّ من وجودِ نظريّةٍ أخرى أشمل وأعمق من النّظريّةِ الكُموميّة. نظريّةٌ تفسرُ جوهرَ هذه الاحتمالات، بدلاً من أن تطلبَ من الإنسانِ أن يقومَ بعدةِ قياساتٍ من أجلِ الحُصولِ على عدّة احتمالات. وعلى الرّغم من جهود العديد من العُلماء، الذّين يسعونَ لوضعِ نظريّةٍ كموميّةٍ شاملةٍ؛ إلا أنّنا حتّى اليوم لم نتوصل بعد إلى النّظريّة المنشودة.

ربّما يأتي ذلكَ اليومُ الذي نستبدلُ بهِ النّظريّةَ الكمِوميّةَ الحاليّة بنظرية أخرى، وربّما لا. يقول واينبرغ "ربّما تكمن المُشكلة فينا نحن، لأنّنا نُعبرُ عن هذه النّظريّة بطريقةٍ سيئة؛ فقد تكون صحيحة بالفعل."

ربّما تنتظرُنا مفاجأةٌ ما:

يقولُ واينبرغ "رُبّما يوجدُ فِكرةٌ ثالثةٌ، فِكرةٌ مختلفةٌ تماماً، ستسببُ ثورةً علميّةً جديدةً، كما فعلَت ميكانيكُ الكمِ مع الفيزياءِ الكلاسيكيّة! ربّما تولد هذه الفِكرةُ غداً صباحاً، في ورقةٍ بحثيّة جديدة."

لكن واينبرغ يخشى على الأفكارِ الفيزيائيّةِ الجديدةِ من سوءِ التّقييم، بسبب تعارضِها مع التّياراتِ الفلسفيّةِ الحاليّة، مثلما كانَت فِكرةُ الجاذبيّة مرفوضةً عندما طرحها نيوتُن بسببِ تعارضِها مع الاتّجاهاتِ الفلسفيّةِ السائدةِ في عصرهِ.

عندما طُرحَت نظريّة نيوتُن، لم تلقَ رواجاً بين زُملائهِ المُعاصرين. فالجاذبيّة النّيوتونيّة تدعمُ فِكرةَ التّأثيرِ عن بعد؛ إذ يُمكن دفعُ الكواكِبِ في مداراتِها دونَ الحاجةِ إلى شيءٍ ما يلمسُها ليدفَعَها. الأمر الّذي اعتبره العلماء في ذلك الوقتِ، إقحاماً لمفاهيمٍ غريبةٍ في العِلم.

لقد كانَتّ قوة الجاذبيّة شيئاً غريباً، لا يُمكن استخلاصُه من المفاهيمِ الفلسفيّةِ السّائدة في ذلك الوقت. لهذا رفضُها العُلماء الذين توارثوا أفكارَ الفيلسوف ليبنتز Leibniz، وديكارت.

لكن مع مرورِ الوقت، أثبتت نظريّة نيوتُن نجاحاً مُذهلاً. وكذلك ميكانيك الكمِ اليوم يحققُ الكثير من النّجاحات المُذهلة.

يختتم واينبرغ "مع نهايّة القرن الثامن العشر أصبح واضحاً للجميعِ أنّ نظريّة نيوتُن صحيحة، على الأقل دقيقة بشكلٍ كبيرٍ، إن هذا يعلّمُنا درساً مهماً بعدم رفض الأفكار الفيزيائيّة الجديدة بسبب تعارضِها مع مفاهيم فلسفيّة قد لا تكونُ موجودةً في الواقع، بل علينا المُضيّ بالأفكارِ الفيزيائيّةِ الجديدةِ لنرى إلى أين ستصلُنا ونرى إذا ما كان علينا أن نغيّر من مبادئنا الفلسفيّة أولاً.

المصدر: هنا