البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة

التدخين يترك بصمته في حمضك النووي!

استمع على ساوندكلاود 🎧

يعلم الجميع مضار التّدخين وآثاره السلبيّة على الصّحّة، فهو السّبب الأوّل في إحداث سرطان الرّئة لدى البشر، إلى جانب العديد من الآثار السّيّئة على الصّحّة الفمويّة، فالتّدخين يسبّب اصفرار الأسنان ورائحة الفم الكريهة، كما أنّ النّيكوتين هو أحد الموادّ الّتي تسبّب الإدمان وتجعل الإقلاع عنه أمراً صعباً، لقراءة المزيد عن أضرار التّدخين بالصّحة الفمويّة وامتصاص الفيتامينات راجع مقالاتنا السّابقة هنا

هنا

والآن ماذا إن قلنا لك عزيزي القارئ إنّ تأثيرات التّدخين لا تتوقف بمجرّد الإقلاع عنه، وإنّما يدوم بقاؤها مدّةً طويلةً في الجسم على شكل تبدّلات في الحمض النّوويّ الخاصّ بك.

توصّلت آخر الأبحاث المنشورة في جريدة مؤسسة القلب الأمريكيّة إلى اكتشاف وجود تغيّر يطرأ على الحمض النّووي للشّخص المدخّن على شكل متيلة* methylation ويبدو هذا التبدّل في الحمض النّووي علامةً هامّةً توجّه إلى وجود سوابق وتاريخ لهذا الشّخص مع الإدمان على التّدخين، كما أنّها من الممكن أن تقود الباحثين إلى علاجات جديدة.

تقول ستيفاني جي Stephanie J ،من لندن-طبيبة وأحد المعدّين لهذه الورقة البحثيّة وحائزة على شهادة دكتوراه ونائب مدير المعهد المحلّيّ لعلوم الصّحّة البيئيّة- :"تأتي هذه النّتائج على قدر عالٍ من الأهميّة لأنّ المتيلة، الّتي هي إحدى الآليّات الأساسيّة المسؤولة عن التّعبير عن الجينات وتركيب البروتينات، تؤثّر على ماهيّة الجينات، وعلى تنظيم نتائج ما ستُترجم إليه، وتُعدّ بذلك متّهمة رئيسة في حدوث الأمراض المرتبطة بالتّدخين، وضمن النّتائج التي توصّلنا إليها كان من الجدير بالذّكر أنّه حتى بعد مضيّ زمن طويل على توقّف الشّخص عن التّدخين، فإنّنا نستطيع رؤية آثار تدلّ على سوابقه في التّدخين من خلال فحص حمضه النّووي.

ما زال التّدخين أحد أهمّ العوامل المكتسبة المسبّبة للوفاة حول العالم، ولكن من حسن الحظّ أنّ التّدخين أمر يمكن التّخلص منه، وبالتّالي فمن الممكن خفض حدوث الوفيّات المترتّبة على ذلك، على الرّغم من انخفاض مستوى التّدخين في كثير من الدّول نتيجةَ انتشار حملات التّشجيع على الإقلاع عن التّدخين، وبعض التّشريعات والقوانين التي تسنّها الحكومات ضد التّدخين.

بالنّسبة للمدخّنين السّابقين فمن الممكن القول إنّه حتّى بعد مرور عقودٍ من التوقّف عن التّدخين هم معرّضون للإصابة بأمراض طويلة الأمد، مثل السّرطان والأمراض الرّئويّة الانسداديّة المزمنة COPD والسّكتات الّدماغيّة. ولكن للأسف لا تزال الآليّة الجزيئيّة الكامنة وراء حدوث الآثار طويلة المدى غير مفهومة بشكل واضح تماماً.

وهنا من الجدير بالذّكر أنّ الدّراسات السّابقة الّتي تربط بين مواقع متيلة الحمض النّوويّ والجينات المسؤولة عن التّسبّب بأمراض القلب الإكليليّة، والأمراض الرئويّة تقترح أنّ للمتيلة دوراً كبيراً في إحداث تلك الأضرار.

كيف قام العلماء بالبحث؟

قام الباحثون بإجراء تحليل مكثّف meta analysis على مواقع متيلة الحمض النّوويّ ضمن الجينوم الخاص ب16000 مشارك، باستخدام عيّنات دم مأخوذ منهم، وكان هؤلاء المشاركون ينتمون إلى 16 مجموعة من جمعيّة "حشود من أجل أبحاث القلب والتّقدم في السّنّ في الوبائيّات الجينيّة (CHARGE)" بالإضافة إلى مجموعة من مركز دراسات فرامنغهام للقلب، الّتي تمّت تابعها الباحثون منذ عام 1971.

ثمّ أجرى الباحثون مقارنةً بين مواقع المتيلة الخاصّة بالحمض النّوويّ ضمن المدخّنين الحاليّين والمدخّنين السّابقين من جهة، وأولئك الّذين لم يدخنوا مسبقاً على الإطلاق من جهة أخرى .

وتوصّلوا إلى النّتائج التّالية:

إنّ مواقع متيلة الحمض النّوويّ المرتبطة بعمليّة التّدخين، الّتي كشفت عنها تقنيّات البحث كانت مرتبطة بأكثر من 7000 جين، أو ما يُقدّر بحوالي ثلث الجينات البشريّة المعروفة.

بالنّسبة للأشخاص الّذين أقلعوا عن التّدخين، فإنّ القسم الأكبر من مواقع المتيلة في حمضهم النّوويّ عادت للظهور بمستويات قابلة للكشف خلال خمس سنوات من الإقلاع.

توجد بعض مواقع متيلة الحمض النّوويّ الّتي استمرّت بالظّهور حتّى بعد مرور 30 عاماً من الإقلاع.

إنّ أكثر مواقع متيلة الحمض النووي أهميّةً من النّاحية الإحصائيّة، تلك الّتي كانت مرتبطة بجينات تلعب دوراً بارزاً بعلاقتها مع أمراض عديدة ناجمة عن التّدخين مثل أمراض القلب والأوعية الدّمويّة، بالإضافة إلى بعض أنواع السّرطان.

يقترح الباحثون أنّ بعض مواقع متيلة الحمض النّوويّ ذات الأثر المديد تشير إلى الجينات الّتي قد تكون ذات أهميّة عظيمة لدى المدخّنين السّابقين، الذّين لا يزالون تحت خطر متزايد للإصابة بأمراض معيّنة.

إنّ اكتشاف مواقع متيلة الحمض النّوويّ المرتبطة بالتّدخين يحسّن من قدرة العلماء على تطوير واسمات حيويّة (biological markers) يتمكّن الأطبّاء من خلالها من تقييم تاريخ المريض الطّبّيّ المرتبط بالتّدخين، بالإضافة إلى إمكانيّة تركيب أدوية نوعيّة تستهدف مواقع المتيلة تلك، وتتمكّن من إجراء اللّازم لتعديلها وبالتالي تعديل الآثار النّاجمة عنها.

لم يكن التّحليل الرئيس مصمّماً ليختبر الآثار على مدى مدّة طويلة من الزّمن، وقد لاحظ الفاحصون أنّ هذه النّتيجة الّتي توصّلوا إليها في الدّراسة تمثّل أفضل فحصٍ يمكن أن يصلوا إليه، يوضّح آثار التّدخين على متيلة الحمض النّوويّ.

يقول روبي جويهانس Roby Joehanes المعدّ الأوّل لهذه الدّراسة، ومرشد في كليّة هارفرد للطّبّ في بوستن ماساتشوستس: "إنّ دراستنا هذه تشير إلى أنّ التّدخين لزمنٍ طويلٍ له آثار طويلة الأمد على الآليّات الجزيئيّة في أجسامنا، وقد يدوم هذا الأثر أكثر من 30 عاماً.

لكنّ الأخبار الجيّدة هي أنّه حالما يقوم الشّخص بالتّوقّف عن التّدخين، فإنّ معظم العمليّات والإشارات الّتي تحرّض عمليّة متيلة الحمض النّوويّ تعود إلى المستويات الّتي نجدها عند الشخص الّذي لا يدخّن أبداً بعد مرور 5 سنوات عن الإقلاع.

هكذا نرى أنّ التّدخين فعلاً يتخطّى جميع الحواجز في جسد الإنسان ليترك بصمته حتى في الحمض النّوويّ الخاصّ بالمدخّن دون أيّ رادع، ولكن بالمقابل يسعى العلماء جاهدين لمحاربة هذه البصمة.

لا يزال العلم يكشف لنا كلّ يوم معلومات جديدة عن التّدخين، والآليّات التي يسبّب من خلالها الضّرر لأجسامنا، وسيقدّم العلم المزيد في المستقبل، ولكن عزيزي القارئ هل تظن أنّه من الممكن أن يكون للتّدخين أيّ أثر إيجابيّ؟ شاركنا رأيك وتابع المقالات القادمة.

*متيلة الحمض النّوويّ هي آليّة جينيّة تحدث ضمن الخليّة بإضافة مجموعة جذر ميتيل (CH3) إلى سلسلة الـ DNA.

المصادر:

هنا

هنا