التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية

البيت العربي في حلب... 1- مقدمة عن البيت العربي وأقسامه

استمع على ساوندكلاود 🎧

لعب البيت العربيُّ لدى العائلات الشرقية دوراً مهماً في حياة الفرد في نواحٍ عديدة وإلى فترة غير بعيدةٍ من القرن الماضي، فهو بالنسبة للمواطن الشرقي مرفأُ الأمان والراحة والاستقرار، كما أنه يخلق جواً من الألفة ويعزز المحبة والرابطة الأسريةَ بين أفراد العائلة.

ولعلَّ سرَّ هذه المشاعرِ الإيجابيةِ التي يولِّدها البيتُ العربي يكمن في نمط بنائه وتخطيطِه، فهو يتكون من نموذج بناءٍ منفتحٍ نحو الداخل ومنغلقٍ نحو الخارج، ويمثل صحن الدار أساسَ هذه الفكرة وروحَها، وإذا أردنا البحث في أصل هذا النموذج من البيوت لرأيناه شائعاً في الشرق منذ زمن طويل، فقد ظهر بشكل بدائي في العصر الحجري الحديث كما وجدنا في قرية بقرص، فكان على شكل باحة صغيرة تتوزع حولها الغرف ثم أصبح أكثر وضوحاً وتنظيماً في عصر أوروك، ليتركز نمطاً من العمارة ساد في بلاد الشام وبخاصة في الأطراف الشمالية والغربية خلال عصري البرونز المتأخر والحديد وعُرف ببيت حيلاني.

يتألف بيت حيلاني من قسمَين أساسيين :

قسمٌ خارجي فيه شرفةٌ أمام المدخل وغرفٌ على جانبيها.

وقسم داخلي يحوي باحةً مستطيلة كبيرة تحيط بها الغرف.

تشترك جميع البيوت العربية بنمط عمارة موحد فهي، تنقسم إلى قسمين غالباً أحدهما خاصٌ ويسمى (الحرملك) وهي كلمة تركية معناها نسوي، وثانيهما للضيوف ويسمى (السلاملك) وهي أيضاً كلمة تركية معناها موضع السلام ، وفي بعض الأحيان نجد قسماً خاصاً بالخدم (الخدملك).

وللبيوت العربية عناصرُ معماريةٌ خاصة وهي:

صحن الدار (الفناء الداخلي) - الإيوان - قاعة أو غرفة الاستقبال.

1- صحن الدار (الفناء الداخلي):

يمثل صحنُ الدار نواةَ البيت العربي حيث تصطف حوله الغرف في طابق واحد أو طابقين ولا يمكن للمرء الدخول لغرف البيت إلا عبر الصحن، وهذا ما يضمن خصوصيةَ ساكني البيت.

وصحن الدار مكشوفٌ يسمح برؤية كل أرجاء السماء، وله وظيفتان الأولى توزيعية حيث يتم الانتقال منه إلى الغرف، والثانية تجميعية يلتقي فيه مساءً كل أفراد العائلة مع المحافظة على الخصوصية والحرمة وهما أمران لهما شأن كبير في المجتمعات الشرقية، كما تزرع فيه غالباً أشجار البرتقال والليمون والنارنج والياسمين لتعبق فيه رائحةُ أزهارها مما يعطي للمرء جواً من الراحة بعيداً عن جو المدينة .

يؤمّن الصحن أكبرَ قدر من المساحة السطحية الضرورية لإشعاع الحرارة خاصةً في الليل، ويتسبب في إدخال الهواء البارد ليلاً إلى قلب الغرف ولهذا يكون البيت في هذه الحالة مثلَ أي مبردٍ جيد التصميم حيث تتعرض أكبر مساحة من سطحه الخارجي للتبريد بفعل الهواء كما أنه يوفر الضوءَ نهاراً ويمد المنزل من الداخل بالإنارة الطبيعية فلا يكون هناك حاجة لوجود نوافذ في الجدران الخارجية .

ومن المميزات المهمةِ لصحن الدار وجودُ بركة الماء في وسطه تؤمن الترطيب للجو، ويعطي صوتُ خرير الماءِ فيها راحةً نفسيةً وشعوراً بالتفاؤل للجالسين في الصحن، وغالباً ما تكون البركةُ مستديرةً أو مضلعةً، ونجد السلسبيل (المصب) في بعض البيوت بدلاً من البركة، وهو عبارة عن لوح مرمري مزين بشقوف رخامية مجزعة يسيلُ من أعلاه الماءُ على صفحة هذا اللوح المحاطِ بإطار وقاعدةٍ مزخرفين .

2- الإيوان:

الإيوان عبارة عن قاعة مرتفعةِ السقفِ محاطةٍ بثلاثة جدرانٍ يتجاوز ارتفاع سقفها طابقين، وبذلك تتسامى فوق كل واجهاتِ صحن البيت وتلفت إليها كل من هم في الصحن، ترتفع أرضيتُه عن سوية أرضيةِ الصحن بحوالي /40/سم، ويستعان بدرجة من الحجر للصعود إليه، ويستريح فيه أهل البيت صيفاً بعيداً عن أشعة الشمس مطلين على كامل الصحن.

والإيوان جزءٌ من طراز البناء العربي الإسلامي في سورية منذ القرن الثاني عشر، ولا يقتصر على بيوت السكن فقط بل نجده أيضا في الأبنية العامة مثل الجوامع والمدارس والبيمارستانات وتكمن فائدته في كونه يقي الإنسانَ من حرارة الشمس اللاهبةِ وفي الوقت نفسه يشكّل مصداً للرياح .

3- قاعة الاستقبال:

يعتبر إكرامُ الضيفِ من العادات المتأصلة لدى الإنسانِ العربي الذي يؤمن كل وسائل الراحةِ والرفاهية لضيفه ويقوم بواجبات الضيافة على أكمل وجه محاولاً من خلال ذلك إثباتَ مكانتِه الاجتماعية، لهذا نجد في البيوت العربية غرفَ استقبال فخمة تتألف من عتبة مبلطة بالرخام تشكل القسمَ المنخفضَ من الغرفة، ومن الطراز ( وهو القسمُ العالي المخصصُ للجلوس والمفروش بالسجاجيد ويحيط بالعتبة على شكل حرف /U/ ) ، ويستريح الضيفُ على الديوان وهو مقعد خشبيٌّ قليلُ الارتفاعِ مغطى بوسائدَ ومخداتٍ ويحيط بالطراز من ثلاث جهاتٍ .

لا تختلف غرفة الاستقبال عن بقية الغرف إلا من حيثُ الأثاثُ، لكن لدى بعض الأسر الغنية نجد غرفة شُيِّدت خصيصاً لغرض الاستقبال، وتتمتع بمزايا عمرانيةٍ خاصةٍ تجعلها مختلفةً عن بقية الغرف وتعرف باسم القاعة، وهي عبارة عن بناء مستطيلٍ مسقوفٍ بقبة كبيرة يدخل إليها من صحن البيت وتقيمُ فيها الأسرة أغلبَ أوقاتها، ويلجؤون إليها مع ضيوفهم في الأيام الحارة أو الماطرة أي في الأيام التي لا تسمحُ باستخدام الإيوان، ويتجاوز ارتفاعُها بناءَ طابقين وبسبب وجود القبة فإنها تتميز عن غرفة الاستقبال وتشكل الجزءَ الأكثر لفتاً للانتباه .

تتوضع القبة فوق منطقة العتبةِ وتجمع أطرافَ القاعة حولها، أما العتبةُ فتكون مبلطةً بالرخام على شكل فسيفساءَ تحتلُّ وسطَها الفسقية، وهي بركةٌ صغيرة قطرُها مترٌ إما أن تكون مرتفعةً أو منخفضةً وتصنع من الرخامِ المشقف أو من الفسيفساء الرخاميِّ الهندسي، وتكون أطرافُ القاعة مزينةً بأقواس تفصلها عن العتبة ، وأحيانا يكون سقفها على شكل حقولٍ مستطيلة، ويشبه مخططُ القاعة بشكل عام حرفَ /T/ وتمثل نموذجاً مصغراً عن صحن الدار ، وتمتاز غالباً بخشبياتها وزخارفها الرخاميةِ المتقنة .

البيت العربي في حلب:

تكيفت منشآتُ حلب العمرانية بشكل عامٍ مع الظروف المناخية للمنطقة، حيث تقع حلب في الإقليم المناخي المتوسطي الشرقي شبه الجاف ، فنرى هذه المنشآت مبنية وفق أساليبَ معماريةٍ تضمن بقاءَ درجة الحرارة داخلها باردةً في ساعات النهار ودافئةً في الليل، فنجد أن الجدران والأسقف سميكةً كما أن الأزقة والشوارع الضيقةَ تفيد في تخفيف وهجِ الشمس أيضاً.

وتتميز حلبُ بتوفر الحجر الكلسيِّ فيها، فصخورُ المنطقة تتكون جيولوجياً من الكلس في أغلبِها، وقد أكسب استخدامُ هذا النوع من الأحجار الأبنيةَ جمالاً وقدرةً على مقاومة عواملِ الزمن، وما تزال الأبنيةُ في حلب تُكسى بالأحجار الكلسية ولعلَّ لونَ هذه الأحجار المائلِ إلى الأشهبِ أكسبَ حلب لقبَها المشهورَ بالشهباء .

تعود معظم البيوتِ العربية التراثية الباقيةِ في حلب إلى العصر العثماني وتحديداً الفترة الواقعة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر ، ونجدها في المدينة القديمة لا سيما في أحياء الجلوم والفرافرة داخل الأسوارِ وحيِّ الجديدة خارجها.

يرتبط حجمُ البيتِ واتساعُه بالوضع المادي للسكان، وبناءً عليه نجد بيوتاً بسيطة تحوي صحونها غرفاً قليلةً على طرفٍ واحد أو طرفين، في حين أن البيوت الكبيرة تحيط الغرف بصحونها من ثلاث جهات ومعظمها مشيدةٌ على طابقين ونجد قسماً منها تحتَ الأرض على شكل أقبيةٍ، و لبعض البيوت صحن مستقل للتخديم.

تبلغ مساحة معظمِ البيوت الكبيرة التي تشبه القصورَ وسطياً /900/م2 .

وقد صنف الأخوان راسل بيوتَ السكن في حلب إلى ثلاثِ فئاتٍ:

- الأولى السرايات أو القصور

- والثانية بيوت التجار الأغنياء

- والثالثة بيوت الطبقة المتوسطة والناس العاديين.

فالسرايات كانت مخصصة لسكن كبارِ موظفي الدولة والولاةِ السابقين كالسرايا الحكومية أمام القلعة، أما بيوتُ التجار فيصفها الأخوان راسل:

"نادراً ما يكون في بيوت التجارِ باحةً غيرَ مرصوفةٍ ويكون المدخل من الزقاق مباشرة بوساطة بابٍ كبير وتكون الشققُ الخارجية صغيرةً ذات تأسيسٍ بسيط وأنيق ، وتستخدم لاستقبال الزوارِ والأقارب فقط في الصباح أو عندَ المساء وفي مناسبات خاصةٍ جداً يمكن استخدامُ الحرملك هنا للغاية ذاتِها".

وقسم الإخوان راسل البيوتَ إلى حرملكَ وسلاملكَ حيث إن بيوت التجار المسلمين كانت تتألف غالباً من باحتين.

أما بيوت المسلمين متوسطي الدخلِ فيذكران بأنها كانت تحوي باحةً واحدةً ولا يوجد في الكثير منها قاعةَ استقبالٍ ولكنها تحوي إيواناً وحديقة وبركةَ ماء، ولا تختلف بيوت السكان الأشدُّ فقراً كثيراً عن بيوت متوسطي الدخل ونادراً ما تكون دونَ إيوان ويوجد فيها على الأقل بضعُ شجيراتٍ مزروعةً في الباحة وتكون غرفُها مطليةٌ بصورةٍ سيئة.

أما بيوت المسيحيين من الأغنياء فتتألف من باحة واحدة تشبه الحرملك في بيوت التجار المسلمين، ويوجد في بيوت عددٍ قليل جداً منهم باحةٌ خارجية أو مكان منفصل للنساء، ولا تختلف المداخل عن بعضها، إلا أنه للكثير من البيوت القديمة بابٌ منخفض وصغير جداً لا يتناسب مع البهاء والعظمة اللذان يشاهدان غالباً في داخل البيوت لأن الكثير من تلك البيوت رحبةٌ وفيها حجراتٌ جميلةٌ تدل على ثراء ، ولا تختلف بيوت السكان الفقراء تبعاً لعناصر النسيج السكاني في المدينة عن بعضها البعض .

لم يوجد في البيوت العربية في حلب وظائف محددة لكل غرفة باستثناء المطبخ والحمام، فغرفة المعيشة يمكن أن تستخدم للنوم، والمعروف في سورية أن الغرف تستخدم حسب فصول السنة، فالقسم المستخدم في الصيف يطلق عليه اسم مصيف والقسم المستخدم في الشتاء يطلق عليه اسم مشتى، فالحياة إذا تخضع لاعتبارات الطقس، ويتم اختيار الغرفِ المناسبة لحالة الجو في الصيف و الشتاء .

بُنِيَت البيوتُ في حلب في شوارعَ ضيقةٍ على شكل أحياءٍ مغلقة كانت توصد بواباتها ليلاً وتُحرس، مثل بوابة القصب وبوابة الياسمين في حي الجديدة، وكانت جدرانُ البيوت عاليةً بغرض زيادةِ عامل الأمان.

ويوجد في حلب عددٌ كبيرٌ من هذه البيوت بعضُها معروف والبعض الآخرُ ما يزال غائباً في كثافة النسيج العمراني للمدينة القديمة.

سنتعرف في الأجزاء التالية على نماذجَ من البيوت العربية في حي الجديدة.

وتتقدم مبادرة الباحثون السوريون بالشكر للإستاذ أحمد خربوطلي لإسهامه الفريد في مساعدتنا في إنجاز هذا البحث.

المراجع:

1- راسل : الكسندر و باتريك ، تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر – المجلد الأول.

2- شعث : شوقي ، حلب تاريخها و معالمها التاريخية . جامعة حلب : ١٩٩١ .

3- حجار : عبد الله ، معالم حلب الأثرية ، طبعة ثانية فريدة ومنقحة - مطابع مؤسسة جورج و متيلد سالم الخيرية : 1997.

4- بهنسي : عفيف ، الشام الحضارة ، وزارة الثقافة. دمشق : 1986.

5- طلس : محمد أسعد ، الآثار الإسلامية و التاريخية في حلب ، مديرية الآثار العامة في سورية . ط : ١٩٥٦ .

6-جودت : نتاليا ، المباني السكنية الأثرية و إعادة توظيفها في مدينة حلب – بحث أعد نيل شهادة الدبلوم - جامعة حلب ، كلية الهندسة المعمارية : 1999/2000.

7- عثمان : نجوى ، العمارة الإسلامية في آسية الصغرى ، محاضرة في جامعة حلب قسم الآثار : ٢٠٠٥ / ٢٠٠٦ .

8- غونيلا : يوليا ، حلب في القرن السابع عشر (البيت الحلبي ) – ترجمة محمد وحيد خياطة ، شام للخدمات الطباعية : حلب .

المراجع الأجنبية :

1- Ross Borns-MONUMENT Of SYRIA an historical guide-London- 1994.

2- ALEP-J.SAUVAGET- ALBUM – PARIS – 1941.

الدوريات:

1- عبد السلام : عادل ، الموقع الجغرافي لحلب و بيئتها الطبيعية – الحوليات الأثرية العربية السورية – المجلد الثالث والأربعون.

2- عبد الله النعيم : مشاري ، التوافق الوظيفي و الجمالي في البيئة العمرانية – مجلة القافلة العدد الأول - المجلد السادس و الأربعون-الدمام – أيار حزيران : ١٩٩٧ .

3- جونسون : وارن ، المحافظة على التبريد و التدفئة في العمارة الإسلامية – مجلة القافلة ، العدد الثامن – المجلد الخامس و الأربعون الدمام ، كانون الأول 1996- كانون الثاني : ١٩٩٧ .