الرياضيات > الرياضيات

أسرار البشر البدائيين مع الرياضيّات

استمع على ساوندكلاود 🎧

تخيلْ أنك فرد في مجتمعِ الصيدِ و جمعِ الثمار*، تعيش في مكانٍ بعيدٍ في سهول أفريقية الممتدةِ، و معدتُك تتضورُ من الجوع، كيفَ تبدأ البحثَ عن شيءٍ تأكلُه؟

وفقاً لدراسةٍ جديدةٍ هناك احتمالٌ بأنك سوف تستخدمُ أساليبَ البحثِ عن الطعامِ عند القروشِ، و نحلِ العسل، و القردةِ و العنكبوت.

فعند البحث عن الطعام، وجد العلماء أنّ أعدادا مختلفة - بما في ذلك البشر في مجتمع الصيد و جمع الثمار - يتبعون أنماطاً في الحركة معروفةً في الرياضيات وقد وُجدت مراراً وتكراراً في الطبيعة تسمى السيرُ (المشي) الليفيُّ.

وقد سُميت كذلك نسبةً لعالم الرياضياتِ الفرنسي بول ليفي Paul Lévy.

يتميزُ السيرُ الليفي بالعديدِ من التحركاتِ الصغيرةِ المصحوبةِ بعدة ِمسارات ٍطويلةٍ.

كما يمكنُ وصفه على أنّه أحد أنواعِ السير العشوائيِّ، حيث يتم اختيارُ كلِّ خطوةٍ على التوالي بشكلٍ عشوائيٍّ وغير خاضعٍ لنفوذ أي تحركٍ سابق. ويمكنك تخيلُ هذا السير كما لو كان شخص ثملاً يترنح في طريقه، فخطوته نحو اليمين لا تختلف كثيراً عن خطوته نحو اليسار، ولا يتذكر أي شيء عن الطريق الذي سلكه.

إنّ معظم الخطواتِ في السيرِ الليفيِّ تكون ضمنَ مساحةٍ صغيرةٍ، و لكن يتمُ اتخاذُ طرقٍ (مسافات) أطولَ في بعضِ الأحيان.

رياضياً يتميز السير الليفي بخصائصَ إحصائيةٍ حيث الخطواتُ القصيرة أكثرُ حدوثا من الخطوات الطويلةِ بينما تستمر الخطوات الطويلةُ في التكرار.

ويتم تصورُ ذلك من خلال توزيع قانونِ القوة : فمن أجل الخطوة الكبيرةِ ذات الطول L، فإن التواترَ النسبي P(L) للخطوات ذات الطولِ L تتناسب مع \frac{1}{L^{m}} حيث m عددٌ موجبٌ ما، يقع السيرُ الليفي ما بين 1 و 3.

لاحظْ أنه كلما زادت قيمة L أصبحت قيمة P(L) أصغر. وبما أن قيمةَ الأس m لا تزيدُ عن 3، فإن P(L) لا تتلاشى قيمتُها بسرعة كبيرة جداً، ولذا فإن الخطواتِ الأكبرِ تستمر في الحدوث بترددٍ معقول.

في معظم الحالات الواقعية في الحياة فإنّ الخطواتِ الكبيرة للغاية (من شأنها أن تأخذ الكلبَ خارج الحديقة أو الحمولةَ خارج الخلية) لا تحدث على الإطلاق، وهذا ما جعل الناس ينظرون في مثل هذه الحالات إلى توزيعات قانون القوة المقتطعة، التي يكون فيها P(L) = 0 من أجل L ذات قيمة كبيرة جدا.

لقد تم اقتراح أن الأُس m = 2 يعطي الطريقة المثلى للبحث في منطقةٍ ما عن أهدافٍ موزعةٍ بشكل عشوائي ومتناثرة، لكن هناك جدول حول صحةِ هذا الكلام.

كل خطوةٍ من السير الليفي له اتجاه ما بالطبع، فعندما تنظر للنسبة Q(D) من الخطوات تذهبُ باتجاه ٍمعين D، تجد أن هذا العددَ هو نفسُه تقريباً بالنسبة لجميع الاتجاهات: وهذا ما يعني أنّ السير الليفي لا يحبذ اتجاهأ ما على آخر.

يمثل المنحني الأسودُ توزيع قانونِ القوة P(L)=L^{-2} ، والمنحني الأزرق هو التوزيعُ الأسي P(L)=e^{-L} . يمكنك ملاحظة أنّه في حالة القيمِ الأكبر لـ L فإن الانخفاضاتِ السابقة تصبح أكثرُ بطئاً من الأخير، فتوزيع قانون القوة يمتلك ما يسمى "بالذيل الثخين fat tail"

التوزيع الأسي لأحجام الخطوة يصف ما يسمى بالحركة البراونية وهو أقربُ إلى ما ستجده عند مراقبتِك لجسيمات غبارٍ فوضويةٍ تطفو في الهواء بشكلٍ عشوائي. هذا وقد تمّ ربطُ الحركة البراونية مع التوزيعِ الأسي للخطوة بعمليات البحث عن الطعام. وقد زعموا إنها الطريقة الأفضل للبحث عن الطعام عندما يكون هذا الطعام متوافراً بكثرة. وهو ما يبدو كلاماً منطقياً : فعندما يحيط الطعام بك من كل مكان لست بحاجة للاندفاع إلى أي مكان آخر أثناء بحثك عنه.

كلا النوعين من المسارات العشوائية - السير الليفي والحركة البراونية - يمكن محاكاتهما رياضياً على شكل لعبة عشوائية. قبل كل خطوة، قم باختيار اتجاه الخطوة عشوائياً بحيث كل الاتجاهات متشابهة في نفس المساواة. ثم اختر طول الخطوة وفقاً للتوزيع الأسي بالنسبة للحركة البراونية، ووفقاً لتوزيع قانون القوة بالنسبة للسير الليفي.

إنّ هذه الطريقة في النظر إلى الأمور تعطينا رابطاً بين هذين النوعين من الحركات. فقد وجد أن الماشي وفق الحركة البراونية يمكن أن يتحول إلى الماشي وفق الليفية ببساطة عن طريق انحراف الاحتمالات الاتجاهية. إذا بدأت في المشي وفق الحركة البراونية، وإذا كان الماشي كان قد تحرك مسبقاً في الاتجاه D لمسافة ما، عندئذ يجب جعلُ الاحتمالية Q(D) لاختيار اتجاهٍ معين D أكبر - لذا فإنّ Q(D) تكبر مع المسافة التي تم فيها مسبقا السير في الاتجاه D - وبالتالي فإنك تزيد الفرصة لاصطفاف الخطوات المتتالية بالطريقة ذاتها: كلما ازداد طول أو تعداد الخطوات التي اصطفت مسبقاً زادت فرصة اصطفاف الخطوات التالية أيضاً - وهذا ما يسمى باتجاهية القسرية الذاتية self - enforced directionality .

إذا عددت الخطواتِ المصطفة كخطوة واحدة طويلة، فإن التوزيع الجديد لأطوال الخطوات يمكن أن يؤول في النهاية لتوزيع قانونِ القوة، لذا فإن ما تحصل عليه هو السيرُ الليفي.

أنماط شبيهة للسير الليفي وُجدت لدى صفٍ واسع من الكائنات الحية كالحشرات، والمفترسات البحرية كأسماك القرش وأسماك التونة، والثدييات الأرضية، حتى أنه وُجد دليلٌ على السير الليفي في الطريقة التي يتجول فيها البشر في حرم الجامعة، و الحدائق و عالم ديزني.

خلال الدراسة التي تمت على مجموعة من مجتمع الصيد و جمع الثمار في شمال تنزانيا تدعى قبيلة الهادزا استُخدمت أجهزةُ تتبع الحركة GPS مربوطةً على أحزمةِ و أذرع 44 فردًاً من القبيلة، وكانوا يرتدونها من الفجر حتى الغسق، وخلال هذه الفترة كان كل فرد منهم يمشي عدة أميال للعثور على الطعام. وغالبية رحلات البحث عن المؤنة كان أقرب نموذج لها هو السير الليفي، في مقابل النماذج الإحصائية البديلة للحركة.

يصطاد أفراد الهادزا ويجمعون ما يقارب 95% من طعامهم من البرية أما الـ5 بالمئة المتبقية فتأتي من التجارة. هم لا يستخدمون السيارات أو البنادق و يفتقرون للكهرباء ويسافرون سيراً على الأقدام.

تبحث الهادزا في الجوار عن صفقة جيدة، ويمشي الرجال وسطيا أكثر من 11 ميل في اليوم.

يبحث الرجال عن بعض الحيوانات كالخنازير والنيص (أو الشيهم وهو حيوان صغيرة من فصيلة القوارض) يصطادونها من خلال القوس والسهام المسمومة، أو العسل النقي. بينما تجمع النساء درنات شبيهة بالبطاطا - أفضل ما يمكن أن تحمصه فوق النار - أو الورق الخضراء.

في العقد الماضي بدأ العلماء يجدون مثل هذا السلوك الشبيه للسير الليفي في كل أنواع المخلوقات - من البكتيريا حتى طيور البطريق - تتجول في الجوار بحثاً عن الطعام.

كل هذه الكائنات الحية من جميع أنحاء العالم الطبيعي، مع درجات متفاوتة ٍمن التعقيد - وما يزال النمط نفسُه يستمر في الظهور، فكان هدف الدراسة هو إجراء تحقيقٍ حول كيفية تحرك مجموعةِ الصيادين و جامعي الثمار والتي قد تعطي أدلةً ومؤشرات حول كيفية تحرك الإنسان القديم.

إن البشر البسطاء (القدماء) ربما استخدموا منهجيةَ بحث مختلفة عن الحيوانات، نظراً لقدرتِهم المعرفية العالية في استخدامِ الذاكرةِ والإشارات البيئية.

ولقد وجد السير الليفي في إحدى الدراسات الكبيرة للحيوانات المفترسة كأسماك القرش والتونة متناوبة مع نوع آخر من الحركة تدعى الحركة البراونية، والتي تعمل لإبقائك ضمن أضيقِ منطقةٍ دونَ مساراتٍ طويلةٍ. انظر المقال السابق عن السير الليفي هنا.

www.syr-res.com/article/8256.html

في الحقيقة فإن كيفية توزُّعِ الطعام في الجوار هو عاملٌ محتملٌ. فعندما تتوافرُ الفرائس بكثرةٍ، فإن الحركة البراونية تبدو الخيارَ الصحيح لجمع الغذاء كنوع من الانتقاء خلال منطقةٍ مغلقة بشكل عشوائي.

وفي حال كان الطعامُ متفرقاً تظهر الأنماط الليفية. فهي تساعدك في البحث عن غذاء موزعٍ على نطاق واسعٍ بشكل عشوائي بغض النظر عن المسارات، مقارنة مع شيء آخر وهو الحركة البراونية.

بالنسبة للهادزا، فإنّ الطعام ينتشر في مساراتٍ والأفراد لديهم في اليوم خطةٌ مسبقة عن البحث، بينما تميل النساء لجمع الطعام ضمن مجموعاتٍ مع مناقشات حماسية مسبقة حول المكان الذي سيذهبون إليه.

على كل حال ما زال الباحثونَ يقومون بالمزيد من المحاولات من أجل الوصول إلى نتائجَ أفضل.

* مجتمع الصيد و جمع الثمارأوالبحث عن الطعام: يُعدُّ واحدًا من المجتمعات التي يتم الحصول فيها على الطعام من النباتات والحيوانات البرية، على العكس من المجتمعات الزراعية التي تعول أساسًا على الأنواع المستأنسة.

المصادر:

هنا

هنا