كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية "الحرب والسلام".. إلياذة العصور الحديثة

استمع على ساوندكلاود 🎧

يقول لنا تولستوي عن ملحمته الكبرى: «إنها ليست رواية، بل إنها أقلُّ تمامًا من قصيدة، ومع ذلك فهي أقلُّ من تاريخ يعرض الأحداث وَفق تسلسلِها الزمنيّ. إن الحرب والسلام هي ما رَغِب المؤلِّف في التعبير عنه، وما كان يستطيع التعبيرَ عنه بالشكل الذي جرى به».

الحرب والسلام هي المعركة الأدبيّة الكبرى في عالم الأدب، جعلها تولستوي قصيدةً طويلةً جدًّا تتناغم بخفّة ما بين الشعر والنثر ودروس التاريخ؛ فلا هي قصيدةٌ ولا هي روايةٌ ولا هي تاريخ، بل مزيجٌ فاخر معتَّق برائحة الأمّة الروسيّة وعظمتِها.

تَجري أحداثُ الرواية في روسيا القيصريّة، بين عامي 1805 و1813، خلال الحروب النابوليونيّة، متناولةً حياةَ مجموعةٍ من النبلاء الروس، استطاع تولستوي أن يستنبت شخصيّاتِهم من بذور خياله التي زرعها في تربة التاريخ. وكما كانت البذورُ واعدةً والتربةُ خِصبةً، كذلك نمت الشخصيات، والتي بلغ تعدادُها في الرواية أكثرَ من مئتي شخصيّة، من رحم تجارِبَ عاشتها خلال هذا الحيّز الزمنيِّ الذي يَضِجُّ بالأحداث، وتسير الحرب والسلام في ثناياه يدًا بيد في ثنائيّة أبديّةٍ متعاقبة، لتتدفّق من خلالها أفراحُهم وأحزانُهم، رقصاتُهم ودموعُهم، أحلامُهم وخيباتُهم.

تبدأ الرواية في مدينة بطرسبورج الروسيّة عامَ 1805، في إحدى الحفلات الراقصة إبّان وصول أخبار عن بَدء نابوليون احتلالَ أوروبا الغربية. فنجدُ الشخصيّاتِ الأرستقراطيّةَ تَهِيمُ جمالًا بوصف تولستوي لها في هذه الحفلات، إذ نرى أبطالَ الرواية الرئيسيِّين؛ بيير بيزوخوف، والأمير أندريه بولكونسكي، مع وصف جميل من تولستوي لجمال هيلينا كاروجين، التي تصبح زوجة بيير بيزوخوف، ويقدّم لنا أيضًا إشعاعَ ناتاشا روستوفا، بطلةِ الرواية من النساء بلا منازع.

ولعلّ أكثرَ الشخصيّاتِ نماءً وتطوُّرًا في الرواية هي شخصيّةُ بيير بيزوخوف، الابنِ غيرِ الشرعيِّ لكونتٍ روسيٍّ غنيٍّ تحوّل بوفاة والده بين ليلة وضحاها من شاب غريب الأطوار إلى أكثرِ عَزَبٍ مرغوبٍ في الزواج به في الإمبراطورية الروسية. ولا تنفكّ تتطوّر شخصيّتُه الغريبةُ في بحثه عن ذاته؛ فينضمُّ تارةً إلى الماسونيّة، ثم يهجُرُ زوجتَه، ويعتقدُ أنّ مهمّتَه هي اغتيالُ نابوليون؛ فيقعُ أسيرًا لدى الفرنسيّين. وخلال ذلك، يمرّ برحلاتِ تحوُّلٍ حقيقيّةٍ وشاملة، تَطرح أسئلةً وُجوديّةً كانت محورَ نقاشه مع صديقه الأمير آندريه بولكونسكي، الشخصيةِ الأخرى المهمّة جدًّا في خَلق تولستوي؛ فهو الأميرُ الملحدُ الذي ترك زوجتَه كي يلحقَ بالمجد المُنتَظَر مع الجيش الإمبراطوريِّ في معركة أوسترليتز، ويصبح أحد أبطالها، ثم يفقد زوجته فيعيشُ عذابًا استطاع أن يهرب منه بعمله ضابطًا مساعدًا لقائد الجيش الروسيّ؛ الجنرال كوتوزوف.

لكنّ إبداعَ تولستوي الحقيقيَّ يكمنُ في مقدرته على وصف الحروب بدقّة تاريخيّة مدهشة؛ إذ يصوّرُ الحربَ الروسيّة-الفرنسيّة بمشاهدَ نابضةٍ، تشعرك للوهلة الأولى بأنك فارسٌ من فيلق بافلوغراد، أو رجلٌ من رجال المدفعيّة في معركة بورودينو؛ فلا تستطيعُ إلا أن تتعاطفَ مع الإرادة الجماعيّة للجنود على خطّ النار وهم يتقدّمون أو يصمُدون أو يتقهقرون، حابسًا أنفاسَك حتى نهايةِ المعركة.

لم يكتفِ تولستوي بخلق الأحداث وتصوير المعارك، بل طرَحَ أسئلةً ما فَتِئ يجيبُ عنها بشكل تدريجيّ ومتكرّر، إلى أن كَرّس الخاتمةَ بأسرها لأفكاره الفلسفيّةِ التي يراها تفسّر مَنطِقَ التاريخِ وضرورةَ وقوع الأحداث؛ فتولستوي كان مقتنعًا بأنّ إرادةً كإرادةِ نابوليون وألكسندر الأولِ لم تلعب سوى دورٍ ثانويٍّ في الحروب والتاريخ، وأنّ التاريخَ تصنعُه الحركةُ الجماعيّةُ للشعوب، التي تكون وَفق قوانينَ تحدّد مجرى التاريخ، وهو بذلك يردّ الاعتبارَ للقوميّة الروسيّة من الشعب، وفي مقدِّمته القائدُ العامُّ للجيش الروسيّ؛ المارشالُ ميخائيل كوتوزوف؛ فهو لم يرَ في نابوليون ذلك القائد العبقريَّ أو المخطِّطَ الاستراتيجيّ، بل مجردَ شخصيّةٍ ثانويّة وجدت استجابةً لحركة الشعوب التي تسيِّرُها قوانينُ أزليّةٌ ثابتة؛ وبهذا يكونُ قد خالف آراء المؤرِّخين في ذلك الوقت.

كذلك استطاع تولستوي أن يتناول قضية الحب من زوايا عدّة؛ فيبدو هذا الحبُّ حالمًا ضاحكًا في بداية الرواية، متجسّدًا في حبِّ الطفولة بين ناتاشا وبوريس، وكذلك بين نيكولا وابنةِ عمِّه سونيا، ليصبح الحبَّ الناضجَ المتأجِّج، الملتهبَ بنار الفُرقة بين آندريه وناتاشا، حتى يأخذَ شكلَه العنيفَ المدمِّرَ في علاقة ناتاشا بأناتول التي كادت توصلها إلى الانتحار، ليعود في النهاية إلى الحبِّ الهادئ الحاني بين ناتاشا وبيير. ونستطيعُ من ذلك أن نرى أنّ شخصية ناتاشا الجامحةَ كانت البوابةَ التي استخدمها تولستوي لإدخالِ مشاعرَ دافقةٍ أغنَت الرواية، وخلقت جمالًا شاعريًّا مميَّزًا.

وهكذا فإن هذه الرواية الملحميّةَ لِما فيها من عناصر البقاء والخلود، وما تمتلكُه من عوامل التأثير الإنسانيِّ العابر للعصور والبلدان والانتماءات؛ تستحقُّ أن يُطلق عليها اسمَ (إلياذةُ العصور الحديثة).

• معلومات الكتاب:

المؤلف: ليو تولستوي.

المترجم: مجموعةٌ من المترجمين.

دار النشر: مكتبة مدبولي.

عام الإصدار: 1995.

عدد الصفحات: 2369 صفحة.