الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الإطار السياسيّ والاجتماعيّ للآداب السلطانيّة في العصر العباسيّ (الجزء الثاني)

استمع على ساوندكلاود 🎧

هل السلطان أو الحاكم خارجَ التصنيفات الاجتماعيّة؟ وهل هو أسمى من العامّة؟ وهل يجب أن نعدّه ظلَّ اللهِ في الأرض، كما قد وصفه الأدبُ السلطانيّ؟

لا تنفصل دراسةُ الأدب عن الإطار التاريخيّ والسياسيّ اللذين يولد فيهما؛ إذ إنه يأتي للتعبير عن المجتمع وأخلاقه وذوقه، ونظم تعاملاته الاجتماعيّة، وترتيبِها الطبقيّ السياسيّ، ويعكسُها بُغْيَة تبريرِها أو التمرُّد عليها، وفي كلا الحالين يكون وليدَ مجتمع ما في إطارَيْه الزمانيّ والمكانيّ، مع ما يتضمّنه هذان الإطاران من أحداثٍ وظواهرَ اجتماعيّةٍ وسياسيّة.

كما أنّ المُناخ السياسيّ للمجتمع يؤثّر في الموضوع الذي يعالجه الأدب، وفي الطابَعِ الذي يتّسم به. فحينما نتحدّث عن الأدب في عصر معيّن، فإنّ هذا العصرَ هو الإطارُ المرجعيّ الذي يحدّد معالم ذلك الأدبِ ومحتواه، وهو ما تلخّصه العبارة التالية: «الأدبُ مرآةُ المجتمع والعصر».

من المفارقات، أنه في التكوينة الاجتماعيّة الجديدة للعصر العباسيّ، يكون السلطان خارج التصنيفات الاجتماعيّة لأنه يسمو عليها؛ ففي العصر العباسيّ، انقسم المجتمع إلى شريحتين؛ خاصّةٍ وعامّة، ضمن ما يسمى بالسوسيولوجيّة المعاصرة: (المجالَ السياسيّ - public sphere)، والذي بدأت نشأتُه أساسًا مع حكمِ معاويةَ بنِ أبي سفيان؛ فالطبقةُ الخاصّةُ كانت تشمل الوزراءَ والأمراءَ وكبارَ ضُبّاطِ الجيش، وكبارَ التُّجّارِ والفقهاءِ والكُتّاب، وهذا ليس بوصفها طبقةً بالمعنى الرائج في التاريخ الأوروبّيِّ الحديث؛ لأن الخاصّة ليست طبقةً منتجةً ولا مستقلّة، إنما هي طبقةٌ تدور في فَلَك السلطان، وتعيش على عطاياه، مقابل خدماتٍ تقدّمها إليه. أما الطبقة العامّة، فشملت بقيّةَ الناس وصغارَ الجند، لكنّ السلطانَ في القمّة، وفي ذلك استحضارٌ حيٌّ لحضارات الشرق القديمة، التي تمجّد الحاكم فيغدو إلهًا أو تجسيدًا لإرادة الإله، مع توظيف نصوص شرعية دينية لذلك، كما أن هذا الاستحضار وذاك التوظيف جاء لتكريس الفكرة الفلسفيّة التي عُبِّر عنها سياسيًّا بالقول إنّ إرادةَ الحاكم مطلقةٌ، تعكس إرادةَ الله، والحاكمُ ليس مسيَّرًا مجبَرًا وَفقًا لمشيئة الله، أي إنّ السلطان ذو إرادةٍ هي إرادةُ الله ذاتُها، وليست إرادةً تنفِّذ مشيئةَ الله، أو كما كان رائجًا عند بني أميّةَ فيما أُطلق عليه (الجَبريّة)؛ في أن الإنسانَ بشكل عامّ، والحاكمَ بشكل خاصّ، تسيّرهما مشيئةُ الله. وإذا كانت فكرة تحوُّل الخلافة إلى مُلك ضمن مجال سياسيّ، بدأت مع حكم الأُمويّين؛ ففي العصر العباسيّ غَدَت فكرةُ السلطان محورَ المجال السياسيّ والحياةِ الاجتماعيّة وترتيبِها الطبقيّ. وسيرورةُ الأدب السلطانيِّ التي بدأت في أواخر الحكم الأُمويّ، وتكرّست في العصر العباسيّ؛ جاءت لتعبّر عن هذا الخطِّ السياسيّ. وقد ذهب أحمد سالم في مؤلَّفه (دولةُ السلطان) إلى القول بأن الكتب التي تناولت الآداب السلطانيّةَ في العصر العباسيّ «لم تؤسِّس لواقع جديد بقدر ما رسّخت واقعًا قائمًا بالفعل»[1].

وضمن هذا الحقل السياسيّ، والانفتاحِ على العناصر من قوميّات مختلفة؛ نشطت الآدابُ السلطانيّةُ بصفتها ضرورةً مُلِحّةٌ توظَّف في خدمة السياسة. ويقاربُ الجابريُّ بين عملية نقل الآداب السلطانيّةِ من الثقافة الفارسيّةِ في العصر العبّاسيّ الأول، لتعكس واقع العلاقات السياسيّة في ذلك العصر، وبين التوجُّه المعاصر لنقلِ أيديولوجيّات الطبقات الاجتماعيّة في أوروبا الحديثةِ والمعاصرة (الماركسيّة، والليبراليّة، والاشتراكيّة)؛ لتمنح الإطار المفهوميَّ الذي يعبّر عن مطامح الطبقات السائدة في المجتمع العربيِّ المعاصر.

وضمن حركة النقل هذه للأيديولوجية السلطانيّة، يَبرُز ابنُ المقفَّع بصفته أولّ من بدأ القولَ فيها ضمن منظومة الثقافة العربية الإسلامية، وقد عاصر نهايةَ الحكم الأُمويِّ وبداياتِ العصر العباسيِّ الأول (أي في عهدِ شباب الدولة العباسيّة)، ما يعني أنّ أدبَه قيّمٌ ومفيد للاطّلاع على ملامح الآداب السلطانيّة بوصفها استمرارًا لفكرة (المُلك العَضُوض)، واستحضارِ فكرة السلطانِ خليفةِ الله على الأرض، تكريسًا لواقع بدأه حكمُ الأُمويّين.

مَن ابنُ المقفَّع، وما أشهرُ مؤلَّفاتِه، وما سماتُها، وأين تقع ضمن أيديولوجيّة الآداب السلطانيّة؟ وهل أدبُ ابنِ المقفَّع أدبٌ تبريريّ؟ هذا ما سيكونُ موضوعَ مقالنا القادم.

المراجع:

[1]:الآداب السلطانية وازدهارها في منذ أواخر الخلافة الأموية، قراءة في كتاب دولة السلطان: جذور التسلط والاستبداد في التجربة الإسلامية، محمد عويس، شباط، هنا

2015.

[2]:محمد عابد الجابريمحمد عابد الجابري، نقد العقل العربي (3)، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية.