الاقتصاد والعلوم الإدارية > علوم مصرفيّة

ماهو التعويم - الجزء الثاني

استمع على ساوندكلاود 🎧

من الملاحظ أنّ الكثير من الدول، وخاصة الناشئة منها، تتجه نحو اتباع نظام سعر الصرف الثابت، وتتجنب اتباع نظام سعر الصرف المعوّم. ما هي الآثار السلبية التي قد تنتج عن اتباع نظام سعر الصرف المعوم والتي يمكن أن تجعل الدول تتجه إلى اتباع نظام سعر صرف ثابت، أو حتى نظام أقل مرونة بدلاً من نظام سعر الصرف المعوّم؟

إن ربط سعر صرف عملة ما بعملة أخرى أمر مرتبط بالاستقرار، وإيجاد بيئة مستقرة للاستثمارات الأجنبية، كما أنه يساعد على تخفيض معدلات التضخم وزيادة الطلب الناتج عن الثقة الكبيرة باستقرار العملة.

من ناحية أخرى، يعتبر الكثير من الاقتصاديين أنّه من المفضل اتباع نظام سعر صرف معوم على اتباع نظام سعر صرف ثابت، لأن ذلك يساعد على عزل أثر الصدمات الخارجية عن الاقتصاد المحلي بسبب قدرته على امتصاص تلك الصدمات نتيجة مرونته.

بمعنى أنّ انخفاض الطلب على صادرات دولة ما مثلاً سيؤدي إلى انخفاض قيمة عملتها، كونها معّومة ولا تخضع لتدخل الحكومة، وذلك بسبب انخفاض الطلب عليها، ولكن هذا الأمر سيجعل من صادرات تلك الدولة أكثر جاذبية وذلك نتيجة انخفاض أسعارها، وبالتالي سيزداد الطلب على تلك الصادرات، مما يزيد الطلب على العملة، أي أنه سيُحدِثُ أثراً يعاكس الأثر الأول وبالتالي يلغيه. بالنتيجة سيتم تصحيح الخلل في ميزان المدفوعات تلقائياً، ومن هنا يوصف هذا النظام بقدرته على التصحيح الذاتي.

ولكن هذا السيناريو لا يتحقق دومًا بهذه البساطة، إذ أن الاقتصاد ليس بمعزل عن عوامل ومؤثرات أخرى.

على سبيل المثال، أظهرت العديد من الدراسات أنّ انخفاض قيمة العملة في عدد من الدول الناشئة كثيراً ما ارتبط بحالات عسر مالي وتقلص في الناتج، فأعادت دراسات أخرى النظر في هذا الرأي الذي يفضّل نظام سعر الصرف المعوّم، وخاصة في الحالات التي يؤدي التعويم فيها إلى عسر مالي، وبالتالي التأثير على النشاط الاقتصادي. وخالفت دراسات أخرى هذا الرأي، حيث اعتبرت أن نظام سعر الصرف المعوم هو الأفضل على الرغم من أثره على الوضع المالي.

لكن في الواقع، وكما ذُكر سابقاً، فإن الكثير من اقتصادات الأسواق الناشئة تتجنب اتباع نظام سعر الصرف المعوم، وتعمل على تثبيت سعر صرفها، ويعبر سلوكها هذا عن خوفها من أن ينشأ عن تعويم عملتها عسر مالي حاد وفقدان للثروة.

ولكن، كيف يمكن للتعويم أن يؤدي إلى عسر مالي؟

في الحقيقة يمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال "أثر الميزانية" المتعلق بالاقتراض والإنفاق الاستثماري.

يظهر أثر الميزانية عندما يتوقف سعر الفائدة التي تقترض به الشركات من مؤسسات الوساطة المالية على صافي قيمة الشركة، والتي تمثل صافي قيمة أصولها (أي الأصول مطروحاً منها الالتزامات)، حيث كلما كان صافي قيمة الشركة منخفضاً، كانت أكثر عرضة للتأثر بالصدمات وأقل قدرة على الوفاء بالتزاماتها، وبالتالي ارتفاع تكلفة حصولها على القروض اللازمة، وهذا ما سينتج عنه انخفاض في الاستثمار.

ومن ثمّ فإن الكثير من البلدان الناشئة تعاني من ما يسمى بعدم تطابق العملة، حيث أنّ معظم التزاماتها الخارجية محررة بالعملة الأجنبية، وبالتالي فإن أي انخفاض في قيمة العملة المحلية سيزيد من عبء الدين الأجنبي على تلك الشركات، خصوصا أنها تتحصل على إيراداتها بالعملة المحلية. بمعنى آخر، إنّ عبء دينها قد ازداد، مع انخفاض قيمة العملة المحلية، بينما بقيت إيراداتها على حالها مقاسةً بالعملة المحلية، وبالتالي ستواجه صعوبات في خدمة دينها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ونتيجة انخفاض قيمة تلك الشركات وعسرها المالي، ستزيد تكاليف الاقتراض باعتبار أنها اصبحت أكثر خطراً، وبالتالي سينخفض استثمارها، وسينخفض الطلب الكلي أيضاً نتيجة لذلك.

باختصار يمكن القول أنّ التداخل ما بين أثر الميزانية والتزامات الشركات المحررة بالعملة الأجنبية سيجعل لانخفاض قيمة العملة المحلية أثر انكماشي على النشاط الاقتصادي، مما يجعل من أنظمة أسعار الصرف المرنة أقل جاذبية. ولكن بالنهاية يمكن القول أنّ الحجم النسبي للأثر السلبي للتعويم هو الذي سيحدد بالنهاية مدى ملاءمة اتباعه، أو تفضيل نظام سعر الصرف الثابت عليه.

ومن المعروف أنّه لا يوجد نظام سعر صرف واحد ملائم عموماً، حيث تختلف مدى ملاءمة أنظمة أسعار الصرف باختلاف الدول وطبيعة اقتصاداتها، وقد يختلف نظام سعر الصرف الملائم في الدولة الواحدة باختلاف وتغير الظروف الاقتصادية التي تتعرض لها، مما قد يضطرها للانتقال من نظام سعر صرف إلى آخر تماشياً مع ظروف الاقتصاد.

في هذ السياق، انتقلت مصر مؤخراُ من اتباع نظام سعر صرف ثابت إلى اتباع نظام سعر صرف معوّم في الثالث من تشرين الثاني من هذا العام ، وذلك رضوخاً لمطالب صندوق النقد الدولي، الذي اعتبر هذا الانتقال شرطاً أساسياً لتحصل مصر على الموافقة النهائية للحصول على قرض. نتيجة لذلك، انخفض سعر صرف الجنيه المصري بشكل كبير، حيث وصل سعر التبادل في الأسواق الرسمية إلى سعر يتراوح حول 13 جنيه مقابل الدولار الواحد، ممثلاً انخفاضاً كبيراً في قيمة الجنيه بعد أن كان قد تم ربطه بالدولار عند سعر8.8 جنيه مقابل الدولار الواحد في شهر آذار، ولكن نقص الدولار الحادّ في الاقتصاد أدّى إلى تعرض العملة إلى ضغوط هبوطية في الأشهر الأخيرة. هذا وقد صرّح البنك المركزي المصري أنّه تم اتخاذ هذا القرار لإلغاء أي تشوهات في سوق تبادل العملات والسماح لقوى العرض والطلب بالعمل بشكل فعال.

ولكن كيف وصلت مصر إلى هذه المرحلة؟

لقد عانت مصر من انخفاض مستمر في احتياطاتها من العملة الأجنبية نتيجة حالة عدم الاستقرار التي تعيشها منذ عام 2011، مما انعكس سلبا على مواردها من النقد الأجنبي، التي تمثّل بشكل أساسي الاستثمارات الأجنبية، الصادرات، عائدات قناة السويس، عائدات قطاع السياحة إضافة إلى التحويلات من الخارج. حيث انخفضت احتياطياتها الأجنبية إلى 19.6 مليار دولار في شهر أيلول من هذا العام، وهو أقل بمقدار النصف مقارنة مع مستوياته في عام 2011.

كان البنك المركزي المصري يعمل على تقنين الدولار، وفرض قيود على رأس المال، وبالتالي الحفاظ على سعر صرف رسمي مرتفع ولكن غير واقعي، مما أثّر على التجارة الخارجية، وخاصة مع اعتماد مصر على استيراد العديد من السلع.

ولكن نتيجة لارتفاع التضخم في الِأشهر الأخيرة، ووصول العجز في الموازنة للسنة المالية 2015\2016 إلى 12%، وحدوث انحرافات كبيرة في أسواق العملة، قامت مصر بعقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي في شهر آب، لدعم برنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية.

من الجدير بالذكر أن مصر قد بدأت باتباع برنامجٍ تقشفيٍ لتقابل الشروط والمتطلبات للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار. وكما ذكر سابقاً، فإن شرط تعويم العملة كان من أهم شروط حصولها على القرض، حيث صرّحت مديرة صندوق النقد الدولي أنّ مصر تعاني من أزمة عملة، وعليها أن تعوّم عملتها بشكل سريع لتقليص الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية وأسعار الصرف في السوق السوداء.

وقد رحّب صندوق النقد الدولي بهذه الخطوة، واعتبر أنها ستساعد مصر في الحصول على المزيد من النقد الأجنبي، وأنها ستحسن من صادراتها وتزيد من تنافسيتها، إضافة إلى أنها ستعزز السياحة وستجذب الاستثمارات الأجنبية.

ويتضمن البرنامج الإصلاحي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي أن تقوم الحكومة المصرية بسلسلة من الإصلاحات الهادفة لتعزيز النمو ومحاربة الفقر، إضافة إلى فرض ضريبة على المبيعات، خفض دعم الكهرباء والوقود واستخدام القرض أيضاً في الإنفاق على البرامج الصحية والاجتماعية.

وقد لوحظ استجابة البورصة المصرية لهذا القرار، حيث ارتفعت قيمة المؤشر لأعلى مستوى له منذ ستة أشهر على الأقل، وذلك فور صدور قرار التعويم. كما قام البنك المركزي برفع أسعار الفائدة، وذلك للتخفيف من حدة ارتفاع الأسعار الذي سينتج عن انخفاض قيمة العملة.

يمكن القول نهايةً أنّ هذا القرار أدى إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الجنيه، وبالتالي انخفاض قوته الشرائية، وهذا الأمر سيؤثر بالدرجة الأولى على ذوي الدخل المحدود والمنخفض، الذين يمثلون الشريحة الأكبر من الشعب المصري، خاصة بعد رفع الدعم عن الوقود والكهرباء، كما أنه سيزيد من أسعار السلع المستوردة، وخاصة مع الاعتماد الكبير لمصر على الواردات. إضافة إلى الأثر السلبي على الشركات المصرية المحلية التي تقيّم أصولها والتزاماتها بالجنيه، بعكس الشركات القابضة الكبرى في مصر، التي تعدّ المستفيد الأكبر من هذا القرار.

لكن من ناحية أخرى، قد يحقق هذا القرار الاستقرار للسوق بعد توحيد سعر الصرف واختفاء فجوة السعر بين السوق السوداء والسوق الرسمية، وسيحسن نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وسيخفف من الضغوط التي كانت تتعرض لها الاحتياطيات النقدية الأجنبية لدى البنك المركزي وسيوقف استنزافها.

المصادر :

هنا

هنا

هنا

هنا