الهندسة والآليات > التكنولوجيا

أعضاءٌ على رقائق

استمع على ساوندكلاود 🎧

في أيّ مكانٍ آخر خارج أسوار هوليوود ومؤثّراتها الخاصّة، لن يكون بوسعك أن تشاهد مختبراتٍ تكتظّ بأعضاءٍ بشرية حيّة. بغضّ النظر عن كلّ الصعوبات التقنيّة التي تستلزم الإبقاء على حياة عضوٍ خارج جسم الإنسان، فإنّ الأعضاء البشرية في واقع الأمر ثمينةٌ جداً لأنْ تُستَخدم في التجارب. لكن من جهةٍ أخرى، فإنّ إجراء العديد من الدراسات الحيوية الهامة واختبارات الأدوية العملية لا يمكن أن يتمّ إلا على أعضاءٍ تقوم بوظائفها. تقنيةٌ جديدة يمكن أن تسدّ هذه الحاجة عن طريق إنماء أجزاءٍ وظيفيةٍ مُصغّرة من الأعضاء البشرية على رقائقَ صغيرة Microchip.

إن هناك العديد من المؤسسات التي تعملُ على تصميمِ هذه الرقائق بمشاريعَ مختلفة، كالمشروعِ الذي يشرف عليه معهد ماساتشوستس للتكنلوجيا MIT بقيادةِ المهندسة البيولوجية ليندا جريفيث Linda Driffith والذي أطلقوا عليه اسم "النشاطات الفيزيولوجية البشرية على رقاقة"، والمشروع الذي يشرفُ عليه معهد وييس Wyss Institute في جامعة هارفارد تحت مُسَمى "أعضاء على رقائق"، وقد نجحَ هذا المشروعُ الأخيرُ في العام الماضي بتصميم رقاقة حازت على جائزةِ أفضلِ تصميم.

في عام 2010، قام دونالد إينغبير من معهد وييس بتطوير "رئةٍ على رقاقة"، وكانت الأولى من نوعها. سرعان ما دخل القطاع الخاصّ بشركاتٍ مثل Emulate، التي يرأسها إينغبير وآخرون من معهد وييس، وعقدت شراكاتٍ مع الباحثين في الصناعة والحكومة، ومن ضمنها وكالة مشاريع بحوث الدفاع المتقدّم الأمريكية DARPA وغيرها. وقد أعلنت حتى الآن العديدُ من الجماعات عن نجاحها في صنع نماذجَ مصغّرة من الرئة، الكبد، الكلية، القلب، نِقي العظم والقرنية. ومن المؤكدِ أن يتبعها آخرون.

يُقدّم هذا الفيديو شرحاً لكيفية عمل "رئة على رقاقة":

يبلغ حجمُ كل عضوِ على رقاقة ما يقارب حجمَ بطاقة ذاكرة USB، وهو مصنوعٌ من مادةٍ كيميائيةٍ تدعى البوليمير مرنةٍ ونصف شفافة. تعملُ أنابيب المائعات الميكروية Microfluidic وفق أنماطٍ معقّدة ضمن الرقاقة، ويبلغ قطر كلّ منها أقل من ملليمترٍ واحدٍ وتكون مبطّنةً بخلايا بشريّة تم أخذها من العضوِ الهدف. عند تدفّق المغذّيات، كالدم ومركّبات الاختبار كالأدوية التجريبية عبر هذه الأنابيب، تقوم هذه الخلايا بإنجاز بعضِ من الوظائف الأساسية للعضو الحيّ.

يمكنُ ترتيب الحجرات داخل الرقاقة لتحاكي بنيةَ أحدِ الأنسجة، ككيسٍ هوائيٍ صغير داخل الرئة على سبيل المثال. بعد ذلك يمكن لتيارٍ هوائيٍ متدفقٍ أن يحاكي عملية التنفّس البشرية على نحوٍ دقيق. في الوقت ذاته، يمكن ضخّ دمٍ محمّل بالبكتريا عبر أنابيب أخرى، وعندها يمكن للباحثين أن يراقبوا كيفية استجابة الخلايا للإصابة، كل ذلك من دون وجود أدنى خطرٍ على أيّ إنسان.

وطالما أنه عند اختبار أي علاجٍ جديد يكون من الضروري معرفةُ آثاره على كل الجسم البشري وليس فقط على عضوٍ بعينه، فقد قامت المهندسة ليندا جريفيث مديرةُ مشروع "النشاطات الفيزيولوجية البشرية على رقاقة" ببناء نظام يحتوي على سبعة أعضاء على رقاقة واحدة، وهي تعملُ الآن على زيادة عدد الأعضاء ليصلوا إلى عشرة أعضاء على رقاقة، وهو ذات الهدفِ الذي يعمل عليه أيضاً باحثو معهد وييس. وقد ذُكر في شرحِ المشروع الذي تديره المهندسة ليندا، أن هدفَ تصميم هذه النماذج هو محاكاةُ وظائف أعضاء وأجهزة بشرية محددةٍ تمثل طيفاً واسعاً من الأنسجة البشرية، كالدورة الدموية والغدد الصماء والجهاز الهضمي والجهاز المناعي والجهاز العضلي الهيكلي والجهاز العصبي والجهاز التناسلي والجهاز التنفسي والجهاز البولي.

ستسمحُ هذه التقنية الجديدة للباحثين بمراقبةِ الآليات الحيوية والسلوكيات الفيزيولوجية كما لم يحدث من قبل، وستكون أيضاً مفيدةً ومشجعةً للشركات التي تعمل على تطوير أدويةٍ جديدة، حيث أن قدرتها على محاكاة الأعضاء البشرية سيسمح بإجراء اختباراتٍ أكثر دقّة وواقعية على الأدوية. على سبيل المثال، قامت مجموعةٌ العامَ الفائت باستخدام رقاقةٍ لمحاكاة الطريقة التي تقوم بها خلايا الغدد الصَمّ بإفراز الهرمونات داخل الجريان الدموي، وعملوا على استخدامها في إجراء اختباراتٍ هامةٍ على أحد أدوية السكّري.

وتقوم مجموعةٌ أخرى من الباحثين باستكشاف إمكانية استخدام الأعضاء على الرقائق في الطبّ الشخصيّ Personalized Medicine. من حيث المبدأ فإنه يمكن أن يتمّ صنع هذه الرقائق باستخدام خلايا جذعية مأخوذة من المرضى أنفسهم، ومن ثم يمكن إجراء اختباراتٍ لتحديد طرق علاج معينة والتي يكون احتمال نجاحها أعلى.

هناك سببٌ يجعلنا نأمل بأن تقلّل الأعضاء المُصغّرة وبشكلٍ كبيرٍ من اعتماد الصناعة الصيدلانية على الاختبارات الحيوانيّة للمركّبات التجريبية. ملايينٌ من الحيوانات تتمّ التضحيّة بها كل عام في اختباراتٍ كهذه، وهذه ممارسات تثير جدلاً واسعاً. بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية، فقد ثَبُت أنّها تمثّل تبذيراً إلى حدّ كبير؛ إذ نادراً ما تقدّم التجارب على الحيوانات رؤىً واقعية عن كيفية تفاعل البشر مع الدواء نفسه. بينما إجراءُ الاختبارات على الأعضاء البشرية المصغّرة يمكن أن يعطي نتائج أفضل.

أمّا الباحثون في المجال العسكري والدفاع الحيوي فإنّهم يعتبرون أنّ الأعضاء على الرقائق قادرةٌ على إنقاذ الأرواح وفق طريقةٍ مختلفة. على سبيل المثال، فإنّ جهازاً يحاكي الرئة أو غيره من الأجهزة المشابهة يمكن أن يكون خطوة هامة جداً في اختبار الاستجابات المختلفة للأسلحة البيولوجية أو الكيميائية أو الإشعاعية. وهو أمرٌ لا يمكننا القيام به في وقتنا الحالي لاعتباراتٍ أخلاقيّةٍ واضحة.

فيديو يوضّح كيفية عمل "الأعضاء على الرقائق" والتطبيقات المحتملة لذلك:

ومن الجديرِ بالذكرِ، أنّ هناك مجموعةٌ أخرى من الباحثين يعملون على إيجاد بدائلَ لنماذج الاختبار الحيوانية ولكن باستخدام وسائل أخرى غير الأعضاء على رقائق، مثل تصميم أدمغةٍ صغيرةٍ مخبريةٍ مُطورةٍ من خلايا بشرية يمكن اختبار الأدوية عليها بدلاً من الحيوانات، أو تصميم نماذج حسابية جديدة تعتمدُ على الرياضيات للتنبؤ بأثر المواد الكيميائية عند استخدامها على الجلد البشري دون الحاجةِ لإجراء أي فحوص مخبرية على الحيوانات.

ربما قد ننتظر الكثيرَ من الوقت قبل أن نستطيع أن نستبدل كلياً الاختبارات على رقائق إلكترونية بالاختبارات على الحيوانات، إلا أن الأبحاث الجديدة في هذا الموضوع تبدو واعدةً جداً، فهو أمر يرغب الجميع، كعلماءَ ومنظمين وشركات تصنيع الأدوية، برؤيته محققاً على أرضِ الواقع، وربما حتى ملايين الحيوانات تنتظر هذا الإنجازَ بفارغِ الصبر.

المصادر:

هنا

هنا