الفيزياء والفلك > فيزياء

الحياة السريّة للجسيمات طويلة العمر

استمع على ساوندكلاود 🎧

قوى الجاذبيّة ضَعيفةٌ لِلغايَة، ولكِنَ القِوى النَوويَة الضَعيفة الّتي تَسمَحُ لِلجُسيمات بأن تَتَفاعل وتَتَحوَل هي قوى شَديدةٌ لِلغايَة. كتلة بوزون هيغز صغيرة بشكل مريب، أما الكون فما يزالُ نحو 96% منهُ غامِضٌ بالنسبةِ لنا. ما تزالُ هناكَ العديد مِن الألغازِ الّتي فشِلَ النموذج المعياريّ في تفسيرها ولم تنجح الرياضيّات في وصفها.

يعتقدُ بعضُ العُلماء أن نموذج التناظُر الفائق Supersymmetry يُقدمُ حلًا لِتلك الألغاز عَن طريقِ إضافَةِ بِضعِ جُسيماتٍ أخرى للنموذج المعياريّ، وقد نجح الأمرُ نظريًا، لكِنَ المشكلة هي أنَ العُلماء لم يتمكنوا حتى الآن مِن إيجادِ أيٍّ مِن هذهِ الجُسيماتِ الجَديدة.

ولربما لَم يَجِد العُلماء أي أدلةٍ على التَناظُرِ الفائق، أو أيّ نموذجٍ فيزيائيٍّ جديد بَعدَ النَموذَجِ المعياريّ، لِأنَهُم كانوا يبحثون في المكان الخاطيء. يقول جيسي شيلتون Jessie Shelton من جامعة إلينوي:

" نقوم باستبعادِ نماذِجَ فيزيائيّة جميلة بِشكلٍ مُستَمِر، لذا قررنا أن نرجِع خطوةً للوراء ونَأخُذ بِعينِ الاعتِبار بُعدًا جَديدًا لِهذهِ القَضيّة، ألا وهوَ عُمر الجسيمات."

في الماضي، افترض الفيزيائيون أنَ الجُسيمات الجديدة التي يتم إنتاجها أثناء التصادم تتفكّك بِسُرعة كبيرة، وكأنها تتفكّك لحظة انطلاقها. يستطيع العلماء رصد الجسيمات التي تتفكك على هذا النحو باستخدام كاشفات مبنيّة حول نقطة التصادم. ولكن ماذا لو لو استغرقت هذه الجسيمات مسافةً أطول حتى تبدأ بالتفكك، ماذا لو سافرت بِضعَة سنتيمترات أو حتى كيلومترات قبل أن تتفكك لشيء آخر يستطيع الفيزيائيون رصده؟

إن هذا الأمر ليس بجديد، فالكوارك السُفليّ عَلى سَبيلِ المِثال، يَستَطيعُ السَفَرَ بِضعَةَ أجزاءٍ مِنَ المِليمتر قبلَ أن يتفكك إلى جُسيماتٍ أكثر استقرارًا. الميونات أيضاً وبمساعدة النسبيّة الخاصَة تَستَطيعُ السَفرَ عِدةَ كيلومِتراتٍ قبل أن تَتَفكك إلى إلكتروناتٍ ونيوترونات، ويتوقَع العَديد مِن العُلماء وجودَ صِنفٍ خفيّ مِن الجُسيماتِ الّتي تَتصَرّفُ بنفس الطريقة. الخدعة هنا أن هذه الجسيمات طويلة العمر _إن وُجدت _ فإنها على الأغلب لاتَتَفاعَل مَعَ المادّة العادية كثيرًا، وهذا يفسّر عدم قدرة العُلماء على كشفها حتى الآن. يُفسّر بعض العُلماء هذا السلوك الانطوائي للجسيمات طويلة العمر، على أنهُ نتيجة وجودها في قطاعٍ خفيّ من الفيزياء لم يكتشفهُ أحد بعد.

يقول هينري لوباتي Henry Lubatti من جامعة واشنطن:

"جسيمات القطاع الخفيّ مَفصولَة عَن المادَة العاديَة بواسطة حاجِز من الطاقَة الكموميّة ، تمامًا مِثلَ قريتين مفصولتين بمنطقة جبليّة. يُمكن للقريتين أن تتواصلا معًا، ولكِن بِدونِ دَفعَة قويَة مِن الطاقة الكافية لتجاوز القِمة، لن تكونا قادرتين على التَفاعُل سويّاً.

يأملُ العُلماء بأن تتمكّن التصادمات عالية الطاقة التي تحدث داخل مُصادِم الهادرونات الكبير LHC، من تزويد هذه الجُسيمات بالطاقة اللازمة لِجَعلِها تَتَجاوَز حاجِزَ الطاقَة لتقفز من القطاع الخفيّ إلى عالمنا. فإن استطاع مصادم الهدرونات إنتاج هذه الجسيمات، سيتمكن العلماء من ملاحظة ذلك في البيانات الناتجة.

ستتحرّك الجُسيمات طويلة العمر داخل مُصادِمِ الهدرونات بسرعةٍ تقارِبُ على الأغلبِ سُرَعَةَ الضَوء، لِمسافة تتراوح بين بضعة ميكرومترات إلى بضعة مئات الآلاف من الكيلومترات قبلَ أن تتحوّل لمادةٍ عادية يُمكن للعلماء ملاحظتها وقياسها، لكن المسافة الكبيرة و المتفاوتة الّتي قد تقطعها هذه الجُسيمات ستجعلُ من عَمليَةِ تَحديدِ مكانها أمرًا صعباً للغاية.

يأمل العلماء أن لا تستغرق هذه الجُسيمات وقتًا طويلًا في عمليّة التحوّل حتى تبقى ضِمنَ مَجالِ الكاشِفات. وقد اقترح لوباتي وزملائه تثبيتَ كاشفٍ سطحيّ جديد لمصادم الهادرونات، لزيادةِ نطاقِ البحث عن هذه الجُسيمات.

ولأن الجسيمات طويلة العمر ذاتها لا تتفاعل مع الكاشف، فإن اشارتها ستبدو كدفق مفاجيء مِن المادة العادية الّتي تَظهَر بشكلٍ مفاجيء من العدم.

يقول لوباتي:

"على سبيل المثال، لو تفكك جسيم طويل العمر إلى كواركات، فإنهُ سيبدو ضمن كاشف الميونات كعنقودٍ من الميونات المجتمعة سوياً. يقوم العلماء بتحفيز حصول أحداثٍ كهذه في تَجرُبَةِ ATLAS، وبعد تسجيلها يطبقون خوارزميّاتٍ خاصّة لإعادة بناء أصول هذه الجسيمات المتجمعة لمعرفة ما إذا كانت هذهِ الجُسيمات قد نتجت عن تفكُك جسيماتٍ طويله العمر. "

إن تمكن العلماء من اكتشاف هذه السلالة الجديدة من المادة، فإنَ ذلك قد يُمكِنهم من الإجابة على العديد من الاسئلة الملحّة في الفيزياء. تقول شيلتون: "وجود الجسيمات طويلة العمر لا يُكمّلُ نظريةً واحدة فقط، وإنما هو ظاهرةٌ مكملةٌ تقريباً لجميع الأُطُر الفيزيائية بعدَ النموذج المعياري"

وبالإضافةِ لِحلِّ المَشاكِلِ الرياضيّاتية لِلنموذَجِ المِعياريّ، يُمكن أن تُساعِد العلماء في تفسيرٍ أصل المادة بعد الانفجار العظيم، فقد تَكونُ الجُسيمات طَويلة العُمر أولاد عمومة المادة المظلمة الّتي هيَ حالةٌ خفيّة من المادة تتفاعل مع الكون المرئي فقط عن طريق الجاذبية.

المصدر: هنا