البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية

إنماء أعضاء بشرية من خلال إعادة برمجة الخلايا... حلمٌ يقترب من الحقيقة

استمع على ساوندكلاود 🎧

استطاع فريقٌ دَوليٌّ قاده باحثون من جامعة بريستول الإنكليزية إحرازَ تقدّم مُفاجِئ في مجال تحوّل الخلايا البشريّة. يُمكِن لهذا التقدّم أن يفتحَ البابَ أمامَ إمكانيّة وجود مجال جديد من العلاجات للعديد من الحالات المرضية. ففي ورقةٍ بحثية نُشرت في مجلة Nature Genetics، أثبت الباحثون قدرتهم على إنشاء نظامٍ خوارزمي قادِر على أن يتنبّأ بكيفية تحويل أيّ نوع من الخلايا البشريّة إلى خلايا أُخرى -يختلف نوعُها عن نوع الخليّة الأصل- مُباشرةً دون الحاجة لإجراء اختباراتٍ تجريبية والوقوع بأخطاء.

لقد أصبح من المُمكن اليوم تبديلُ النّمط الظّاهِري لخليّة جِسميّة* ما لتمتلِك نمطاً ظاهِرياً جديداً يختلف عمّا كانت عليه سابقاً، إذ يُمكِن أخذُ أيّ نوع من الخلايا وإعادة برمجتِه (تحويله) ليُصبحَ نوعاً آخرَ تماماً يتمتّع بمزايا مُختلِفة، وذلك عبر إضافة مجموعة فريدة من العوامل الخَلوية تُعرف بعوامل النّسخ (Transcription factors). يعود وجودُ مثل هذه الإمكانيّة اليوم إلى العام 2007 عندما أَعلن العالم اليابانيّ شاينا ياماناكا (Shinya Yamanaka) عن تمكُّنِه ولأوِّل مرّة من إعادة برمجة خلايا ليفيّةٍ بشريّةٍ مأخوذةٍ من الجلد لتُصبحَ خلايا جِذعيّة* مُتعدِّدة القُدّرات تُماثِل الخلايا الجِذعيّة الجنينة، وأُطلقَ عليها اسم الخلايا الجِذعيّة مُتعدِّدة القُدّرات المحفَّزة (Induced pluripotent stem cells) أو اختصاراً خلايا الـ iPS.أعطى هذا الانجاز أملاً جديداً لإمكانيّة وجود علاج للعديد من الأمراض المُستعصية، فكان سبباً في منح ياماناكا جائزةَ نوبل فيما بعد.

صورة تُظهر نتائج اتباع التنبّؤات التي أتت بها خوارزميات Mogrify لتحويل خلايا الأورمة الليفية إلى خلايا الكرياتين (خلايا بشرة منتجة للكرياتين). في الصور تَظهر الخلايا المتّحولة (خلايا الكرياتين) مصبوغة باللون الأخضر على شكل أحجار مرصوفة، في حين تملك خلايا الأورمة الليفية (الخلية المُشار إليها بالسهم) شكلاً ظاهرياً مختلفاً فهي أطول وأرفع نسبياً.

نظرياً يُمكِن أن تُحوَّلَ خلايا iPS مِن جديد لتُصبحَ -على سبيل المِثال- خلايا شبكيّة العين التي يُمكِن بدورها أن تُستخدمَ في عِلاج إحدى تَنكُّسات العين كالتنكّس البُقْعِيّ (Macular degeneration) (يُمكِنكم الاطِّلاع أكثر عن الموضوع في مقالنا هنا). أمّا من النّاحية العمليّة فيبدو أنَّ اتِّباعَ مثل هذه المنهجيّة في تحويل الخلايا أمرٌ محفوفٌ بمخاوفَ مُتعلِّقةٍ بالسّلامة وأخرى تقنيّة، إذ قد تؤدي إعادة برمجة الخلايا بهذه الطّريقة إلى تراكُم طفراتٍ سرطانيةٍ في الخلايا المُبرمجة قد تتسبّب بظُهور سُلوك قد يصعُب التّنبُّؤ بِه، إضافةً إلى أنَّ عمليّةَ تحديد مجموعة العوامل الخَلوية الفريدة (عوامل النّسخ) التي تحتاج لأن يَتمَّ التلاعُب بها في كُلّ مرّة يتم فيها دَفع الخليّة لتقوم بِالتّحوُّل ليست بالأمر اليَسير، إذ تُعدُّ هذه العمليّة من العمليّاتِ المُكلفة طويلةِ الأمد التي تتطلَّب القيامَ بالعديد مِن التّجارِب والوُقوع بالعديد من الأخطاء وذلِك قبل التّمكُّن من تحديد تلك العوامل اللازمة لإجراء أيّ تحوّل خَلويّ مُفترض، ما شكَّل عقبةً رئيسيّةً في وجه الباحثين والأطباء في مجال إعادة برمجة الخلايا حالت دون حدوث تقدّمٍ سريعٍ في هذا المجال، إذ لم يكُن بمقدورهم القيامُ إلا ببعض التّحوُّلات الإضافية التي كانت تُنشَر نتائِجِها بين الحين والآخر على مدى السنوات التسع الماضية.

من أجل التغلب على هذه العقبة عمل جوليان غوف (Julian Gough)، البروفِسور في مجال المعلوماتيّة الحيَويّة (Bioinformatics) من جامعة بريستول، مع طالب الدراسات العُليا (في ذلك الوقت) الدكتور أوين راكهام (Owen Rackham) على مدى خمس سنوات متواصِلة سعوا خِلالها إلى تطوير خوارزمياتٍ حاسوبيّةٍ يُمكِن توظيفُها للتنبّؤ بالعوامل الخَلوية اللازمة لحُدوث التّحوُّلات الخَلوية، وبالفِعل تمكنوا من إنشاء خوارزمياتٍ -أطلقوا عليها اسم-"Mogrify" قادرةٍ على التنبّؤ بمجموعة العوامِل الأمثل اللازمة لإجراء تحوّلات خِلوُية مُفترَضة.

وعند إخضاع Mogrify للاِختبار، كانت النّتائِجُ دقيقةً للغاية لدرجة أنَّه تمكَّن من التنبّؤ وبشكل صحيح بمجموعة العوامل الخَلوية اللازمة للقيام بتحوُّلات خِلويّة مُعيّنة كان قد تمَّ التوصل إليها في دراسات سابقة. وللتّحقُّق أكثر من القُدرة التنبؤية للـMogrify ، أجرى الفريق البحثي نوعين جديدين كُلياً من التحوُّلات الخَلوية في المُختبر مُستخدمين خلايا بشريّة، وقد نجح الفريقُ بإجراء كِلا التحوُّلين بمُجرّد اتِّباع التنبّؤات التي أتى بها Mogrify.

يقول البروفِسور غوف: " توحي السرعة التي تمَّ فيها تحقيق هذه التحوُّلات الخَلوية أنَّه باستِخدام Mogrify سنكون قادِرين على إنتاجِ أعدادٍ ضخمةٍ من الخلايا البشرية من مُختلِف الأنواع في المُختبر". ويُضيف: "إنَّ وجودَ المقدّرة على إنتاج أنواع عديدة من الخلايا البشريّة سيقودُنا بشكل مُباشِر لاستخدام زراعة الأنسجة كعلاج لأنواعٍ مُختلفةٍ من الحالات المرضيَة بَدءاً من الحالات النّاتجة عن التِهاب المفاصل والتّنكُّس البُقعيّ وصولاً إلى الحالات المُتعلِّقة بأمراض القلب. إضافة إلى أنَّ الفهمَ الأكملَ لعمليَّة إنتاج الخلايا على المُستوى الجُزيئي قد يُمكّننا من إنماء أعضاء كامِلة انطِلاقاً من خلايا الشخص نفسه، الأمر الذي يجعل من Mogrify إنجازاً هاماً في مجال الطِّبّ التّجديدي الذي يُمكِن أن يُمهِّد الطّريق أمام حُدوث تطوُّرات في المجال الطبي بشكل عام قد تكون سبباً في تغيير حياتِنا في غُضون السّنوات القليلة القادمة. يكمُن هذا التّغيير في إمكانيّة تحسين نوعيّة الحياة في المراحِل المُتقدِّمة مِن العُمر وإطالةِ مُتوَسِّط عُمر الأفراد على المدى الطّويل ".

يقول الدكتور راكهام الذي يعمل حالياً في كلية الطب في جامعة ديوك -سنغافورة الوطنيّة (Duke -NUS) في سنغافورة: "ما يقوم به Mogrify يُشبِه تماماً ما يقوم به "أطلس العالم" فهو يسمح لنا برسم خرائِطَ تُسهِّل عملية الوصول لمناطقَ جديدةٍ لا على الأرض وإنّما هنا في مجال التّحوُّلات الخَلوية عند البشر." يأمل الدكتور راكهام أن تكون إحدى أولى التّطبيقات السّريرية باستخدام هذه الطريقة المُبتكرة هي إعادةُ برمجة الخلايا المَعيبة من المرضى لتُصبِحَ خلايا سليمةً دون الحاجة إلى المرور بمرحلة الـ iPS. وبهذا سيكون بالإمكان إعادةُ زراعةِ الخلايا المُحوَّلة في المرضى الذين أُخِذت منهم الخلايا المَعيبة في البداية، ما يعني تمكينَ ممارسة التّطبيق العمليّ لتِقنيّات طبّ تجديدي جديدة بشكلٍ أكثر فاعلية.

يُذكر أنَّ الخوارزمياتِ التي استُخدِمت في إنشاء Mogrify اعتَمَدت على بيانات جمعتها وحدة الأبحاث الدَّولية لمشروع فانتوم (FANTOM 5 - التفاصيل هنا) التابع لمؤسسة RIKEN للأبحاث في اليابان. وقد عَمَد الفريق إلى جَعلِ Mogrify متوافراً عبر الانترنت بحيث يُمكن للباحثينَ والعلماءِ الوصولَ إليه بيسرٍ، ما يُمكِن أن يُتيح حُصول تقدُّم سريع في هذا المجال (يُمكنُكم الاطلاع هنا).

تضمَّن الفريق الدَّولي الذي شارك في الدِّراسة باحِثين من جامِعة بريستول (إنكلترا)، وجامِعة ديوك- سنغافورة الوطنيّة (Duke-NUS) (سنغافورة)، وجامِعة موناش (استراليا)، إضافة إلى باحِثين من مركز أبحاث RIKIN (اليابان).

إيضاحات:

- الخلية الجِسميّة (Somatic cells) :أيُّ خليةٍ في الجسم عدا الأمشاج (Gametes)، أيّ: الخلايا الجنسية سواءٌ البيوض أو النطاف.

- خاصية تَعدُّد القُدّرات (Pluripotent): الحالةُ التي تمتلك فيها الخلية الواحدة القُدرةَ على التمايز (التّحول) لجميع أنواع أنسجة الجسم المُكوِّنة للكائن الحي، إلَّا أَّنها غيرُ قادرة على تشكيل كائن حيّ متكامل بمفردها. وأفضلُ مثالٍ على هذا النوع من الخلايا هو الخلايا الجِذعيّة الجنينية البشرية (Human embryonic stem cells; hESC).

- تتمُّ إعادة برمجة الخلية الجِسميّة (المتمايزة) لتُصبحَ خلايا مُحفّزة مُتعدِّدةَ القُدرات (iPSc) عبر إدخال أربعة عواملَ خارجيةٍ تُعرَف بعوامل ياماناكا (Oct3/Oct4، Sox2، c-Myc and Klf4)، وهذه العوامل عبارةٌ عن جينات تَنشط عادةً بشدة في الخلايا الجِذعيّة الجنينية، ويَنتجُ عن نشاطها عواملُ نسخ (بروتينات) تقوم بتنظيم شبكة الإشارة التنموية الضرورية لإبقاء خاصية تَعدُّد القُدرات التي تتمتَّع بها الخلايا الجِذعيّة الجنينة مُقارنة مع غيرها مِن الخلايا، لذلِك فإنَّ إعادةَ تحفيز هذه الجيناتِ وزيادةَ نشاطِها عن المعدل الطبيعي يُمكن أن يُحفِّز الخلايا الجِسميّة لتُصبح خلايا مُتعدِّدة القُدرَّات يُمكن تحويلُها فيما بعد لأنواعٍ خَلوية أخرى مُفترضة .

- عملية التّحوُّل الخَلوي أو التّحوُّل الخَلوي التّمايُزيِ (Transdifferentiation): العمليّة التي يتمُّ فيها تحويلُ نوع مُعيّن مِن الخلايا إلى نوع آخر مُباشرة دون المرور بمرحلة تَعدُّد القُدرَّات.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا