كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (الطاعون): الأسر في مدينة فتك بها الطاعون

تخيّل أنك تعيش في مدينةٍ ما وفجأة ينتشر وباء الطاعون، لا أنت تستطيع أن تغادر المدينة لأن أبوابها وطرقاتها أقفلت، ولا أنت تستطيع أن تتفادى هذا الوباء، ماذا تفعل؟ كيف ستعيش؟ ما هي مشاعرك تجاه زوجتك التي كانت خارج المدينة بداعي السفر، وعندما أغلقت المدينة فقد فصل الطاعون بينكما. هل ستجلس في المنزل؟ هل ستذهب للكنيسة أو المسجد؟ أم ستواجه المرض مع أولئك الذين قرروا مواجهته ومساعدة أولئك الذين وقعوا في براثنه.

الطاعون كلمة تصف وباءً مرضياً اجتاح أماكن كثيرة حول العالم وخلّف مئات الملايين من القتلى عبر التاريخ. لنا اليوم وقفةٌ في وهران الجزائرية عبر رواية ألبير كامو الشهيرة "الطاعون"

كتب كامو روايته هذه عام 1947 أثناء الإحتلال الفرنسي للجزائر.

تبدأ الرواية بوصفٍ لمشاهد موت الجرذان في الأبنية والشوارع والحدائق، يرتفع خط الأحداث بسرعة في الرواية وصولاً إلى إعلان مدينة وهران مدينةً مغلقةً منعاً لانتشار مرض الطاعون خارجها، ثم تبدأ الأحداث تتوالى بوصف الطاعون وصولاً إلى نهاية الرواية بانتهاء الوباء وإعادة فتح المدينة.

يروي لنا كامو في طاعونه كيف تحولت مدينة وهران من مدينة وادعة لا همّ لها، إلى سجنٍ حقيقيٍّ لا يدخل إليه ولا يخرج منه أحد، طارحاً بذلك فكرة الحرية من مبدأ المدينة التي تفرّق فيها الأحباب بسبب الحدث الخارج عن إرادتها، فأصبح سكانها معتقلين فيها بدون إرادتهم، فلا يستطيعون الوصول إلى أحبائهم، ولا أحبائهم قادرون على التواصل معهم.

منذ أن قطعت الاتصالات في المدينة أصبح سكانها كالأشباح المتحركة، فصفاتهم التي نقرؤها في الشوارع وفي المنازل توحي لنا بأنهم أناسٌ ينتظرون حتفهم، تماماً كالمعتقل الذي يعلم أنه سيُعدم ولكنه لا يدري متى سيُنفّذ فيه حكم الإعدام.

يروي لنا ألبير كامو الأحداث على لسان الراوي الأول الدكتور الملحد بيرنارد ريو الذي سخَّر نفسه من أجل علاج مرضى الطاعون. الدكتور ريو الذي سافرت زوجته خارج المدينة لتلقّي علاجاً لمرضٍ لا نعرفه. والدته معه، وأصدقاؤه حوله، فهو الشخص الذي اكتشف المرض وعرف ماهيته وهو الذي عالج المئات وماتَ مئات آخرون بين يديه. هو الذي تحدَّى الطاعون فلم يقتله الطاعون، لكنه أضعفه وهشَّمه نفسياً ومعنوياً، فإذا به يفقد صديقه تارو في نهاية الرواية عندما كان الطاعون يودع وهران.

فقد زوجته التي أنهكها المرض خارج وهران. هو الشخص الذي فرح لانتهاء الوباء ولكن حذره أبقاه متنبّهاً لأن مرض الطاعون يختبئ في الثياب وفي الأوراق القديمة ليعود وينهش أجساد الفئران والبشر مرة أخرى في زمن آخر.

ورغم كل ذلك الألم في الرواية إلا أن كامو احتفظ لنا بحفنة من المتعة في حوارات الدكتور ريو الفلسفية مع الصحفي رامبير الآتي من باريس الذي أجبره عزل المدينة على البقاء فيها وحوصر فيها بسبب الطاعون فنراه يحاول الهرب مراراً وتكراراً وكل محاولاته باءت بالفشل بسبب موظفي الدولة، ثم نراه يرضخ للأمر الواقع وكأنه سلّم بقدره الذي يحكمه الطاعون. فهنا الطاعون هو الإله، هو المتحكم في الأقدار، هو من يحيي ويميت. في الجهة المقابلة نرى الأب بينلو يلقي بعظتينن ملفتتين للنظر في بداية انتشار الوباء وفي نهايته، ففي بدايته يلقي موعظةً يشدد فيها على أن الرب هو من أرسل الطاعون كعقاب على أخطاء وخطّائي مدينة وهران. ثم في العظة الثانية نراه يعظ بالناس فرحاً ومهللاً بأن هذا الطاعون كان بلاءً وامتحاناً على الصبر عند فقدان الأحبة والأسر التي تشتّت بفعل الطاعون. وهو بذلك يمثل الدين الذي لا يملك أن يقوم بشيء سوى الدعاء في مواجهة تلك الجائحة، في حين كان الطاقم الطبي يقوم بكل ما أوتي من قوة وعلم بمواجهة ومحاربة الطاعون محاولاً اكتشاف أمصال جديدة مؤثرة ومعالجة أولئك الذين أنهكهم المرض فمعظمهم لقوا حتفهم والقلة القليلة نجت، مقدمين صورة عن الجانب العلمي من الحياة بأنه يظل يقاتل في مواجهة المصائب ولا يكتفي بالدعاء.

في "الطاعون" قدم كامو نفسه كوجودي متفائل فقد عكَس صورةً جميلة عن التفاؤل المنبعث من بين أنقاض الموت. فنرى الصور الأخيرة في الرواية كمشهد لقاء رامبير وزوجته ومشهد لقاء الأحبة مع بعضهم ومشهد السباحة في البحر جميعها عكست لنا التفاؤل الذي ظلّ محتفظاً به كامو لنا كقرّاء حتى نهاية الرواية.

يجب أن ينتهي الوباء، متى سيعالج؟ هل سينجح المصل؟ هل سينقذ الدكتور ريو مرضى آخرين؟

وأنت عزيزي القارئ في نهاية هذه المراجعة ما عليك إلا أن تعيد طرح تلك الأسئلة التي طرحناها في المقدمة بعد قراءة تلك الرواية. ستكتشف في نفسك أبعاداً لم تقدر على اكتشافها بعد.

معلومات الرواية:

الإسم: الطاعون

المؤلف: ألبير كامو

ترجمة: سهيل إدريس

عدد الصفحات: 302

طباعة: دار الآداب