الرياضيات > الرياضيات

نظرية العقد!

استمع على ساوندكلاود 🎧

كثيراً ما أضع شاحن الهاتف الجوّال في حقيبتي أو في درج مكتبي وعندما أسحبه لأستعمله أعاني كثيراً لفكّ العُقد المتشكّلة في سِلكِه، كذلك عندما أرغب في ارتداء قلادةٍ أو سوارٍ يجب أن أخصّص وقتاً لفكّ العقد الّتي تتشكل فيها بشكلٍ عجيب، هل أنتَ أو أنتِ مثلي؟

وهل تعلمون أنّ هناك نظريّةً لدراسة هذه العُقد وكيفيّة تشكّلها وتعمل على تمثيلها جبريّاًّ وتُدعى نظريّة العُقد؟

غالباً لم تسمع بما يُسمى نظرية العُقَد، إلا أنّ العالِم بيل ميناسكو Bill Menasco، والّذي تعامل مع نظريّة العُقَد لمدة 35 عاماً، يقول أنّ هذا الحقل من الرّياضيات مليءٌ بالجماليّة والتّحديات العقليّة وأنّه تطوَّرَ كثيراً منذ أن بدء بالعمل به.

يشمل هذا الحقل دراسة العُقَد الرّياضيّة، والّتي تختلف عن العُقَد الّتي نعرفها في العالَم ِ الحقيقيّ، وذلك بكونها ليس لها نهاية، حيث يمكن أن نفكّر فيها على أنّها خيطٌ أو سلسلةٌ تقوم بعَقْد ِنفسِها عدةَ مراتٍ متتاليةٍ ثمّ تقوم بإعادة طيّ ذاتِها بحلقةٍ مغلقةٍ.

ميناسكو - و هو بروفيسور رياضيات في جامعة بوفالو، في كليّة العلومِ والفنِّ- يقول : "كان يُعتَبر هذا العلم مقصوراً على فئةٍ معينةٍ عندما بدأتُ العمل به، إلا أنّه أصبح أكثر أهميّةً وتَشَبُعاً في عدة اتجاهات".

في يومنا هذا، نعلم أنّ لنظريّة العُقَد تطبيقات في مجالات مفاجئة، حيث يمكن لها أن تساهم في خَلْق أنظمةِ تشفيرٍ أفضلَ من أجل الأمن، أو أنْ تساعد في الكشف عن كيفيّة تعقيد الـ DNA في جسم الإنسان.

يمتلك النّاس بشكلٍ عام فضولاً حول العُقَد، ويعود هذا الأمر إلى أسلافِنا القدماء، حيث تُعتَبر العُقَد من أوائل التِّقنيات الّتي قام أجدادنا بابتكارها. ومن المُمكن إيجاد العُقَد في كافة أنحاء العالَم، فمثلاً يمكن ملاحظتها في الفنّ الآسيويّ (الصورة 1)، وفي الصليب السّلتي ( الصورة 2)، كما أنّها ليست غريبةً عن البحّارين الّذين يستخدمون العُقَد الّتي تأخذ شكل 8، وهي عبارة عن عُقَدٍ تقوم بطيّ ذاتها 4 مراتٍ (الصورة 3 والصورة 4).

- الصورة 1: نمذوج بسيط لاستخدام العُقد في الفن الآسيوي -

- الصورة 2: صليب سلتي من حدائق انكلترا -

- الصورة 3: أحد نماذج عقدة البحّارة -

- الصورة4: نموذج آخر لعقدة البحّارة -

السّؤال الرّئيسُ الّذي ما زال يُعتبر التّساؤلَ المركزيَّ في هذا العلم هو "كيف يمكن التّمييز بين عقدتين مختلفتين؟". فحتى لو كان للعُقدتين شكلين مختلفين في بداية الأمر، إلّا أنّه من الممكن طيّهما حتى تصبحان متطابقتان. تقوم نظريّة العُقَد بتسجيل معلوماتٍ عن العُقَد (مثلاً ما يمكن أن يحدث في حال تمّ تَغييرهما بشكلٍ ما)، وتحويل هذه المعلومات إلى تعابير جبريّة يمكنها أن تُفَرِّق بين عُقدتين. على الرَّغم من أنّ الخبراء قاموا بابتكار العديد من التّعابير الّتي تقوم بالتّمثيل الجبريّ لكل عُقدة، إلا أنّه ما زال من غير الممكن إيجاد تركيبةٍ رياضيّةٍ لوصْف كل عُقدةٍ بشكلٍ فريد.

لنظريةِ العُقَد استخداماتٌ في الفيزياء والبيولوجيا وحقولٍ أخرى. فمثلاً، عندما تنقسم الخليّة، تقوم بفكِّ ذاتِها قبل أن تقومَ بإعادةِ عَقْدِ نفسها مرةً أخرى، وذلك بمساعدةِ الأنزيمات.

أمّا في مجالِ الأمْن، فقد قام ميناسكو وطلابَه في الدّراسات العليا بابتكار بروتوكولِ أمْنٍ يعتمد على العُقَد في التّشفير، حيث يقوم بتحويل المعلومات الرّياضيّة إلى مفاتيحَ مُشَفّرةٍ تَسْمَحُ للمستخدمين بفكِّ المعطَيات السِّريّةِ الموجودة في بادجات الأمن.

أمّا عن بدايات نظريّة العُقد وأصولها، فيعودُ ذلك إلى ستينات القرن التّاسعِ عَشر، حيث كان العلماء يبدؤونَ بمحاولةِ فهمِ طبيعةِ هذا الأمر. في ذلك الوقت، لم يكنِ النّاس يدركون أنّ الذّرةَ مُحاطة بالالكترونات، وبالتّالي كان لِكِلفين Kelvin نظريّةٌ أخرى وهي أنّ المادة مؤلَّفة من عُقَد، وكلُّ نوعٍ من هذه المواد (هيدروجين، ذهب، نتروجين، أوكسجين...إلخ) كانت مؤلَّفة من نوعٍ مختلفٍ من العُقَد.

هذه النّظريّة أعطت مفاتيحَ أساسيّةً للعلم، حيث أنّها أثبتت وجودَ عدةِ أنواعٍ من العُقَد والّتي قد تكون مؤلَّفة من العديد من المواد وأنّها قد تكون مربوطة عن طريق الجزيئات.

وبما أنّ العلماء يحبون تصنيف الأشياء، فقاموا بوضع قائمةٍ تفصيليّةٍ بالأغراضِ والموادِ الّتي كانوا يعملون عليها دون تكرار، حيث قاموا بوضع جدولٍ يمثّلون فيه العُقَد، والجدول الدّوريّ للعناصر كان أيضاً على شكل عُقَد، حيث يمثّل الهيدروجين دائرةً غيرَ معقودةٍ، أمّا العناصر الثّقيلة فكانت معقودةً مراتٍ عديدة.

على الرّغم من أنّ هذه النّظريّة كانت خاطئة، إلا أنّها حازت على اهتمام العُلماء الرّياضيين، خاصةً وأنّها بقيت دون أيّ تعديلٍ تقريباً قُرابَة قرنٍ كاملٍ مِنَ الزّمن.

كمثالٍ حيّ لنظريّة العُقَد في حياتنا تشابُكُ سمّاعاتِ الهاتف الخلويّ، فمهما حاولنا لفّها بعنايةٍ قبل وضعها في الحقيبة أو الخِزانة، ستجدها عندما تحتاجُ إليها وقد تشابَكت حول نفسِها بطريقةٍ مرعبةٍ أحياناً، ومع التّجربة ستجدُ أنّه كلما زاد طول سلك السّماعات سيزيدُ تشابكها وقد جاء الدّليل على كلامنا هذا في بحثٍ لكلٍ من دوريان ريمر(Dorian M. Raymer ) ودوغلاس سميث (Douglas E. Smith ) من جامعة كاليفورنيا – قسم الفيزياء، حيث برهن بحثُهما أنّ السّلك الّذي يقلُّ طوله عن 46 سم لن يتشابك تلقائياًّ إذا ما وضِع داخل صندوقٍ متحركٍ لفترةٍ زمنيّةٍ ما، أمّا السّلك الّذي يتراوح طوله بين 46- 50 سم فسوف يرتفعُ احتمالُ تشابُكِه إلى 50% . في ذاتِ الوقت برهنَ هذا البَحثُ أنّ احتمالَ الحصولِ على المزيد من العُقَد لايزيد عن ذلك إذا زاد طول السّلك لأنّه سوف يُحصَرُ داخل صندوقٍ محدّد الحجمِ والشّكلِ ما سيمنعُ حصولَ المزيدِ من العُقَد.

قام الباحثان ريمر وسميث بأداء 3415 تجربةٍ لإثبات ذلك، وعبّرا عن نتائج تجاربِهِما بالشّكل التّالي:

- الصورة 5: مخطط قياس احتمال تشكل العُقَد مع ازدياد طول السّلك -

وحيث أنّ طول سمّاعات الهاتف الخلويّ تزيد عن 46 سم ( مثلاً طول سلك سمّاعات الآيفون 139سم) فإنّ احتمالَ تشكُّل العُقَد فيها هو 50% على الأقلّ، وعلى الأقلّ هذه سببُها أنّ شكلَ سلكِ السّمّاعات يشبه الحرفَY ما سيرفَعُ عددَ العُقَدِ المُتشكلةِ ( هذا ما أثبتته تجارب ريمر وسميث).

فيما يلي نعرض لكم مخططاً نشرح فيه كيف أنّ السِّلكَ الّذي يكونُ ملفوفاً بعنايةٍ في بدايةِ الأمرِ سرعانَ مايتشابككُ داخلَ صندوقٍ متحركٍ. ويبيّن هذا المخطط كيف أنَّهُ على نهايةٍ واحدةٍ من السِّلكِ أن تعبُرَ جزءاً آخر منهُ مرّتين لتبدأ بعقدِ نفسِها تلقائيّاً.

- الصورة 6: نموذج للطّريقة الّتي يبدأ السّلك فيها بتشكيل العُقَد تلقائيّاً. -

ربما يكون الأكثرُ سحراً في مقالِنا هذا هو ماجاءَ في جزئه الأخير، حيث أظهرَ البحثُ أنَ سمّاعاتِ الأذنِ الخاصةِ بكَ هي من تقومُ فعلاً بالتّشابكِ وتشكيلِ العُقَدِ من تِلقاء نفسِها، وهذا طبعاً بسبب طولِها والتّحريضِ الّذي يسببه المكان الّذي يحويها وليس بسبب قِلَّةِ ترتيبك.

المصادر:

هنا

هنا

هنا