التاريخ وعلم الآثار > حقائق تاريخية

على طريق الهجرة... السوريون واللبنانيون على متن سفينة التايتانيك

استمع على ساوندكلاود 🎧

قبل انتصاف ليل الرابع عشر من نيسان من عام 1912م، حدث ما لم يكن متوقعاً وغرقت السفينة الجبارة "RMS Titanic" التي أبحرت من ساوثهامبتون في المملكة المتحدة إلى نيويورك بعد اصطدامها بجبلٍ جليدي.

هذه الحادثة الأليمة سرعان ما أصبحت مصدراً لكثيرٍ من قصص الرحيل والنجاة والبطولة. لكن قصةً واحدةً بقيت في أدراج النسيان هذه القصة تروي غرق حوالي 100 مهاجر سوري ونجاة 30 آخرين شقوا عباب البحر للوصول إلى الأراضي الأمريكية. هذه المقالة تتحدث عن سوريا التاريخية أيام الدولة العثمانية قبل نشوء الدول الحديثة المعروفة اليوم وترصد أسباب هجرة هؤلاء وأعدادهم ورحلتهم وأحوال من نجا منهم.

الخروج:

أسبابٌ عديدةٌ دفعت السوريين للهجرة كحلٍ وحيدٍ لمشاكل الجوع والفقر. فالاضطرابات السياسية والدينية وتفشي الأمراض والمجاعات والأوضاع الاقتصادية الصعبة والحرب العالمية الأولى كلها أسباب اجتمعت لتدفع بالسوريين للهجرة والرحيل إلى العالم الجديد حيث بلغت هذه الهجرة ذروتها في الفترة الممتدة بين 1880 و 1920م. فخلال أربعة أعوامٍ فقط غادر ربع سكان ما يعرف اليوم بلبنان وشملت وجهة هؤلاء المغادرين دولاً عديدة نذكر منها الولايات المتحدة والأروغواي وكوبا والأرجنتين وغيرها. وقد وصفت هذه الهجرة بالمرض المعدي لكثرة المهاجرين المؤمنين بأن خلف مياه الأطلسي هناك حياة مليئة بالفرص تنتظرهم. بدأت الهجرات في أغلب الأحيان مع أفراد العائلة الأصغر سناً بسبب قدرتهم الأكبر على العمل والإنتاج. ولم تختلف القصة في العام 1912م حين غادرت مجموعة من الرجال والنساء والأطفال في رحلةٍ متجهةٍ إلى نيويورك بعدما ودعوا عوائلهم وأوطانهم.

على متن السفينة:

وصلت أخبار هذه السفينة العظيمة إلى مسامع المسافرين الناطقين بالعربية فقد وصفت بـ "عملاق البحار" و"السفينة التي لا تغرق". شجعت هذه الأخبار المهاجرين السوريين الذين سلكوا طريقهم من بيروت إلى مارساي وبعدها إلى شيربورغ في أقصى الشمال الغربي لفرنسا بالقرب من المملكة المتحدة ليسارعوا لحجز أماكنهم على متن هذه السفينة العظيمة حتى أن أغلبهم دفع معظم ما جناه في حياته لقاء تذكرةٍ في أدنى مستويات السفينة.

جُمِّع المهاجرون السوريون في السفينة ضمن غرفٍ مشتركة حيث عامل اللغة الواحدة يسهل عليهم التواصل وتلافي مشاق السفر. احتفلوا في بداية الرحلة ببداية حياتهم الجديدة حاملين معهم ممتلكاتهم الثمينة وما قد يحتاجونه في هذه البلاد الغريبة. ومن الطرائف التي تروى أن إحدى النساء قد حملت معها اللبن الرائب وقد حزنت جداً عندما وجدته قد حَمُضَ بسبب الجو الرطب لمياه البحر.

السوريون وحادثة الغرق من الطوابق السفلية:

سادت السفينة حالة من الفوضى والصراخ بعد اصطدامها بجبلٍ جليدي وأثناء غرقها، فصدرت الأوامر بنقل النساء والأطفال أولاً على متن قوارب النجاة. عوامل اللغة وعدم معرفة العديد من المهاجرين البسطاء في الطبقة السفلية للغة الإنجليزية دفع بهم إلى حالة من عدم الإدراك لما يجري على متن السفينة.

علاوةً على صعوبة التواصل الناتجة عن الفروق اللغوية، أكد بعض الناجين السوريين أن طاقم السفينة تقصد إخفاء خبر غرقها عنهم. فقد قيل لهم أن الأمور على ما يرام ولا شيء يستدعي القلق. هذا ما دفع بالعديد لإتهام طاقم السفينة بعدم الاكتراث للمسافرين على المستوى الأدنى ومحاولتهم إبقاء المسافرين الفقراء في الطبقات السفلية ليواجهوا مصيرهم. وهذا ما أكدته صحيفة الهدى المهجرية من خلال ما نقلته أن المسافرين السوريين الذين غرقوا كانوا محتجزين خلف أبوابٍ حديديةٍ مقفلة.

لم يكتف طاقم السفينة بإخفائه الحقائق ووصده الأبواب أمام المسافرين البسطاء ومنهم السوريين، بل عمدوا أيضاً إلى استخدام الأسلحة النارية من أجل المحافظة على النظام. فقد أظهرت عدة تقارير عن وجود رجال توفوا بسبب طلق ناري وليس غرقاً عندما كانوا يحاولون الوصول إلى قوارب النجاة. ادعى أحد الناجين السوريين ويدعى مبارك حنا سليمان أبي عاصي أن اثنين من رجال السفينة أطلقوا النار عليه ست مرات لكنه نجا.

ذُكرت حوادث قتل عديدة من قبل الناجين السوريين، فمثلاً أرملة طنوس بطرس كعوي أكدت أن زوجها لم يمت غرقاً بل أصيب برصاصة عند محاولته النجاة. كما أنها ادعت أن زوجها لم يكن ليموت لو أنه سافر على المستوى الأول بدلاً من الثالث في إشارةٍ منها إلى التمييز والإهمال الذي عانى منه المسافرين على المستويات الدنيا. دفعت هذه الحادثة بوالد أحد الناجين السوريين لكتابة رسالة يدعو فيها أقرباءه للسفر على المستوى الثاني بدلاً من الثالث.

أصداء الغرق:

أغفلت معظم الصحف العربية الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية في البداية قصص المهاجرين السوريين، في حين ركزت كغيرها من الصحف والدوريات على قصص المسافرين الأوروبيين والأمريكيين. لكن صحيفة الهدى أضاءت على هذا الجانب وذكرت قراءها أن هؤلاء السوريين الذين هاجروا بحثاً عن الحرية والحياة الأفضل أصبحوا أسرى القدر.

إلا أنه سرعان ما وصلت أخبار الغرق إلى المجتمع السوري في أمريكا كما في المشرق وبدأت حالة من البحث المستمر عن الأقارب والمفقودين. وقد لعبت الجمعيات السورية المهجرية مثل الاتحاد السوري وجمعية النهضة وجمعية المنتدى دوراً هاماً، إذ أنها أخذت على عاتقها الاعتناء بالناجين وتأمين غرف لهم في مستشفيات نيويورك.

كانت أعداد المسافرين السوريين الغرقى منهم والناجين محط تفاوت واختلاف تبعاً لاختلاف الصحف. فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز الشهيرة معلومات تفيد أن 80 سورياً مهاجراً لقوا حتفهم نتيجة الغرق فيما ذكرت صحف عربية أرقاماً أعلى من ذلك وقد أحصت بعضها 165 مسافراً نجا منهم حوالي 30 شخصاً بينهم أربعة رجال فقط.

بعد انتشار أخبار هذه الفاجعة وإحصاء أعداد الغرقى والناجين، بدأت رسائل وكلمات التعزية تنتشر في الصحف العربية المهجرية. وقد أخذت بعضها شكل قصائد شعرية لتأبين الضحايا وذكر مناقب الشجاعة التي تحلّوا بها. كما أقيمت عدد من الصلوات والجنائز على أرواح الضحايا السوريين فيما دُفعت بعض التعويضات للناجين.

لم تكن تغطية الصحف لهذه الكارثة لإعلام الناس فقط بل أصبحت أيضاً مصدراً تاريخياً مهماً لهذه القصة علاوةً عن أنها ساعدت الناس للتعرف على أحوال أقربائهم والحصول على أسماء الموتى والناجين. وتكمن أهمية هذه المعلومات في أنها أخذت من الناجين أنفسهم مما قد شاهدوه وعاينوه.

على المقلب الآخر، ذكرت اللوائح الإنكليزية أولاً أسماء المسافرين على المستوى الأول والثاني وبدأت بعد ذلك بتحري أوضاع المسافرين على المستوى الثالث، لكن ولسوء الحظ كانت هناك أخطاء كثيرة في توثيق أسماء المسافرين السوريين. فمثلاً أحد الناجين ويدعى مبارك حنا سليمان عاصي ذُكر اسمه في الصحف الأمريكية بعدة أشكال؛ فذكر مرةً باراك حنا، وتارةً أخرى حنا مبارك، ومراتٍ عديدة جون مبارك وأحياناً مبارك بوراك. لم تقتصر الأخطاء على أسماء الأفراد السوريين بل شملت أيضاً أسماء المدن والقرى المنحدرين منها. فمثلاً ذُكرت قرية تبنين تحت اسم أبوين وبوغرتا بدلاً من زغرتا كما أن بعضهم صُنف آشورياً بدلاً من سورياً. هذه الأخطاء في نقل وتوثيق أسماء السوريين وقراهم هي نتيجة حالة الجهل السائدة في تلك الفترة في أمريكا بالمجتمع السوري وثقافته ولغته. ونتيجةً لهذه الأخطاء وتضارب المعلومات كان على المجتمع السوري التعرف على المسافرين وتحري أسماءهم وقراهم بدقة.

الحداد في الوطن:

عمّ الحزن قرى سوريا عامةً وجبل لبنان بشكلٍ خاص، إذ تأثرت معظم عائلات هذه القرى برحيل أحد أفرادها. فبكت قرية سرعل غرق أم واثنين من أولادها بالإضافة إلى فقدان 11 شخصاً آخراً. وقد خسرت زغرتا عدداً من أبنائها، ونعت كفر مشكي أيضاً كل أولادها المسافرين على متن التايتانيك إلا واحداً نجا. بينما فقدت تحوم أربعةً من رجالها، ولم ينج من تبنين وبنت جبيل أحد. في حين كانت الخسارة الأبرز لقرية حردين حيث غرق منها 11 شاباً، ولا يزال إلى اليوم يُسمع صوت نوح نساء حردين القائلات:

ابكي ونوحي يا حردين

عالشبان الغرقانين

غرق منك أحد عشر شاباً

بسن الخمس وعشرين

المصدر:

هنا