منوعات علمية > منوعات

وهم الحركة الأبدية وإنتاج الطاقة المجانية

استمع على ساوندكلاود 🎧

تعتبرُ الطاقةُ واحدةً من أهمِّ المُعضلاتِ التي واجهت الجنسَ البشريّ منذُ اللحظة الأولى لوجودِه على هذه الأرض. وقد حاولنا على مرِّ العصورِ إيجادَ مصادرَ للطاقةِ تُسهِّلُ علينا حياتنا اليومية، فكُنّا بدايةً نعتمدُ على طاقةِ عضلاتنا في كلّ شيء كالتنقلِ والصيد (إذ تُقدّر استطاعة عضلاتنا بخُمس حصانٍ بخاريّ تقريبًا)، ومن ثمّ انتقلْنا للاعتمادِ على طاقةِ الحيواناتِ كالأحصنةِ والثيران في النقلِ والزراعةِ وحتى الصناعة (فزادَت الاستطاعةُ التي يُمكننا الاستفادةُ منها إلى حصانَين بخارييّن تقريبًا)، وبعدها انتقلْنا إلى الاعتمادِ على الآلاتِ التي زادَت استطاعةَ الطاقةِ إلى مئاتِ، بل وآلافِ الأحصنةِ البخارية.

ونظراً لأهميةِ الطّاقةِ واعتمادِنا عليها في كلِّ شيءٍ تقريبًا، فقد بقيَ حلمُ اختراعِ الآلات القادرةِ على توليدِ طاقةٍ مجانيةٍ وأبدية يدغدغُ مشاعرَ البشرِ منذ الأزل، وتمّت تسميةُ هذه الآلاتِ بالمحركاتِ دائمةِ الحركةِ، والتي يُفترضُ أنّها تتحركُ إلى الأبدِ دون توقف. وقد تمّ تسجيلُ أولِ محاولةٍ لبناءِ آلةِ حركةٍ أبديّةٍ في القرنِ الثامنِ الميلاديّ في بافاريا، ومن ثمَّ، وخلالَ الألفِ سنةٍ التاليةٍ توالَت التصاميمُ لآلاتٍ أخرى، وتزايدت وتيرةُ الاختراعاتِ الهادفةِ لبناءِ المحركاتِ الدائمةِ في عصرِ النهضة. حتّى أنّ ليوناردو دافنشي، رسامُ عصرِ النهضةِ والمخترعُ الشهير، قد أولى اهتماماً خاصاً بالآلاتِ دائمةِ الحركة، ووضع عدّةَ تصاميمٍ لهذه الآلات، ولكنّهُ في نهايةِ المطاف قال كلمةَ مشهورةً في هذا الصّدد وهي:

"يا من تَسعون وراءَ الحركةِ الأبديّة، كم من الأوهامِ الباطلةِ تضمنّها مسعاكُم؟ اذهبوا فخُذوا مكانَكُم بين أولئكِ الذين يحلُمون بتحويلِ الرصاص إلى ذهب"

قالَ ليوناردو هذا القولَ قبل عدّةِ قرونٍ من وضعِ قوانين الثرموديناميك، والتي أكّدَت أنّ وجودَ آلةٍ تتحركُ بحركةٍ أبديةٍ هو أمرٌ مستحيل. إلّا أن هذا الحلم لم يتوقف منذ عصرِ النهضة وصولاً إلى هذا اليومِ، حتى بعدَ وضعِ قوانين الثرموديناميك. ونظراً لأهميةِ هذا الموضوع، أفردَ الكاتبُ الروسيّ ياكوف بيرلمان في كتابِ "الفيزياءُ المسليّة" ذائعِ الصيت فصلًا كاملًا للحديث عن الحركةِ الأبديّة. وعرّف بيرلمان المحركاتِ دائمةِ الحركة بأنها آلاتٌ وهميّةٌ تتحركُ حركةً دائمة، ووضعَ أكثرَ من 10 تصاميمٍ لمحركاتٍ وآلاتٍ ظَنَّ أصحابُها أنّها ستُحقّقُ لهم حركةً أبديّة من تلقاءِ ذاتها. وقد بيّنَ بيرلمان أن أيًا من هذه الآلاتِ لن يعمل أبداً، بل على العكسِ تماماً، ستجلبُ الفقرَ لمن يعملُ بها كقصّةِ الشابِ الذي رآه يتسوّلُ في الشارع شبهَ عارٍ لأنّهُ أضاعَ كل أموالِهِ في سبيل صناعة آلة الحركة الأبدية، وهو يُقسمُ للنّاسِ أنه بحاجةٍ لبعضِ المالِ كي يصنعَ النموذجَ النهائيّ لمحركه أبديّ الحركةِ، والذي سيعملُ بشكلٍ مؤكّد.

من المنصفِ القولُ بأنّ الحديثَ عن الحركةِ الأبديّةِ لا ينتهي، فنراهُ يتكرر في الإعلامِ والكتبِ وصولاً إلى الأفلامِ والمسلسلات، ومن الطريفِ أن موضوعَ المحرّكاتِ الأبديةِ قد ذُكرَ في حلقةٍ من حلقاتِ المسلسل الشهير سيمبسونز (الذي يتكلّمُ عن العائلةِ الصفراء)، حيث تبني ليزا (ابنةُ عائلةِ سيمبسون) آلةً للحركةِ الأبديةِ لتثيرَ بذلكَ اضطرابِ المعلّمين الذين يبدو أنّهم يجهلون قوانينَ الفيزياء، ممّا يستدعي أباها هومر للقول "ليزا، تعالي هنا.. في هذا البيت، نحنُ نُطيعُ قوانينَ الثرموديناميك".

فما هي قوانينُ الثرموديناميك التي تُطيعها عائلةُ سيمبسونز؟

ذكرَ ميشو كاكو قوانينَ الثرموديناميك في كتابِه "فيزياءُ المستحيل"، والذي صدرَ عام 2008، وفيهِ قسّمَ الدكتورُ كاكو المستحيلَ إلى 3 أنواعٍ؛ 1- التكنولوجيا المستحيلةُ الأولى هي تلك التي لا تتوفّرُ في الوقتِ الحاضر، ولكنّها لا تُخالفُ القوانينَ الفيزيائيّة، وبالتالي يُمكن إيجادُها وتطبيقُها يوماً ما. 2- التكنولوجيا المستحيلةُ الثانية هي التي تتطرّقُ إلى الحدودِ القصوى لما نستطيع فهمَه واستيعابَه من علومِ الفيزياءِ وقوانينِها، كالسفرِ عبرَ الزّمن والذي يُتوقّعُ أن يتم تطبيقُهُ ربما خلالَ ملايينِ السنواتِ القادمة. 3- أما التكنولوجيا المستحيلةُ الثالثةُ والأخيرة فهي تلكَ التي تُخالفُ القوانينَ الفيزيائيّةَ بالأساس، وبالتالي لا يُمكنُ تطبيقُها نهائيًا، وكانت المحرّكاتُ دائمةُ الحركةِ المثالَ الذي ذكرهُ الدكتور كاكو عن هذا النوع من المستحيلات.

أمّا قوانينُ الثرموديناميك، فهي أربعة، سنذكُرُ منها القانونَين الأوّلَ والثاني لأنّهما سببُ التعارُضِ مع فكرةِ المحرّكاتِ الأبديّة. قانونُ الثرموديناميكِ الأول؛ ويُعرفُ بقانونِ انحفاظِ الطاقة، وهو مشهورٌ جدًا، وينصُّ على أنَّ الكميةَ الكَليّةَ للمادةِ والطاقةِ لا تَفنى ولا تَنشأ من العدم. أما قانون الثرموديناميك الثاني فينُصُّ على أنّ الكميةَ الكليّةَ للأنتروبي (الفوضى) تزدادُ بصورةٍ دائمة، ويمكن التعبيرُ عن هذا القانونِ بصيغةٍ أخرى وهي أنّ الحرارةَ تتدفّقُ بصورةٍ دائمةٍ من الأماكنِ الأكثرَ سخونةً إلى الأماكنِ الأكثرَ برودةً.

وبناءً على القانونَين السابقَين يُمكن تقسيمُ المحرّكاتِ دائمةِ الحركةِ إلى نوعين:

النوعُ الأولُ، هو الآلةُ التي تُعطي طاقةً بشكلٍ دائمٍ دونَ أن تستهلكَ أيَّ طاقةٍ من الوسطِ الخارجيّ، وتُسمى المحركَ الأبديّ من النوعِ الأول. وهذا النوعُ من المحركاتِ يتنافى مع قانونِ الثرموديناميك الأولِ كما هو واضح. أما النوع الثاني، فهو الآلةُ التي تستطيعُ تحويلَ الطاقةِ الحراريةِ إلى طاقةٍ ميكانيكيةٍ بشكلٍ كامل، وتسمى المحركَ الأبديَّ من النوعِ الثاني. وعلى الرّغمِ من أن هذا النوعَ يحافظُ على الطاقة، وبالتالي لا يتنافى مع القانون الأول للثرموديناميك، إلّا أنّهُ يتناقضُ مع القانون الثاني. حيث يُفترض نظرياً في هذا النوع ألّا تُبدّدَ الآلاتُ أبديةُ الحركةِ من النوع الثاني أيَّ طاقةٍ حراريةٍ تُذكر، وهو أمرٌ مخالفٌ للقانونِ الثاني الذي يؤكّدُ وجود كميّةٍ ضائعةٍ من الحرارةِ بشكلٍ دائم. ولشرح الموضوعِ بشكلٍ أفضل، يمكننا النظرُ إلى الآلةِ التالية: صورة الآلة:

هنا

يُفترض بالآلةِ الموضّحةِ في الصورةِ السابقة أن تتحركَ حركةً أبدية، ولكنّ اصطدامَ الكراتِ بجسمِ الآلة عند حركتِها سيولّدُ حرارةً بشكلٍ مؤكّد، وهذه الحرارةُ ستتبدّدُ في جسمِ الآلةِ أو الهواء، وستنتهي الطاقةُ مع الوقت وتتوقف الآلةُ عن الحركة.

هل يمكن أنْ يتمّ توليدُ الطاقةِ من الجاذبيةِ؟

يعتقدُ من يُفكّرُ بتوليدِ الطاقةِ من الجاذبية أنّ فكرتَهُ لا تتناقضُ مع قوانينِ الثرموديناميك، وبالتالي فلا مشكلةً في هذا الطرح، ولكن وعلى عكسِ التوقّعات، فإنّ الآلاتَ التي يُفترضُ بها توليدُ الطاقةِ من الجاذبية لا تخرج عن فلَكِ الآلاتِ دائمةِ الحركةِ التي بيّنّا استحالةَ عملِها. ولعلّ أشهرَ نموذجٍ لآلاتِ تنتج إنتاجِ الطاقةِ من الجاذبية هو ما يبيّنه الشكل التالي: صورة آلة يُفترض أنّها تولّد الطاقةَ من الجاذبية:

هنا

يقومُ مبدأُ هذه الآلةِ وشبيهاتِها على إبقاءِ الجملةِ في حالةِ عدمِ توازنٍ بشكلٍ دائم، ممّا سيدفعُ المحرّك إلى الاستمرارِ بالدوران. ولكنَّ عملَ هذا المحرّك يتطلّبُ بقاءَ الطاقةِ ضمنَ الآلة دون ضياعات خارجيّة، وبسببِ هذهِ الحقيقةِ فقط، فإذّه من المستحيلِ أن يعملَ هذا النموذجُ وغيرُه من النماذجِ المشابهةِ. ويمكن توضيح الشروط اللازمةِ لعملِ هذا المحرّك ومنعِ ضياعِ الطاقة كما يلي:

1) يجبُ أن تُصنع الآلةُ بدونِ احتكاك، أي لا احتكاكَ عند الدوران، ولا احتكاكَ عندما تضربُ المطارقُ بجسمِ الآلة، وهو أمرٌ مستحيل عملياً، فلا يمكن أن تُصنعَ آلةٌ بدون احتكاكٍ نهائياً. ونتيجةً لذلك فإنّ هذه الآلةَ ستتوقف في النهاية، حيث يعملُ احتكاكُ أيِّ عنصرين ببعضهما البعض على زيادةِ الحرارة والتي يجبُ أن يتمّ تبديدُها، مما سيؤدي إلى ضياعِ الطاقة، الذي سيُسبّبُ بدورِه توقفَ الآلة.

2) يجبُ ألّا تحتكَّ مكوناتُ الآلةِ بالهواء أثناء الحركة، فاحتكاكُ مكوناتِ الآلةِ بجزيئاتِ الهواء سيُسبّب زيادةَ الحرارةِ، وبالتالي توقُّفَ الآلةِ كما ذكرنا في البند الأول.

3) يجبُ أن تًصنع آلةٌ صامتة كلياً، إذ بيّنَ العلماءُ أنّ الصوتَ هو عبارةٌ عن طاقة، قإذا صُنعَت آلةٌ تُصدرُ أيّ صوت فإنّها ستخسر جزءاً من الطاقة، وبالتالي ستتوقّف لا محالة.

ويبقى السؤالُ، ماذا لو صنعنا آلةً تحقّقُ الشروطَ الثلاثةَ السابقة، فهل يمكننا عندَها توليدُ الطاقة؟

الجواب، لا. لأنّ أيّ محركٍ يعتمدُ هذا المبدأَ سيخالفُ القانونَ الأول في الثرموديناميك، لأنّ أيّ حِمْلٍ يوضعُ على المحرّكِ (المولّد على سبيل المثال) سيستهلِكُ طاقةً سواءَ كان هنالِك احتكاكٌ أم لا.

نستنتجُ مما سبق أنّ وجودَ المحركاتِ دائمةِ الحركةِ هو أمرٌ مستحيلٌ، فضلاً عن أنّ وجودها يشترطُ نقضَ قوانينِ الثرموديناميك وإثباتَ خطئها. لذلك، وفي المرّةِ القادمةِ التي ترونَ فيها أيّ تصميمٍ يقولُ صاحبُهُ أنّهُ يقدّمُ حركةً دائمةً، حاولوا أن تكتِشفوا الخدعة وراءه تمامًا كما تحاولون أن تعرفوا كيفَ يقومُ لاعبُ الخفّةِ بألاعيبِه. هل ما زِلتُم تقتنِعون بوجودِ الحركةِ الأبديّة؟ نرجوا ألّا تكونوا كذلك.

المصادر:

1- Michio Kaku، physics of the impossible،First Edition، Doubleday،New York، 2008

2- هنا

3- ياكوف بيريلمان، كتاب الفيزياء المسلية_الكتاب الأول، الطبعة الثالثة، دار "مير” للطباعة والنشر، موسكو، 1977.

4-هنا

5-هنا

6- هنا

7- هنا