الفيزياء والفلك > مقالات بقلم فيزيائيين وفلكيين معاصرين

إذا كانت المَادَةُ المُظلِمَة خفيّة، فماذا عَنِ الأشباح؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

تَشتَرِكُ كُلُ أفلامِ الرُعبِ والأشباحِ السينمائيّة بِمشهدٍ أساسيّ، ولكِنَها تَختَلِفُ في توقيتهُ حَسَبَ قِصَةِ الفيلم. فَبَعضُها يَعرِضُ هذا المَشهَدَ في بِدايةِ الفيلم كما في "الحاسّة السادسة" (The Sixth Sense)، بِحيثُ يَدخُل بَطلُ الفيلمِ إلى المطبخ فيجِدُ كُلّ الأدراجِ وأبوابِ الخزائِن مفتوحة، فَيرتَبِكُ للحظةٍ لأنّهُ لا يتذكّر فَتحَها جميعاً. فَيقومُ بإغلاقِ كُلِّ الأبوابِ مرةً أُخرى ويَخرجُ مِن المَطبخ، ثُم يَعودُ بَعدَ لحظاتٍ لِيجِدها جميعاً مُشرعَة الأبواب.

وفقاً لنتيجةِ استطلاع هاريس Harris poll الّذي أُجريَ عام 2013، فإنَ نَحوَ 45% مِنَ المُشتركين في الاستطلاعِ يؤمِنُ بِوجودِ الأشباح أو الأطياف، في حين يَزعُمُ حوالي 30% من المُشتركين بِأنَهُم عاشوا تَجرُبةً شَخصيّة تَضمّنت وُجودَ شبح.

وعِندما يُحاوِلُ أحدٌ البَحثَ في قِصَصِ الأشباح الحقيقيّة، يَجِدُ الكثيرَ مِن الرواياتِ المُشابهة لِلمشهَدِ المَذكورِ أعلاه مع فكرة مَفادُها أنهُ لا يُمكِنكَ "رؤيةُ " الأشباح ولَكِنكَ سَتشعُرُ بِوجُودِها. إذ أنَها سَتَعبَثُ بالأشياء، وهذا مَا يُمكِنُكَ رؤيتهُ فَقط.

ربما بدأتم بالتساؤُل لِماذا يَندرِجُ هذا المَقالُ هُنا فِي قِسمِ الفَلك. حسنًا، يُشكِكُ أغلبُ العُلماءِ بوجودِ الأشباح وبقصصها المُنتشِرة في أنحاء العالم، ولكن بَعدَ مُشاهَدةِ مُحاضرةٍ عَن "الكونِ المُظلِم" قَد تتسائل، بِماذا يَختَلِفُ الفيزيائيون وعلماءُ الفَلكِ عَنِ الأشخاصِ الّذينَ يَسرِدونَ قِصصًا حولَ الأشباح؟

خِلالَ العُقودِ القليلةِ المُنصَرِمَة، قامَ عُلماءُ الفَلَكِ ببناءِ هيكليّةٍ جَديدةٍ للكونِ يُسيطرُ الظلامُ عليها بنسبة 95% (27% منها على شكل مادة مظلمة (dark matter)، ونحوَ 68% منها هو عبارةٌ عن طاقةٍ مُظلِمة (dark energy). لَكِن لحظة، ما الّذي يَعنيهِ بالضَبط الفيزيائيون عِندما يَتحدثونَ عَنِ "الظلام"؟

حسناً، يعتبرُ الفيزيائيون بأنَ الظلام يتصرف بالضبط كما تفعل الأشباح في أفلام الرعب، إذ أنك لا تستطيع رؤية المادة المظلمة والطاقة المظلمة ولكنك تصدق بأنهما موجودتان لأنّهما تعبثان بالأشياء التي يمكنك رؤيتها.

من المهم أن نفهم هنا أنّ المادة والطاقة المظلمة هما شيئان مختلفان تماماً، بمعنى أننا قد نستدل على وجود كلّ منهما من خلال ظواهر مختلفة، أي أن المادة والطاقة المظلمة تؤثران بالأشياء بطرق مختلفة.

اكتُشِفَت المادَةُ المُظلِمة قَبلَ الطاقةِ المُظلِمة بِعقود، بناءً على طريقة دوران المجرات. فقد كانت حصيلة عمل شهير قامت به عالمة الفلك فيرا روبين (Vera Rubin) في سبعينيات القرن الماضي، والذي أظهر بأنّ كلّ المجرات الحلزونية تقريباً تدور بسرعٍ أكبر من المتوقَع، نظرًا لِكُتلةِ المادَةِ المرئيّة فيها. الأمر الّذي جعلَ فيرا وزملائها يَعتَقِدونَ بِوجودِ مادَةٍ غيرِ مرئية تُحيط بالنجوم في تِلك المجرات، وتَقومُ بِجرّها وتَسريعِ دورانِها حَولَ مَركَزِ المجرّة.

يَبدوا الأمرُ مُشابهًا لِما حَدثَ في المَطبخِ في مَشهدِنا السَابِق أليسَ كَذلِك؟

أمّا الطاقَةُ المُظلِمة فَقَد اكتُشِفَت قَبلَ 16 عاماً، عِندما بَيّنت عَملياتُ الرّصدِ أنَّ توسّع الكون يتسارَعُ بشكلٍ مُستمر. ومرةً أخرى فسّر العُلماء سلوكِ المادَةِ المرئيّة هذا بوجودٍ مُظلمٍ خفيّ. إذ يَعتَقِدونَ أنَ المادَةَ المُظلمة مسؤولةٌ عَن تِلكَ القَدمِ الخفيّة الطبيعية الّتي تَضغَطُ على دواسَةِ الوقودِ في الكون.

إذاً كيف ينجو الفيزيائيون وعلماء الفلك من ادعاء وجود أشباح كونية - متمثلة بالمادة والطاقة المظلمة - وهم في ذاتِ الوقتِ يَسخرونَ مِن وجودِ الأشباح؟

تَكمُنُ الإجابَةُ في البيانات، بِقوّتِها ومَدى انتِشارِها ومِصداقيَتِها.

هناك آلافُ الدِراساتِ - حرفياً آلاف - حولَ تِلكَ المَجراتِ الّتي تَدورُ بِسرعة، وقَد حَصلَت جَميعُها على نَفسِ النتائج الملحوظة. بِعبارةٍ أُخرى، إن البيانات التي تُثبِتُ فرضيةَ وجودَ المادَةِ المُظلِمة هي السائدة. لا يُشابه هذا رؤيتك لتأثير شبحيٍّ ما يَستَمِرُ لِلحظةٍ ويَختَفي. إضافةً إلى أن قوةَ النتيجة هي ذاتُها في مُختَلفِ الدراسات لأخرى، وينطبق هذا الكلام أيضاً على دراساتِ الطاقة المظلمة.

أي أن وجود الأشباحِ أمرٌ مُختلف، إذ أن العلماء يعملون على مدى أكثر من قرن مضى للحصول على كمٍّ هائل من البياناتِ المُترابِطة والقابِلة لِلتكرار، والّتي تُثبِتُ وجودَ ظاهرةٍ خارقةٍ للطبيعة. في حين أنَ مِليون حلقةٍ من مسلسل "صائدوا الأشباح" لن تُمكِنَنا مِن جَمعِ بياناتٍ تَكفي لإثباتِ وجود الأشباح.

هُناك أدلةٌ أخرى في الكون تشيرُ إلى وُجودِ المادَةِ المُظلِمة الّتي تَدفَعُ بالمادَةِ المرئية، ففضلاً عن الدوران السريع للمجرات هُناكَ بَعضُ الظواهِر الكونيّة الّتي نجحت فرضيةُ المادةِ المُظلمة من تفسيرها، مِثلَ انحِناءِ الضَوءِ في حالة العَدساتِ الثقالية و كذلك تجمع زيليونات (وهو عدد كبير جداً) المجرات على المستوى الكونيّ الهائل ضمنَ عناقيد مُترابطة. بِعبارةٍ أُخرى فإنَ المادَةَ المُظلِمة "الشبحية" هي جزءٌ من شبكةٍ مُعقدةٍ مِنَ المُلاحظات وتفسيراتِ المُلاحظات، وهناكَ أسبابٌ عديدة تَدفَعُ العُلماءَ للاعتقادِ بوجودِها.

وهُنا تَكمُنُ المُشكِلة!

فمُنذُ سنواتٍ وحتى الآن يَبحَثُ المُهتمونَ بِعلمِ الفلك عن أدلةٍ مُباشرةٍ على وجودِ المادَةِ المُظلِمة. أي رؤية الشبحِ ماثلاً أمام عينيك بدلاً من أن ترى أبواب خزائن المطبخ تنفتح باستمرار. لكِن بعدَ مجهودٍ مُضني من العمل على مدى سنواتٍ عديدة، لم يتوصل أحدٌ إلى أدلةٍ قاطِعةٍ حَولَ وجودِ جُسيماتِ المادَةِ المُظلمة، أما الطاقَةُ المُظلمة فهي شيءٌ آخر، إذ تَختَلِفُ طَبيعَةُ عَملياتِ البَحثِ المباشَرِ عنها.

ما تَزالُ لُعبَتُنا لاستِكشافِ الكونِ في بدايَتِها، ولكن في مرحلةٍ ما، إذا لَم نَتمكَن مِن إيجادِ دليلٍ قويّ يَدعَمُ فرضيّةَ الكون المُظلِم فسيتوجّبُ على العُلماءِ إعادَةُ تقييم ثِقتِهِم بالمادَةِ المُظلمة. وهذا يعني بِطبيعةِ الحالِ أنّ يأتوا بتفسيرٍ علميّ للظواهِر الّتي نُشاهِدُها أثناءَ عَملياتِ الّرصدِ الفلكي.

المصدر: هنا