البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

الأصل الفضائي للمركبات اليمينية واليسارية | هل كلُّ الأحماض الأمينية يسارية بالضرورة؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

عنوانٌ غريبٌ وغير مفهوم، هذا ما قد يتبادر إلى الذهن عند قراءته للمرة الأولى، فكيف يُمكن أن تكونَ للمركبات صلةٌ باليمين وباليسار؟ المُركَّبات قد تكون ذات صفةٍ حمضيةٍ أو قلوية، ناقلة للكهرباء أو عازلة، شفافة أو عاتمة، يُمكن أن تملكَ الكثير من الصفات، لكن، يمين ويسار! بماذا تختلف المُركَّبات اليمينية عن اليسارية؟!

حسناً، يُمكن تشبيه الأمر بيدي الإنسان، إنَّهما متشابهتان جداً، وعندما نضعُهما في مواجهة بعضهما فإنَّ كلَّ واحدةٍ منهما تُكوّن صورةً في المرآة للأخرى لكنَّهما ليستا منطبقتين على بعضهما والصورتان التاليتان توضحان المعنى:

اليد اليمنى هي صورة في المرآة لليد اليسرى والعكس صحيح

لا يمكن لليد اليمنى أن تنطبق على اليد اليسرى

وكذلك الأمرُ بالنسبة لبعضِ المُركَّبات، حالُها كحال اليد اليمنى واليسرى، توجد على شكل ثنائيات، أحدها أيمنُ والآخر أيسرُ، يُمثّل كلُّ واحدٍ صورةً في المرآة لشريكه -أو لتوأمه الكاذب إن صحَّ التعبير- وفي نفس الوقت لا ينطبقُ الثنائيان على بعضهما، والأمثلة التي تهمُّنا في هذا المقال هي الأحماض الأمينية والسكريات.

الأحماض الأمينية، بشكليها الأيمن والأيسر

إنَّ هذه الخاصيةَ التي تكلَّمنا عنها للتو -امتلاك المُركَّب صورةً غيرَ مطابقةٍ له في المرآة- تُسمَّى الـ Chirality وقد ضربنا عنها مثالين: الأحماض الأمينية والسكريات، لكن بعد هذا السرد، ما النقطةُ المهمةُ التي نريدُ الوصول إليها؟ في الواقع إنَّ الفكرةَ التي يدور حولها هذا المقال حيَّرت علماء الأحياء والكيمياء والفيزياء النظرية على حدٍّ سواء! لبُّ الإشكالية كالتالي: الكونُ يحتوي أحماضاً أمينيةً يمينية ويسارية، وكذلك الأمر بالنسبة للسكريات، لكن وفي الكائنات الحية، فإنَّ الخلايا لا تحوي سوى أحماضٍ أمينيةٍ يسارية وسكريات يمينية، ورغم أنَّ بعضَ أنواع البكتريا قادرةٌ على تحويل الأحماض الأمينية اليمينية إلى يسارية لكنها لا تستطيع استعمالَ اليمينة، فلماذا هذا؟ هذا هو بيت القصيد!

الجواب الذي نبحث عنه ليس موجوداً "الآن" بل منذ حوالي 4 مليارات سنة عندما كانت الأرض شابة، وتحوي أحماضاً أمينيةً وسكرياتٍ يمينيةً ويساريةً ما تزال موجودةً إلى اليوم، لكن في الحياة لا يوجد الاثنان كما ذكرنا (في أنبوب الاختبار، عندما نضع طلائع الأحماض الأمينية -المواد التي تتفاعل لتنتجَ الأحماض الأمينية- أو السكريات، فإنَّ 50% من الأحماض ستكون يمينيةً و50% ستكون يسارية)؛ لكن عندما نشأت الحياة في ذلك التوقيت تقريباً، فإنَّ الأحماضَ الأمينية اليسارية والسكرياتِ اليمينيةَ هما اللذين "اختيرا" فقط.

لقد اكتشفَ المرصَد الوطني الفلكي الرَّاديَوي National Radio Astronomy Observatory جزيئاتٍ موجودةً في قلب المجرة يُمكن أن تشكّلَ سكرياتٍ يمينيةً أو يسارية، لكنَّ السؤالَ المُلِّح يبقى..

لماذا اختارتِ الحياةُ اليمينَ في بعضِ المُركَّبات واليسارَ في أخرى، هل يجب أن يوجدَ نوعٌ واحدٌ فقط لتنشأ الحياة؟ ألا يمكنُ أن تملك الحياة التوأمين: المركبَ اليمينيَّ واليساري؟ هل تعود أصولُ الـ homochirality (وجود المركب اليساري فقط أو اليميني فقط) إلى بذور الحياة التي نشأت في الفضاء الخارجي أو إلى الأرض؟!

يقول Jason Dworkin الذي يعمل في NASA’s Goddard Space Flight Center أنَّ المشكلةَ تكمنُ في أنَّ الأرضَ والظروفَ التي سادتها عند نشأة الحياة منذ أربع مليارات سنة لم تعد موجودة، فقد تعرضت الأرض منذ ذلك الحين إلى وابلٍ من النيازك والزلازل والبراكين، والحياة نفسها أثرت على الأرض، لذلك فنحن لا نملك من ذلك الزمن السحيق إلا خيوطَ أدلةٍ واهية، ومن هنا تكمن أهمية دراسة النيازك اليوم، فهي-أي النيازك- تملك ظروفاً وبنيةً تشابه تلك التي نشأت فيها الحياة على الأرض.

يعمل العالم Dworkin على مشروعٍ يخصُّ الكويكب* المُسمى Bennu، إذ ستتجه مركبةٌ فضائيةٌ إليه لدراسته، ومن ثَمَّ ستهبطُ عليه لتحصلَ على "الجائزة" التي تتمثَّل بعيّنة من صخوره، وتعودُ بها إلى الأرض بحلول 2023. يعتقد العلماء أنَّ الكويكبَ Bennu قد يُقدّم دليلاً على نشأة الـ Homochirality، فالكثير من الكُويكبات تحوي مركباتٍ كربونيةً كالسكريات والأحماض الأمينية، وفي الوقت عينه، تكونُ نسبُ المُركَّبات اليمينيةِ مساويةً للمركباتِ اليسارية -كما قد يتوقع المرء- لكن في حالاتٍ أخرى تكون النسبُ مختلفة، مختلفةً إلى حدٍّ كبير، وفي كلّ الحالات التي لا تحوي نسباً متساوية من مركبات اليمين واليسار في كلّ كويكبٍ تمت دراسته، كانت نسبةُ الأحماضِ الأمينية اليسارية أكبرَ من اليمينية.

ما يدفعُ العلماءَ لدراسة الكُويكبات هي أنّها -على عكس النيازك- لم تسقط على الأرض وتتلوث بالمواد الموجودة فيها، وعندما نُحضِر العينةَ من كُويكب Bennu سنعرف من أين أتت تماماً ونكون متأكدين أنَّها غيرُ مُلوثة بالمواد الموجودة على الأرض، وعليه فإنَّ الدليلَ الذي سيأتينا من الكُويكبات سيشير إلى إمكانية وجود آليةٍ تؤدي إلى تشكيل مركبٍ يميني أو يساري، لكنَّنا مع ذلك لا نعرف إذا ما كان مصدر التفاعلات الكيميائية التي أدَّت إلى تشكيل الـ Homochirality والحياة هو النيازك أو العمليات على سطح الأرض أو كلاهما، ولا نعرف أيضاً كيفية وسبب تشكُّل هذه الزيادة أصلاً (الزيادة في نسبة الأحماض الأمينية اليسارية على سبيل المثال).

تتمحور إحدى الفرضياتِ التي تحاول الإجابةَ عن هذا السؤال حول قيام الضوء المُستقطَب Polarized Light** القادم من طرف المجرة بتدمير جزء صغير لكن مُهم من الأحماض الأمينية اليمنية، وما تبع ذلك من تضاعف الأحماض الأمينية اليسارية بشكلٍ كبير لتشكّلَ فيما بعد لَبِنَة الحياة.

ماذا لدينا أيضاً؟ تقولُ الباحثة Donna Blackmond التي درست النشأة الكيميائية للـ Homochirality طوال مهنتها تقريباً إنَّها تعتقد أنَّ أصلَ هذه الظاهرة هو خليطٌ من التفاعلات الكيميائية والفيزيائية. وفي عام 2006 قامت مع فريقها بتضخيم ومضاعفة الأحماض الأمينية اليسارية ابتداءً من خليطٍ يحوي زيادةً طفيفةً في الأحماض اليسارية -ولم ينجح هذا الأمر إلا مع الأحماض الأمينية اليسارية- ومن ثم، تصنيع طلائع الـ RNA انطلاقاً من هذه الأحماض (الـ RNA هو المركب الذي يعتقد معظم الباحثين أنَّه الأصل للمركبات البيولوجية المختلفة في الكائنات الحية)، ومع ذلك فالأمر مازال بحاجةً إلى مزيدٍ من الدراسة لإنشاء نماذجَ عن كلّ المواد الكيميائية والظروف التي سادت الأرض الشابة التي نشأت فيها الحياة.

ترى Blackmond أيضاً أنَّ الحياةَ لا تحتاجُ لتنشأ إلى اليسار فقط أو إلى اليمين فقط في الأحماض الأمينية أو غيرها فقد تتشكَّل المعلومات اللازمة للحياة (الـ DNA والـ RNA) قبل أن تنشأ الـ Homochirality (أي تتشكل مركبات يمينية فقط أويسارية فقط). وأخيراً، فإنَّ العلماءَ سيوجهون أنظارهم دائماً إلى الأرض وإلى السماء دارسين المُركَّباتِ الموجودةَ على الأرض وتلك الموجودة في النيازك والكويكبات علَّهم يضعون قطعةً أخرى من هذا اللغز في مكانها الصحيح.

هوامش:

*الكُويكبات أو Asteroid عبارةٌ عن أجسام صخرية صغيرة قطرها أقلُّ من 1000 كم تدور حول الشمس وبالتحديد بين المريخ والمشتري.

**الضوء المُستقطَب Polarized Light: لسنا بصدد التوسُّع في هذا المفهوم الفيزيائي لكنَّ ما يَهمُّنا هو التالي: يتحرَّك الضوءُ على شكل موجة: يتحرَّك الضوء العادي (غير المُستقطَب) على شكل موجة في كلّ المستويات ويكون اهتزاز الأمواج عمودياً على اتجاه الحركة، وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ الضوء المُستقطَب يتحرَّك على شكل موجةٍ في مستوٍ واحد فقط. يساعدنا هذا الأمر في دراسة بعض أنواع المُركَّبات (كالمُركَّبات اليمينية واليسارية) والتأثير عليها انتقائياً (مثل تخريب المركب اليميني فقط).

المصدر:

هنا

مصدر الهوامش:

هنا

General، Organic، and Biological Chemistry، 5th edition، Stephen Stoker، p.567