البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية

بكتريا قوم عند قوم ذواكر | تِقْنيَّة دفاع بكتيرية تفتح آفاقاً واسعة في مجال صناعة الذواكر

استمع على ساوندكلاود 🎧

دفعت محدوديةُ سعة ذواكر التخزين الإلكترونية المعتمدة على السيليكون ومشكلاتُها الباحثين إلى اتخاذ منحىً جديدٍ لتطويرها يعتمد على علم الحياة، مستفيدين من مقال علمي يُبين أنَّه يُمكن لنقطةٍ من الـ DNA الصُّنعي (الدنا: المادة الوراثية في الخلية) أن تُخزِّنَ تاريخَ البشرية كاملاً (مليار غيغابايت في المليمتر المكعب الواحد تقريباً) مع نصف عمر قد يصل إلى خمسمئة عام. كما كشفت دراسةٌ نشرتها مجلةُ Sciences أنَّه يُمكن تحويلُ مستعمراتٍ بكتيريةٍ إلى مخلوقاتٍ لتخزينِ المعلوماتِ أو بعبارةٍ أخرى: أقراصٍ مضغوطةٍ حيوية.

لم يكن بوسع الباحثين قبل هذه الدراسة أن يدمجوا أكثر من حوالي 11 بت bit في الخلية الحية وهي سعةٌ كافيةٌ لترميز مَرتبتين (حرفين أبجديين أو رقمين)، إذ مكنّتهم هذه التِقْنيَّة الجديدة من دمج حوالي 100 بايت byte من البيانات أي حوالي 73 ضعفاً (علماً أنَّ 1 بايت = 8 بت)، وهي سعةٌ قد تكفي لتخزين الجملة التي تقرؤها الآن، ثم ما لبثَ الباحثون أن أثبتوا أنَّ بإمكانهم تركيبُ DNA في المخبر وتضمينُه القدْرَ الذي يشاؤون من المعلومات وإن كانت صفحاتِ كتابٍ كامل في العلوم!

قام فريق من العلماء في جامعة هارفرد بقيادة عالم الوراثة سيث شيبمان Seth Shipman بتطوير طريقةٍ رائعةٍ لكتابة المعلومات على جينوم خلية بكتيرية حية، إذ يقول Shipman: "إنَّنا لا نريد تركيبَ DNA صناعي ومن ثَمَّ إدخالِه إلى الخلية البكتيرية، وإنَّما نسعى لاستغلال طرق الطبيعة نفسِها للكتابةِ مباشرةً على جينوم الخلية البكتيرية، وبذلك ستُنسَخُ المعلوماتُ (تلقائياً) عند تضاعف الخلية. ولتحقيق ذلك تمَّ الاعتمادُ على تِقْنيَّة تُسمَّىCRISPER وهي تِقْنيَّة تعديلٍ جينيّ تعتمدها الخلايا البكتيرية التي تتعرَّض لإصاباتٍ بسبب الفيروسات ملتهمة البكتريا (Bacteriophage). لمعرفة المزيد عن تِقْنيَّة CRISPER يُمكنكم الاطلاع على مقالاتٍ سابقة: هنا و هنا.

يُمكن عدُّ تِقْنيَّة CRISPER آليةً مناعيةً للبكتريا ضدَّ الفيروسات، فعندما يُهاجم الفيروسُ الخليةَ البكتيريةَ تقوم الأخيرة بقصٍّ إنزيمي لجزءٍ من مادة الفيروس الوراثية DNA/RNA -وهو ما تم اكتشافه حديثاً- ومن ثَمَّ تقوم بوصلِ هذه القطعة في موقع مُحدَّدٍ من جينومها، وبذلك فهي لا تُضعِف الهجومَ فحسب، بل تتمكَّن من تذكُّر هذا الفيروسِ في حال عاود مُهاجمتَها أيضاً، وأهمُّ ما في هذه العملية أنَّ هذه المناعةَ التي اكتسبتها الخليةُ ستنتقل عند تضاعُفِها إلى الخلايا البنات، وبذلك تُحافظ سلالة هذه الخلية على هذه المناعةِ المُكتسبة، وهكذا عند تعرُّض الخلية البكتيرية لهجومٍ فيروسي: إما أن تتعرَّف عليه مباشرةً في حال كان ينتمي لنوعٍ سبق أن هاجمها، أو أن تقتطعَ جزءاً من مادته الوراثية وتدمجَها بجينومها بترتيبٍ مُحدَّد إن كان يُهاجمها للمرة الأولى.

يتمُّ ترتيب القطع الفيروسية تبعاً لزمن المُهاجمة: من الأقدم إلى الأحدث، وفي هذا الأمر فائدةٌ كبيرةٌ ساعدت في نجاح استغلال تِقْنيَّة CRISPER في صناعة الذواكر، إذ يكفي أن نُزوّدَ الخليةَ البكتيريةَ التي لديها تِقْنيَّة CRISPER مفعلة بقطع DNAتحمل المعلوماتِ المطلوب تخزينها بشرط أن تكون مشابهةً للـ DNA الفيروسي، وستتكَّفل الخلية بحفظ هذه القطع بالترتيب، وعند الحاجة للمعلومات يَفحصُ الباحثون أيَّ خلية في المستعمرة البكتيرية. لكنَّ المشكلةَ التي واجهت الباحثين هي أنَّ بعضَ الخلايا البكتيرية لا تستقبل كلَّ قطع الـ DNA ما قد يُسبّب فقدانَ بعضِ المعلومات، ولتجنُّب ذلك يتمُّ إجراءُ الفحصِ واستخلاصُ المعلوماتِ من عدد من الخلايا (عادةً ما يوجد الملايين منها) ومقارنةُ النتائج للتأكُّدِ من استكمال جميع المعلومات.

أخيراً لا بدَّ لنا من أن نُشيرَ إلى أنَّه لا يزال أمامنا الكثير لنفعله قبل أن تُصبحَ مثلُ هذه التقنيات متوافرةً للاستخدام على نطاق واسع، وعلى الرغم من ذلك وبانتظار هذه اللحظة... لا ضررَ في أن نستمتعَ بحلمٍ جميلٍ عن جيلٍ جديدٍ من التِقْنيَّات قد يكون لطبق بِتري دورٌ فيها!

المصادر:

هنا

هنا

البحث الأصلي:

هنا