التاريخ وعلم الآثار > التاريخ

الحثييون... أسياد الأناضول الأعظم (الجزء الثاني)

استمع على ساوندكلاود 🎧

بلادٌ سرى فيها طموحُ السيطرةِ فسادت حتى كسرت حدوداً وظفرت بأخرى. قاومت الأعداء الذين تربصوا بها فانتصرت تارةً و ضعفت بأخرى. حفرت اسمها في أعرق كتب التاريخ بعدَ حياةٍ دامت قرابة الخمسمائة عام. إنها الامبراطورية الحثية التي نحتت أولَ حكايةِ معاهدةِ سلام، وأول من خاضَ معركةً بحريةً في العالم. ندعوكم للتعرف على تفاصيل هذه الحضارة في مقالنا التالي...

قدمنا في الجزء الأول من هذا المقال لمحة عامة عن حياة الحثيين وتاريخ مملكتهم القديمة، والتي يمكنكم قراءتها من هنا وفي مقال اليوم سنتابع معكم تاريخ الحثيين في أوج قوتهم وأقسى اتساعهم.

المملكة الوسطى:

اعتبر تيليبينوس آخر ملوك المملكة القديمة، فكانت وفاته مؤشراً لأكثر الفترات غموضاً والتي دامت لحين قيام الامبراطورية الحثية فقد سقطت المحافظات السورية التي أُرغم تيليبينوس على التخلي عنها سريعاً مستسلماً للحوريين بعدما أصبحوا أكثر تنظيماً وقوة، ومن ثم قاموا بتسليمها للمصريين بعد الحملة الثامنة للسيطرة عليها من قبل الفرعون تحتمس الثالث وهنا وجد الحثييون من مصر ولأول مرة حليفة لهم بعد أن وفرت لهم فرصة للهجوم على حلب مرة أخرى. وقد وجدت اتفاقية تبرز فضل مصر في المساعدة على تحقيق هذا المسعى وذلك عام 1471 ق. م.

خلال هذه الفترة بدأت تتعزز الروح الوطنية لدى الحثيين وخاصة بعد بروز سلالة آريّة جديدة. وأخذوا يشعرون بخطر على حدودهم الجنوبية إثر تهديد دولة ميتاني حيث استطاع الميتانيون استعادة سوريا. أصبح الوضع السياسي للدولة الحثية آنذاك في أسوأ مكان بعد نشوء تحالف بين الميتانيين والفراعنة والذي ختم بزواج ملكي بين ابنة الملك الميتاني والملك المصري الشاب تحتمس الرابع.

المملكة الحديثة:

عُرفت المملكة بهذه الفترة بالامبراطورية الحثية حيث بدأ تاريخها باستلام الملك سوبيلولييوما الأول (Suppiluliuma I) الحكم، والذي اعتلى العرش عام 1344 ق.م، وقد ذكر المؤرخ اردال يافوز: "سيطر الملك سوبيلولييوما على الشرق الأوسط خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد" يقال أيضاً أنه قام خلال السنوات الأولى من عهده بدعم البلاد وتحسين دفاعات مدينة حاتوشا فشيّدت الأسوار الضخمة لتحيط أرضاً بما يقارب 120 هكتاراً، واستمرت الامبراطورية بالتوسع إلى الجنوب الشرقي شاملة أغلب مدن الشمال السوري. وتحولت مملكة ميتاني الواسعة في عهده إلى منطقة تابعة للحثيين بالإضافة إلى منطقة الشرق الأوسط الخصب بما في ذلك المنافذ البحرية كميناء بيبلوس (جبيل).

ويوجد الكثير من الرسائل المحفوظة التي أرسلها سوبيلولييوما إلى أمنحوتب الثاني ووريثه أخناتون (رسائل تل العمارنة). ومن بينها واحدة تتحدث عن ميتاني فلطالما كانت مصر حليفة قوية لهذه المملكة وبعد تخلي الفرعون أمنحوتب الثالث عن الملك الميتاني توشراتا أصبح الملك الحثي حراً ليفعل ما يشاء في المنطقة. وبعد سيطرته على سوريا أوضح دعمه لأي منافس للعرش الميتاني، مصر، التي كانت تخشى قوة الجيش الحثي، لم يكن لها إلا أن سحبت تأييدها لميتاني وبالتالي واصلت الامبراطورية الحثية التوسع والاستيلاء على ممالك وولايات تابعة لمصر بجهدٍ لا يكاد يذكر.

وبعد موت أخناتون نصب ابنه توت عنخ أمون وليّاً للعرش وأرسل الجنرال هورمهب على رأس جيش لمواجهة الحثيين في محاولة لإيقاف انتشارهم، ولكن باءت هذه الحملات بالفشل الذريع. بعد وفاة توت عنخ أمون في 1327 ق.م، أرسلت أرملته رسالة للملك الحثي راجية إياه أن يرسل إليها أحد أبنائه لتتزوجه لعجزها عن الحكم لوحدها وعدم وجود وريث للعرش. كان طلبها طلباً لم يسبق له مثيل من قبل في مصر ولكن بعد أن تأكد ملك الحثيين من صحته أرسل ابنه زانانزا (Zananza) ليتزوجها ويصبح فرعوناً ولكن الأخير لم يستطع الوصول إلى حدود مصر فقد قُتل كما قيل على يد الجنرال هورمهب لكي يمنع أجنبياً من حكم مصر، وعلى وقع مقتل ابنه ركز سوبيلولييوما حملاته ضد مصر بشكل أكثر عنفاً واستطاع احتلال بقية المشرق.

توفي سوبيلولييوما مستسلماً لمرض الطاعون الذي انتشر في أنحاء المنطقة في عام 1322 ق. م، ويقال أن العبيد المصريين الذين حملهم معه إلى حاتوشا هم من جاؤوا بالطاعون الى البلاد. وهكذا ورثه ارنواندا الثاني (Arnuwanda II) والذي توفي أيضاً بنفس المرض تاركاً الحكم لأخيه الأصغر مورسيلي الثاني (Mursilli II)، الذي كان يعتبر طفلاً ذو تجربة ضئيلة في الحياة فلم يأخذه أي من ملوك المناطق المجاورة على نحو جدي ولكن سرعان ما اكتشفوا بأنهم كانوا على ضلال. فقد اكتسب هذا الشاب من أبيه أكثر مما ظن الجميع وسرعان ما أخذ بغزو القبائل التي لطالما شكلت صعوبة للمملكة في اختراقها. قام في بادئ الأمر بتأمين حدود المملكة بشكل قوي جبار، ثم ركّز على توسيعها شيئا فشيئا. وبعد حكم دام لخمسٍ وعشرين عاماً، توفي وترك الحكم لابنه موواتالي الثاني (Muwatalli II) والذي عُرف بمواجهته للفرعون المصري رمسيس على أرض معركة قادش وخلفه ابنه مورسيلي الثالث (Mursilli III) والذي حكم لخمس سنوات فقط وبعدها ظفر بالحكم هاتوسيلي الثالث (Hatusilli III) وهو أخ موواتالي الثاني والذي اشتهر بتوقيعه على أول معاهدة سلام في العالم، معاهدة قادش، بين الحثيين والمصريين في عام 1258 ق م.

الشكل (1): خريطة للامبراطورية الحثية في أقصى اتساعها (1350- 1295 ق.م)

في عام 1237 ق .م توفي هاتوسيلي الثالث ووصل الحكم لابنه توداليا الرابع (Tudhaliya IV)، في ذلك الوقت بدأت تظهر قوة الآشوريين وتتعاظُم متحديةً السيادة الحثية في المنطقة. دارت معركة نيهاريا (Nihriya) في عام 1245 بين القوتين، وقع على أثرها توداليا خاسراً ومعلناً بداية اضمحلال الامبراطورية العظيمة. وقد كتب المؤرخ يافوز: "توالت هجمات عنيفة من قبل أشخاص عرفوا باسم شعوب البحر، أغاروا على آسيا الصغرى مدمرين كل ما في طريقهم بما فيها بلاد الحثيين حوالي العام 1200 ق.م ولم يقدر الحثييون بعدها على استعادة أمجادهم العريقة". كان سوبيلولييوما الثاني (Suppiluliuma II) آخر ملوك هذه الامبراطورية المشهور بدوره الكبير في أول معركة برية في التاريخ عام 1210 حيث انتصر فيها الأسطول الحثي على القبارصة. ولكنه كان انتصاراً وحيداً بين وابل من الهجمات المتكررة لشعوب البحر والنمو السريع للقوة الآشورية، الأمر الذي أذاب استقرار الامبراطورية إلى أن تفككت وانهارت. وقد أحرقت مدينة حاتوشا عام 1190 ويقال أن الملك سوبيلولييوما الثاني قد لقي حتفه خلال هذه الأحداث.

إن أوج قوة الحثيين جاءت في فترة حكم سوبيلولييوما الأول عندما جابهت قواته مصر وميتاني للسيطرة على المشرق وقد انهارت حوالي العالم 1200 ق.م واصلة لحدود جبال طوروس جنوباً، أصبحت الأراضي فيما بعد تحت سيطرة الامبراطورية الآشورية الصاعدة في القرن التاسع قبل الميلاد. قام الآشوريون بتدمير كل ما اعتقدوا بعدم فائدته من الحضارة الحثية ودمغوا المنطقة بثقافتهم وقيمهم الخاصة، ولكن بقيت هذه الأرض تعرف بأرض الحثيين إلى العام 60 ق.م رغم أن تاريخهم وذكرى ملوكهم في هذا التاريخ أصبحت غباراً منسيّاً.

المصادر:

هنا

هنا

هنا