كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (رحلات غوليفر): للطبيعة البشريّة لونٌ رماديّ

استمع على ساوندكلاود 🎧

لم تُكتب روايةُ (رحلاتُ غوليفر) لتجعل قارئَها يبكي أو يضحك، بل لتكون مرآةً توجّه أصابعَ الاتّهام إلى السياسيِّين والفلاسفةِ والعلماء بشكل خاصّ، وإلى الإنجليزيِّين ومجتمعِهم وعاداتِهم بشكل عامّ. إذْ كان لسويفت هدفان أساسيّان من كتابته لهذه الرواية: سردُ مغامرةٍ شائقة، وتوجيهُ النقد الساخر إلى ما رآه تافهًا في الطبيعة البشريّة. كتب سويفت (رحلاتُ غوليفر) ليُتيح للجميع رؤيةَ العالم من منظورٍ أخلاقيٍّ مغاير لما كان عليه حينها، فلم يتوانَ عن الكتابة بلغةٍ فظّة، وسَرْدِ مشاهدَ تحمل في طيّاتِها سخريةً وتهكُّمًا لاذعًا.

تَجري أحداثُ الرواية في القرن الثامنَ عشر، على لسان بطلِها (غوليفر) المواطنِ الإنجليزيِّ الذي يَرتَحِلُ حول العالم مارًّا بأربع محطّاتٍ مختلفة، تجمعها الأحداثُ الشائقة، وروحُ المغامرة. ولا يخلو أسلوبُ سويفت من المبالغة، إلا أنّ هذه المبالغةَ لا تشكّلُ إلا جانبًا واحدًا من جوانب سويفت الكثيرةِ في النقد الساخر؛ إذْ يَطغى على روايتِه أسلوبُ الكتابة الجِدّيّة، المبطَّنةِ بالتعليقات اللاذعة، التي يملؤها استخفافٌ بالمجتمع الإنجليزيِّ بطبقاته كافّةً. كما يستخدمُ سويفت المحاكاةَ الساخرة والهَزْليّة؛ للاستهزاء بشخصيّات هامّة، وأحزابٍ سياسيّةٍ؛ كانت مرموقةً في القرن الثامنَ عشرَ في إنجلترا.

يَطرح سويفت في الرحلة الأولى الكثيرَ من الأفكار الجَدَليّة بجرأة ملحوظة؛ فيتطرّقُ إلى موضوع العاطفة الزائدة في تعامل الأهل مع أطفالهم، ناقدًا هذا الأسلوبَ حين يصف ما يفعلُه شعبُ (ليليبوت) بالحكمة؛ إذْ تُجَرّدُ دولتُهم الأطفالَ من أهاليهم حتى عمر معين. كما يصوِّر لنا سويفت شعبَ (ليليبوت) المهْتمَّ بالسياسة بشكلٍ كبيرٍ؛ أقزامًا؛ كي يبدو (غوليفر) عملاقًا بالنسبة إليهم، قاصدًا بهذا التقليلَ من شأن الأحزاب السياسيّة في إنجلترا حينها؛ حزبِ الأحرار، وحزبِ المحافظين. ويستخدم سويفت بطلَ روايته (غوليفر) شخصيّةً تكشف خبثَ السياسيِّين، ويصوِّر لنا الصراعَ الدائمَ بينه وبين شعب (ليليبوت)؛ في محاولة منه لإظهار الفروق بين الأخلاق غيرِ المكتملة التي يحملُها (غوليفر) بصفته مواطنًا عاديًّا، وبين ادّعاءاتِ سياسيِّي (ليليبوت) امتلاكَهم للصفاتِ الأخلاقيّة المثاليّة جميعِها.

وفي الرحلة الثانية، يعكسُ سويفت ما حدث في الرحلة الأولى شكلًا ومضمونًا؛ فيصوِّر لنا الـ(يوتوبيا) التي يعيشُ فيها شعبُ (بروبدغناغ) شعبًا عملاقًا؛ ليبدوَ (غوليفر) قَزَمًا نسبةً إليهم، لم يتغيّرْ في هذه الرحلةِ أيٌّ من أخلاقه، إلا أنه صار ضيفًا في وَسَطٍ مليءٍ بأناسٍ اكتسبوا الأخلاقَ وواظبوا عليها، فكان أطفالُهم أشرارًا، وبالِغوهم أخيارًا. يحاولُ سويفت بطرحه هذا أن يقدّمَ درسًا أخلاقيًّا يؤكِّد فيه إمكانيّةَ أن يصيرَ الجنسُ البشريُّ يومًا مثلَهم. كما كان أحدُ أهدافِه من سرد هذه الرحلة السخريةَ ممّن سمَّوْا أنفسَهم (رُبوبيِّين) و(عقلانيِّين)، وممّن كتبوا نظريّاتٍ حول هذه الأمور؛ كـ(ديكارت)، و(جون لوك)؛ إذ اعتقد سويفت وغيرُه؛ كـ(أليكساندر بوب)، و(جون درايدن)؛ أنّ أولئك متطرفون في وجهات نظرِهم.

وفي الرحلة الثالثة، أطلق جوناثان سويفت على هذه الجزيرة التي زارها (غوليفر) اسمَ (لابوتا)، والتي تعني بالإسبانية: أرضَ العُهْر. وكان قد سمّاها كذلك كونَها الجزيرةَ التي يسكنُها كثيرون ممّن يُطلِقون على أنفسهم لقب (علماء) في حين أنّهم مؤمنون بالعلم الزائف، كما كان يظنّ. يصوّر لنا سويفت هذه الجزيرةَ بتنظيمٍ مبالَغٍ فيه؛ رغبةً منه في الإشارة إلى أنّ هذا النوعَ من التنظيم هو نتيجةٌ حتميّةٌ للاتّباعِ المبالَغ فيه للعقل، وأنه حتمًا سيؤدي إلى الفوضى والضياع.

أما في الرحلة الرابعة والأخيرة، فيسلّط سويفت الضوءَ على فئةٍ لا تَعرفُ سوى المنطق، وتستخدمُه بشكل عقيمٍ من خلال أحصنةِ (الهوينمز)، قاصدًا بهم (الرُّبوبيِّينَ) (الرُّواقيِّين)، وعلى فئةٍ أخرى تشبه البشر جِسْمانيًّا؛ هم الـ(ياهوز)، الذين يبالغون في استخدام المشاعر بطريقة تدعو إلى القرف، كما يحملون في داخلهم كثيرًا من الخطايا، وهؤلاء قَصَد بهم الكثيرَ من المؤمنين بنظريّة الطبيعة البشريّة الشرّيرة، والخطيئةِ المتأصِّلةِ داخل الإنسان. يُضِيعُ سويفت (غوليفر) مكانيًّا وفكريًّا بين هاتين الفئتين، إلا أنه لا يبقى كذلك؛ إذْ سرعان ما تُغْوِيه فكرةُ الكمال العقلانيِّ المثاليّ، ويتحوّل إلى كارهٍ للجنس البشريِّ كلِّه، محاولًا التشبُّهَ بالأحصنة؛ بسبب سذاجتِه وغروره اللذَيْن منعاه من تقبُّلِ حقيقةِ المزيج الذي يكوّن الجنسَ البشريّ.

يريد سويفت في مقارنته تلك أنْ يَعرِضَ وجهتَي نظرٍ فلسفيّتين متناقضتين عن الطبيعة البشريّة؛ إذْ يتلخّصُ موقفُه من النظريّتين بأنه يرى الإنسان خليطًا من المنطق العقلانيِّ والمشاعر، وبأنه قد قطع شوطًا يُثنى عليه في حياته، إلا أنه ليس كافيًا ليُغريَه الغرور. ولم يكن سويفت صاحبَ إحدى النظريّات المتفائلة في عصره حولَ مستقبل البشريّة، كما أنه لم يَرَ في ازدهار العلوم في عصره أمرًا عظيمًا، بل نَوَّه إلى ضرورة وضع حدودٍ للعلم والمنطق، وضرورةِ انتشار روح الإنسانيّة.

ختامًا، يرى سويفت الإنسانَ مزيجًا متجانسًا رماديًّا من المنطق العقلانيِّ والمشاعر والأحاسيس، ويرفضُ أنْ يَرى الطبيعة البشريّةَ بلونٍ أبيضَ أو أسود، كما يقول إنّها أبسطُ من أن تُفرَضَ عليها نظريّاتٌ كهذه.

• معلومات الكتاب:

الكتاب: رحلات غوليفر.

المؤلف: جوناثان سويفت.

المترجم: محمد رجا عبد الرحمن الدريني.

دار النشر: York Press.