البيولوجيا والتطوّر > غرائب الحياة الجنسية عند الحيوانات

إناثُ سمكِ اللبروس تقولُ لا للذكور "المتطفلة"!

استمع على ساوندكلاود 🎧

من المعروفِ أنَّ الإخصابَ في الأسماكِ يكونُ خارجياً، إذ تضعُ الإناثُ بيوضها في الماءِ، وتُنتجُ الذكوُرُ نطافاً تتحرَّك سابحةً في الماءِ بمساعدةِ السياطِ إلى أن تلتقي بيوضَ الإناثِ وتخترقها وتحدثُ عمليةُ الإخصابِ. إلاّ أنَّ علماءَ البيولوجيا وجدوا أنَّ إثاثَ نوعٍ من السمكِ الصغيرِ المُلَّون يعيشُ في البحرِ الأبيضِ المتوسطِ يُدعى "سمك الرَّاس" أو اللبروس Ocellated wrasse)) تسلكُ سلوكاً غريباً، إذ تنتقي الذكرَ الأفضلَ لتخصيبِ بيوضها!

تتضمنُ عمليةُ الانتقاءِ هذه آلياتٍ في القناةِ التناسليةِ الأنثويةِ تحدّد أيَّ النطافِ الذكرية ستُخَصّبُ بيوضَها، إذ وجد الباحثونَ أنَّ شيئاً ما في السائلِ المبيضي الذي يُفرَز مع البيوض يؤثّرُ في تحديدِ نطافِ أيّ ذكرٍ ستُخصّبُ بيوضِ الأنثى.

الغريبُ في الأمرِ أنَّ إناثَ سمكِ اللبروس تُفضِّلُ الذكورَ الذينَ يبنونَ الأعشاشَ ويعتنونَ بالبيوضِ المُخصَّبةِ خلالَ مراحلِ تطورها، ولكنَّ أنواعاً أخرى من الذكورِ ممّن لا يُقدّمونَ الرعايةَ الأبويةَ يتنافسونَ على إخصابِ البيوضِ التي تضعُها الأنثى في العش الذي يبنيهِ الذكرُ "النشيط" (الذي يتوافر فيه شرطا بناءِ الأعشاشِ والرعايةِ)، إذ يتسكَّع الذكر "المتطفل" (الذي لا يبني عشاً ولا يرعى بيوضاً) حول العش ويُنتجُ كمياتٍ هائلةً من النطافِ بالتزامنِ مع وضعِ الأنثى للبيض، ولكنَّ محاولاتِه هذه تبوءُ بالفشلِ في نهاية المطاف؛ فعلى ما يبدو أنَّ الأنثى وجدت طريقةً ما لتحبطَ آمالَ ذلك "المتطفل الكسول" بتفضيلِ نطافِ الذكر الذي بنى العشّ على نطافه هو!

الكميّة أم النوعيّة؟

إذا علمتَ أنَّ الذكرَ المتطفّلَ يُنتجُ نطافاً أكثرَ مما ينتجهُ الذكرُ النشيطُ، فقد يتبادرُ إلى ذهنكَ حينها أنَّ فرصتهُ في تخصيبِ البيوضِ ستكونُ أكبر، أليس كذلك؟ في الحقيقة إنّ العملية لا تسيرُ على هذا النحو والسبب أنَّ نطافَ الذكر النشيط هي الأسرعُ وبالتالي ستكونُ منافستُها في الوصولِ إلى البيوض أعلى! وهذا ما أوضحتهُ لورنزو (أستاذة العلوم البيئية والبيولوجيا التطوريّة).

إذاً فالأمرُ يتعلَّقُ بالنوعيةِ لا الكمية! وللتأكد من ذلك أَجرى الفريقُ البحثيُّ بقيادةِ أستاذةِ العلومِ البيئيةِ والبيولوجيا التطوريّة (سوزان ألونزو) من جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز تجاربَ في أطباق بتري (أطباق زرعية) في حالتي وجودِ وغيابِ السائل المبيضي، وأظهرت النتائجُ أنَّ وجودَ السائل المبيضي رجّحَ النوعيّة على الكميّة، أي أنَّه فضَّلَ النطافَ السريعةَ على أعدادها.

متطفل لا يفقد الأمل!

يبدو أنَّ الذكرَ المُتَطفل لا يفقدُ الأملَ سريعاً! فهو يبذلُ جهوداً كبيرةً في سبيلِ منافسةِ الذكر باني العش على تخصيب البيوض، إلّا أنَّ الأنثى تستمرُّ في تفضيلِ الأخير، ولديها مبرراتها بالطبع! فالذكورُ الذين يبنون الأعشاشَ يعتنون بالبيوضِ، وهم أيضاً أكبرُ عمراً وينمون بسرعة في بدايةِ حياتهم مقارنةً بالذكوِر الذين لا يبنون الأعشاشَ (صورة 1 و2)، لذا فقد تكونُ لهذه الذكورِ صفاتٌ وراثية ذاتُ فائدةٍ للذريّة، والسببُ وراءَ تفضيلِ الإناثِ لأولئكِ الذكور هو سببٌ وراثي يهدفُ إلى الحصولِ على ذُريّة تحملُ جيناتِهم.

صورة (1) الذكور التي تبني الأعشاش، وتمتاز بكونها كبيرة الحجم وملونة.

صورة (2) الذكور "المتطفلة" وتبدو أصغر حجماً

الانتقاءُ الموجّه:

من ناحيةٍ تطوريةٍ، فإنَّ اختيارَ الإناثِ الغامضِ لذكورِ اللبروس التي تبني الأعشاشَ يُمكن أن يؤدّي إلى "الانتقاءِ الموجّه" الذي يؤثُر على تطورِ الصفاتِ الذكريّةِ. وقد وجدَ باحثون أنَّ تفضيلَ السائلِ المبيضيِ لإناثِ سمكِ السلمون من نوعِ شينوك (Chinook ) لنطافَ الذكورِ الملائمةِ وراثياً، لم يؤدِّ إلى حالةِ الانتقاءِ الموجّه. وفي هذا الصدد، تقولُ ألونزو: "إنَّ الانتقاءَ المُوجّه ضروريٌ للاختيارِ الغامضِ الذي تقومُ به الأنثى وهو ما يؤدّي فعلياً إلى تشكيلِ الصفاتِ الذكرية".

إذاً، إنَّ ما يُميّزُ هذا النوع من السمكِ هو التفاعلُ الخفيُّ بين الذكِر والأنثى على الرَّغم من أنَّ الإخصابَ لدى الأسماك خارجيٌّ (لا يحدث في القناة التناسلية للأنثى)، وهو أمرٌ مذهلٌ بالفعل! وهكذا نكونُ قد تعرَّفنا على جزءٍ يسيرٍ ممَّا تخفيهِ الحياةُ البحريّةُ المليئةُ بالأسرار، ويبقى الكثيرُ ممَّا قد تكتشفهُ الأبحاثُ القادمة...

المصدر:

هنا

البحث الأصلي:

هنا