المعلوماتية > عام

هل أنت مستعدّ للقاء قرينك الرّقميّ؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

كن مستعدا!

يستشعر الكثير منّا اليوم أهميّة وضرورة هواتفهم الذّكيّة، حتّى أنّهم لم يعودوا يستطيعون تخيّل شكل حياتهم اليوميّة من دونها، وفي كلّ يوم ٍيتصاعد ارتباط المستخدمين بهواتفهم الذّكيّة من خلال ما تقدمه لهم من خدماتٍ وتطبيقاتٍ تتسرّب شيئاً فشيئاً لكافة أنشطة حياتهم.

في المستقبل القريب ستتراجع أهميّة هاتفك الذّكيّ الّذي تمسكه بين يديك لصالح قرينك الرّقميّ الّذي يُمثّلك ويُعبّر عنك وعن شخصيّتك، وسيصبح للشّركة الّتي ستتمكن من بناء هذا النّموذج أهميّةً غير مسبوقةٍ، حتّى أنّها من الممكن أن تكون أوّل شركةٍ على مستوى العالم يتجاوز حجم أعمالها تريليون دولار.

سيصبح هذا النّموذج لك بمثابة الصّورة الشّخصيّة الّتي تلتقطها آلة التصوير، ولكنّها لن تُعبّر عن الملامح الخارجيّة فقط، وستتجاوزها لتعبّر بشكلٍ كبيرٍ عن السِّمات والاهتمامات الشّخصيّة. لهذا فمن المهمِّ أن نستعدّ مُبكراً بالتّعرّف على هذا الأمر من كافة جوانبه، وما يمكن أن يمثّله لحياتنا ومستقبلنا.

عندما تقابل شخصاً لأوّل مرةٍ، وتتكرر لقاءاتكم مرّةً بعد مرّةٍ، فإنّ هذا الشّخص سيبني صورةً ونموذجاً لك في عقله من خلال المعلومات والانطباعات الّتي يستخلصها من تعامله معك، وبمرور الوقت تصبح هذه الصّورة أكثرَ وضوحاً ودقةً، ويستطيع هذا الشّخص من خلالها أن يتنبّأ بسلوكك وردود أفعالك، وحتى من قبل أن تقوم بها.

تقوم الشّركات اليوم بجمع بياناتٍ كثيرةٍ عنك من خلال تعاملك معها واستخدامك للخدمات والتّطبيقات الّتي تقدمها، وتوّظف هذه الشّركات الخوازميّات والبرامج القادرة على التّعلّم لأجل بناءِ نموذجٍ يُمثّلك وصورةٍ تُعبِّر عنك من خلال المعلومات الّتي تجمعها عنك، حتّى تستطيع أن تتنبّأ بما تريده من خدمات، وتقدِّمها لك حتّى من قبل أن تطلبها أو تبحث عنها.

الخوارزمّية هي عبارةٌ عن مجموعةٍ من التّعليمات والخطوات الواضحة، الّتي تخبر الحاسوب ما الذي يجب أن ينفّذه، وكيف يستطيع تنفيذه. بعد تصميم الخوارزميّة يجري ترجمتها باستخدام إحدى لغات البرمجة إلى تطبيقٍ أو برنامجٍ يقدّم لك خدمة مثل كلِّ التّطبيقات الّتي تستخدمها على الحاسوب أو على هاتفك الذّكيّ. يوجد نوعٌ آخرُ من الخوارزميّات والبرامجِ تستطيع التّعلُّم من البيانات المتاحة في مجالٍ معينٍ أو عن مشكلة بعينِها، لتستطيع إنتاج خوارزميّةٍ مناسبةٍ لحلِّ المشكلة وهو ما يُمكّن هذه الخوارزميّات من التّعامل مع مشاكلَ مختلفةٍ ومتنوعةٍ. وتلعبُ الخوارزميّاتُ القادرةُ على التّعلّم دورَ القلبِ النّابض لمجال تعلّم الآلات، الذي يُمكّن الآلات والحواسيب من الإبداع لحلّ مشكلاتٍ مختلفةٍ لم يجري برمجتها فيها من قبل.

لمزيد من المعلومات يمكن الرّجوع لهذا الموضوع الّذي نُشِر من قبل على جزأين عن الخوارزميّات القادرة على التّعلّم وتعلُّم الآلة هنا و هنا.

بناء قرينك الرّقميّ:

هناك عَقَبَتان أساسيّتان تقفان حائلاً أمام بناء النّموذج أو القرين الرّقميّ لك؛ العقبة الأولى تَكمُن في أنّ هناك تضاربُ مصالحٍ لدى هذه الشّركاتِ الحاليّةِ الّتي تسعى لبناء مثل هذا النّموذج الرّقميّ، حيث أنّها تسعى لتقديم الخدمات الّتي نحتاجها، في نفس الوقت الذي تسعى فيه لتعظيم أرباحها، وهما أمران من الصّعب التّوفيق بينهما.

فمثلاً تقوم جوجل بتوّقع الإعلانات الّتي من المرجّح أن تضغط عليها، وتعرض لك منها الإعلانات التي ستدرُّ عليها أرباحاً أكثرَ، ويستطيع المعلِنون الّذين يدفعون أكثر إقحام إعلاناتهم وخدماتهم عليك، حتى وإن لم تكن هي الأكثر ملاءمة لك.

يتألف دماغنا من نصفين، فكيف ستكون شكل حياتنا لو أُضيف لدماغنا نصفٌ آخر؟ هذا ما تمناّه سيرجي برين -أحد مؤسسي جوجل- حين قال بأنّ الشّركة تريد أن تكون بمثابة جزءٍ أساسيٍّ من دماغ كلٍّ منّا، وبالطّبع لا يريد أحد أن يقوم جزء من دماغه بمحاصرته بالإعلانات من أجل تحقيق الأرباح.

العقبة الثّانية تَكْمُن في أنَّ النَّموذج أو القرينَ الرّقميّ الّذي تحاول بناءه الشّركات الحاليّة يُبنى اعتماداً على شظايا متناثرة من البيانات الّتي تتركها من ورائك عند استخدامك للتّطبيقات والخدمات الالكترونيّة المختلفة. جوجل مثلاً تبني النّموذج الرّقميّ لك اعتماداً على ما تقوم بالبحث عنه على الموقع، وأمازون من خلال ما تقوم بشرائه منه، وفيسبوك من خلال ما تتابعه من موادٍ وأشخاصٍ عليه، وهكذا.

تُعتَبَر هذه النّماذج قاصرةً إلى حدٍّ كبيرٍ في التّعبير عنْكَ وعمّا تريده، حيث يعتمد كلٌّ منها في بنائه على جزءٍ يسيرٍ جداً من اهتماماتك. لو جرى بناء النّموذج الّذي يُمثّلنا من خلال كلِّ البيانات الّتي نتركها من ورائنا باختلاف التّطبيقات والخدمات الّتي نستخدمها، فسيكون أكثر دقة في التّعبير عنّا وعن احتياجاتنا. وكلّما توفّرت بياناتٌ أكثرَ، كلّما حصلنا على نموذجٍ أكثر دِقة.

لتخطّي هاتين العقبتين سنحتاج لجيلٍ جديدٍ من الشّركات برؤيةٍ جديدةٍ كليّاً لتتعامل مع بياناتنا، تخزّنها، تحفظها، تؤمّنها وتستثمرها نيابةً عنّا. ستُؤدي هذه الشّركات أو المؤسسات لبياناتنا، الدّور الذي تقوم به البنوك مع أموالنا. وكما ندفع للبنوك مقابل إدارة أموالنا واستثماراتنا، فمن الممكن أن تحصل منّا هذه الشّركات على مقابلٍ ماديٍّ محددٍ، لتسجِّل وتدير كلَّ تفاعلاتنا مع العالم الرّقميّ، وتكون النّتيجة نماذجَ رقميةٍ تُمثِّلنا بزاويةٍ مقدارها 360 درجة.

لن تواجهنا عقباتٌ فنيّةٌ كبيرةٌ تَحُول بيننا وبين بناء هذا النّظام، الّذي سيعمل كوسيطٍ وحلقةِ ربطٍ بيننا وبين العالم الرّقميّ. ستمرّ كلّ أنشطتنا وتفاعلاتنا الرّقميّة من خلال هذا النّظام، ليجري تسجيلها وحفظها في مكانٍ واحدٍ. بمجرّد أن تصبح بياناتنا في مكانٍ واحدٍ، سيكون في استطاعة الجهة التي ترعى بياناتنا بناءَ نموذجٍ كاملٍ لكلٍّ منّا على حدة.

هناك بعض الشّركات الّتي بدأت بتقديم خدماتٍ لجمعٍ بياناتِ وأنشطةِ المستخدمين في مكانٍ ما على سحابة الإنترنت. وتُمثّل هذه الشّركات بشائرَ هذه الثّورة، ونواةً لبنوكِ بياناتنا في المستقبل القريب.

عالم جديد:

سيقدّم لنا قريننا الرّقميّ يدَ العونِ لنواجِه الحياةَ بوتيرتها المتسارعة، وَسَيْلَ المعلومات الّذي لا يتوّقف للحظةٍ، ولهذا فمن المهمّ أن تكون البيانات والنّماذج الّتي تمثّلنا تحت سيطرتنا، وليس تحت سيطرة أيّ جهةٍ أخرى. سيكون النّموذج الرّقميّ بمثابة خادمٍ مطيعٍ وقرينٍ رقميٍّ يصاحبك أينما ذهبت، ويساعدك في مهامِك المختلفة، وقد تترك له بعض المهام ليقوم بها نيابةً عنك. من المهمِّ جداً أن يكون قرينك الرّقميّ تحت تحكمك الكامل، وتتحكم فيه كما تتحكم في نقودك أو أيِّ شيءٍ آخر تمتلكه، بدلاً من ترك شركاتٍ مثل جوجل، وفيسبوك، وآبل تتصارع للسيطرة عليه والّتحكم فيه.

إذا كنت تبحث عن وظيفةٍ، وهناك على الجانب الآخر شركةٌ لديها وظيفة شاغرة، فمن الممكن أن يقوم النّموذج الرّقميّ الّذي يُمثّل الشّركة بعملِ مقابلةٍ يتفاعل فيها مع النّموذج الرّقميّ الّذي يُمثّلك، ليختبر مدى ملاءمتك لهذه الوظيفة. قد تدخل في المستقبل لموقعٍ مثل " لينكد إن" ليقوم قرينك الرّقميّ بعملِ مقابلاتٍ فوريّةٍ على كلِّ الوظائفِ المناسبة لمؤهلاتك، وذلك من خلال التّفاعل مع النّماذج الرّقميّة الّتي أتاحتها أقسامُ الموارد البشريّة في الشّركات المختلفة من أجل البحث عن الموّظف المناسب لموقعٍ شاغرٍ لديها، ليعود لك " لينكد إن" بقائمةٍ بالوظائف الواعدة والمناسبة لك.

إذا كنت تبحث عن سيّارة سيكون في استطاعة قرينك الرّقميّ الّذي يُعبّر عنك أن يبحث عن الخيارات المناسبة لك، ويقوم بالتّفاوض عليها مع برامجِ حاسوبٍ خاصة في الشّركات الّتي تبيع هذه السّيّارات للوصول لأفضل صفقة رابحةٍ لك، وقد تجد السّيّارة الّتي تريدها في مرآب منزلك من دون أن تتحرك من مكانك.

نحن على أعتاب عالم جديد تتشكل ملامحه بين أيدينا. هناك جهود كبيرة تقوم بها الشّركات الكبرى لبناء نموذجٍ رقميٍّ يُمثّلك من خلال البيانات الّتي تحصل عليها من استخدامك لهاتفك الذّكيّ، وتتحرك هذه الشّركات على الطّريق بخطواتٍ ثابتةٍ وسريعةٍ ومن ثمارِ هذه الجهود خرج لنا المساعد الرّقميّ Siri من Apple ومثلُه Google Now و Cortana من شركة Microsoft.

في أيّ لحظةٍ سيكون هناك ملايين النُّسخ من قرينك الرّقميّ تُبحِرُ في الإنترنت لتقوم من أجلك بكلِّ ما تريدُ القيام به، فهذا يقوم لك بمقابلاتٍ للحصول على وظيفةٍ جديدةٍ، وآخر يبحث من أجلك عن منزلٍ جديدٍ، ونسخة أخرى تبحث عن شريكٍ لحياتك.

في كلّ مرّةٍ سيقوم نموذجك الرّقميّ بعرضِ قائمةٍ مُنتقاةٍ من الخيارات المناسبة لك عن أمرٍ ما، وعندما تقوم باختيار أحد هذه الخيارات، سيتعلّم النّموذج شيئاً جديداً عنك، وهو ما سيجعل النّموذج أكثر دقةً وأكثر تعبيراً عنك في المرّات القادمة. كُلّما تمكن قرينُك الرّقميّ من التّعبير عنك بصورةٍ أدق، سيكون بمقدوره التّفاعل بصورةٍ أقرب لتفاعلك في العالم الحقيقيّ، ولكن بطريقةٍ أسرعَ بملايين المرّات.

العالم الرّقميّ في الغد سيكون عبارةً عن ساحةٍ متراميةِ الأطرافِ تتفاعل فيها النّماذج الرّقميّة الّتي تُمثّل كياناتٍ قائمةٍ في الواقع، سواءً كانت هذه الكياناتُ عبارةً عن أشخاصٍ أو مؤسساتٍ أو شركاتٍ أو آلاتٍ أو أيّةِ كيانات أخرى. إنّه عالمٌ موازٍ ينتقي لك الأشياءَ الواعدةَ لتجرّبها في العالم الحقيقيّ.

النّموذج الرّقميّ الّذي يُعبِّر عنك سيكون بمثابةِ مرآةٍ رقميّةٍ تنظر فيها لترى نفسك، وستستطيع أن ترى فيها ظاهرك في نفسِ الوقت الّذي تتواصل وتتحاور معك لتخبرك الكثيرَ عن نفسِك وشخصيّتك. بالتّأكيد سيكون عندَكَ لها الكثير من الأسئلة، وقد لا تعجبك بعض الإجابات الّتي ستسمعُها منها، ولكنّها قد تدفعك للتّأمُّل والتّفكُّر، لتفتح لك آفاقاً وأفكاراً جديدةً، وهو ما يمكن أن يساعدك على التّغيير، لتصبح إنساناً أفضلَ من أجلِ نفسك ومن أجلِ مَن حولِك ومن أجل الإنسانيّة كلّها.

مصادر:

The Master Algorithm: How the Quest for the Ultimate Learning Machine Will Remake Our World- Pedro Domingos- Basic Books 2015 - ISBN 978-0465065707

هنا