التاريخ وعلم الآثار > التاريخ

حكايةُ تاريخِ قِبلة العالمِ القديم .. حكايةُ امبراطورية بَابِل

استمع على ساوندكلاود 🎧

يحكُم تاريخُ الشرقِ الأدنى القديم الكثير من التعقيدات السياسيَّة التي كان نجومها دولٌ وحضاراتٌ حفرت أمجادها في تاريخ الإنسانيَّة وأخضعت لها رقابَ شعوبٍ عديدة قبل أن ترضخ هي الأخرى وفقاً لدائرة الزَّمن الذي ما أقام امبرطورية إلَّا وهدمها. واليوم سنسرُدُ لكم وبشكلٍ مختصرٍ التاريخَ السياسيَّ لإحدى أعظم وأشهر امبراطوريات العالم القديم ألا وهي امبراطورية بابل فنتمنى لكم قراءةً ممتعة

تنويه: جميع التواريخ المذكورة في المقال هي "قبل الميلاد" إلا إذا ذُكر عكسُ ذلك.

ظهرت مدينةُ بابل للمرَّة الأولى في مصادرنا بعد سقوط امبراطورية سُلالة أور الثالثة والتي حكمت هذه المدينة في السَّهل الرسوبيِّ بين نهري دجلة والفرات لأكثرَ من قرنٍ من الزمن (2112-2004). وكان سببُ سقوط هذه الدولة هو الأزمةُ الزراعيَّة، إضافةً إلى قبائل البدو التي بدأت باستيطانِ جنوب بلاد ما بين النهرين. إحدى هذه القبائل هم الأموريون الذين حكموا ايسن ولارسا وبابل فقد شكَّلوا ما يُعرف بالأسرة الأولى التي حكمت بابل من (1894-1595).

الشكل (1): الجزء العلوي من مسلَّة حمورابي

إنَّ أوَّل الحُكَّام البارزين للعائلةِ البابليَّة الأولى أموريَّة الأصل هو حمورابي والذي حكم في الفترة الممتدة بين (1792-1750)، وقد أطلق اسم "مات اكادي" (وتعني بلاد الأكاديين) على منطقة السهل الرسوبي العراقي، هذه المنطقة التي نُسميها نحن اليوم "بابل". وتُعتبر بابل واحدةً من أكثر مدن العالم القديم خصوبةً وغنى.

خاضت بابل حديثةُ المنشأ مع حليفتها لارسا حرباً دفاعيةً ضروساً ضد عيلام العدو اللدود للأكاديين. وبعد دفعِ خطرِ العيلاميين بنجاح، حاربت بابل حليفتها لارسا وهزمت ملكها ريم سين. وتكرَّر هذا السيناريو مع ملك ماري زمري ليم، حيثُ تحالف معه حمورابي لحرب الآشوريين وبعد أن انتصر عليهم، هاجم حليفه السابق فأطاح به. وقد أُعلنت حروبٌ أخرى ضد حلب وعيلام وأشنونا والقبائل الجبليَّة في زاغروس. انتصرت بابل وعلا مجدُها وصارت عاصمةً تحكُمُ المنطقة بأسرها من حرّان في شمال الغرب وحتى الخليج العربي في جنوب شرق البلاد.

أصبحت نجاحاتُ حمورابي مشكلةً لخُلفائه، فبعد احتلال ماري في شمال الغرب وأشنونا في الشَّرق، صارت الامبراطوريَّة البابليَّة في تماسٍ مباشرٍ مع القوّة المتزايدةِ للامبراطوريةِ الحِثِيَّة في الأناضول وقبائلِ الكيشيين في زاغروس. وكان من المستحيل لخُلفاء حمورابي القتال على كل هذه الجبهات في نفس الوقت، فبدؤوا بفقدان السيطرة. مما أدى لقيام دولةٍ مستقلة في أقصى الجنوب وهي ٍ "دولة أرض البحر" والتي لم تنجح فقط بانتزاع الاستقلال وإنَّما أرهقت البابليين بالغزوات ونجحت في بعض الأحيان في الوصول إلى بابل نفسها. وفي عام 1595 تقدَّم الملكُ الحِثِّي مورسيليس على طول نهر الفرات ونجح في إسقاط مدينة بابل واستولى على تمثال الإله مردوخ؛ وهو أسمى آلهة بابل، من معبد ايساكيلا.

حُكمُ الكاشيين (1570-1155):

سيطرت قبائلُ الكاشيين على المدينةِ بعد هذا الهجوم المذهل، ويبدو أنهم تحولوا إلى بابليين، فيذكُر لنا أوَّلُ ملك للكاشيين الحاكمين لبابل "اجوم- كاكريم" بأنّه هَزَمَ الحِثيين وأعادَ تمثال الإله مردوخ إلى بابل. وحتَّى وإن لم يكُن هذا الإدعاء سوى دعايةً سياسيَّةً، إلا أنَّه يُثبت لنا بأن الكاشيين قد فهموا بابل وأهلها. كانت فترة حكم الكاشيين إيذاناً بفترةٍ من التراجع والضمور في مجد بابل استمرَّت ألف عامٍ تقريباً حتى بعد رحيل الكاشيين. ولكن لا يعني هذا الانحدارً انعدامَ وجود الدولة المركزيَّة أو عدم وجود أيِّ دورٍ سياسيٍّ للملوك الكاشيين، وإنَّما وبشكلٍ عام دائماً ما كانت بابل في ظلِّ هيمنة دولةٍ أخرى مسيطرة، وقد كانت إحدى هذه القوى هي مملكة ميتاني، والتي حكمت الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين. وقد انهارت ميتاني بعدما تحالف الحثيون والآشوريون ضدها، وكان ذلك نقطة بزوغ القوة الآشوريَّة في عصرهم الوسيط في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ومع وجود متنمرٍ جديدٍ يُبرز عضلاته، أخذت بابل تنحني باحترامٍ لملوك آشور مثل شلمنصر وتيكولتي نينورتا.

ومع هذا قام نينورتا الآشوري بغزو بابل واحتلالها ومصادرة تمثال إله بابل مردوخ. ولكن احتلال بابل ونفي مردوخ لم يكن ليدم طويلًا، فقد قام العيلاميون في القرن الثاني عشر بغزو بابل واحتلالها ونهب كنوزها وسلب تمثال مردوخ مع الكثير من الأشياء الأخرى ومنها مسلَّة حمورابي التي بقيت في سوسا عاصمة عيلام إلى أن تمَّ اكتشافها عام 1909م.

العصرُ البابليُّ الوسيط:

الشكل (2): نبوخذنصر الأول

انتهت حقبةُ الملوك الكيشيين لتأتي سلالةٌ جديدةٌ من الملوك لحُكم بابل ألا وهي سلالة ايسن الثانية. وقد حققت هذه السلالة نجاحاتٍ معينةً حيث تمكَّن ملكها نبوخذ نصر الاول (1126-1104) من غزو عيلام وإعادة تمثال الإله مردوخ المسلوب.

إلا أنّ هذه الأمجاد لم تستمر سوى لفترةٍ قصيرة. ففي القرن الحادي عشر تسلَّل الآراميون إلى بابل ما أدَّى إلى إضعاف الدولة المركزيَّة تدريجيَّاً واستقلَّت المدن عن سلطتها، بل إنَّ هنالك مصادرٌ تًشير إلى أنَّ الحكومة البابليَّة لم تكن قادرةً على دفع أتعاب الكُتَّاب. لم يكن الوضع أفضل في الشمال حيث آشور، فقد عانت تلك الدولة أيضاً من فترة ضعفٍ بعد وفاةِ الملك الآشوري تغلات فلاسر الأول (1114-1076)، وعلى كل حال يُسمي المؤرخون الفترة ما بين (1100 و 800) بالعصور المُظلمة بالنسبة للعالم القديم. استقرت مجموعة جديدة من الناس خلال هذه الفترة في جنوب غرب بابل وهم الكلدانيون آراميّو الأصل. وكانت العلاقة بين بابل والوافدين الجُدُد عدائيةً ولكن فيما بعد طَغَتْ الثقافة البابليَّة وتحوَّل الكلدانيون إلى بابليين.

الحقبةُ الآشوريَّة(729-626):

كان الآشوريون أول من تعافى من فترة الركود هذه تحت حُكم ملكهم آشور ناصربال الثاني (883-859) والذي قاد امبراطوريته إلى التوسع مرةً أخرى، واستمرَّ هذا التوسع بعهد خُلفائه أيضاً. كانت إحدى أكبر التحديات التي واجهت الآشوريين هي بابل وكيفية احتواءها ودمجها، فهي أعظم من أن يتم اختزالها بمحافظة. هنا ابتدع تغلث فلاسر الثالث (744-724) طريقة "المَلَكيَّة المزدوجة" بحيث يتحد القطرين تحت حُكم ملكٍ واحدٍ، فصار هو ملكَ آشور وبابل.

ولكن لم يهدأ الوضع في بابل، حيث ثار البابليون مرتين في محاولةٍ للاستقلال بقيادة مردوخ أبلا إيدينا الثاني لينجح في الوصول للعرش والحُكم بين (721-710) ومرة أخرى عام 703، قبل أن يقمعَ الملك الآشوري سنحاريب الثورةَ البابلية بعنفٍ بالغ، فاحتلَّ المدينة وقام بتهجير أهلها إلى نينوى. بقي البابليون تحت الترحيل الإجباري بعيداً عن مدينتهم حتى سمح أسرحدون خليفة سنحاريب للشعب بالعودة إلى دياره. وعلى هذا الأساس ظلت العلاقة بين الاشوريون والبابليون متوترة.

ظنَّ الملك الآشوري آشوربانيبال (668-631) أنّ بإمكانه حلُّ مشكلة بابل بتنصيب أخوه شمش شوم أوكين نائباً للملك ومسؤولاً عن الجزء الجنوبي من بلاد ما بين النهرين، وأنَّهما سوياً سيضمنان عدم ثورة البابليين لكنَّه كان على خطأ. فعندما كان آشوربانيبال منشغلاً في إحدى الحروب ثار عليه أوكين واحتاج اشوربانيبال عدَّة سنينٍ لاستعادة النظام والسلطة.

العصرُ البابليُّ الحديث (626-562):

بعد وفاة آشوربانيبال بدأت الاضطرابات تضرُبُ بلاد آشور. وفي عام 627 أرسل الملك الآشوري اثنين من أقاربه "سين سومليسير و سين سار اشكون كحكامٍ لبابل، ولكنهم طردوا جميعاً على يد جنديٍّ بابليٍّ يدعى نبوبلاصر، والذي حارب في يوم من الأيام إلى جانب الآشوريين لكنَّه الآن بدأ بتشكيل مملكته الخاصة. وحسب الوثائق البابليَّة جلس نبوبلاصر على عرش بابل في 23 من تشرين الثاني 626، وكان هذا الحدث مؤشراً لدخول بابل حقبةً جديدةً من تاريخها سمَّاها المؤرخون "العصرَ البابلي الجديد".

كان القائد الجديد لبابل متحمساً لهزيمة آشور،وأصبحت بابل القوية نذيراً بتغيير موازين القوى في العالم القديم، لذلك عَمِلَ المصريون على دعم آشور في حربها ضد بابل.

تشرحُ لنا "وثيقة سقوط نينوى" أخبار تلك السنين. ففي 616 هزمَ نبوبلاصر الآشوريين على ساحل الفرات جنوب حرّان. ويبدو أنَّه كان يريد من وراء هذا التحرك العسكري أن يقطع الطريق بين العاصمة وبقيَّة المدن الآشورية من جهة الغرب، لكنَّه اضطر إلى الانسحاب بعد وصول جيش المصريين للنجدة.

في السنة التي تلتها، قرر البابليون غزو قلب بلاد آشور. وبالفعل ضربوا الحصار على آشور العاصمة الدينيّة للآشورين. كان الآشوريون قادرين على صدِّ مهاجميهم، ولكن في عام 615 هاجمت القبائل الميديَّة مدينة آشور وتمكَّنت من اسقاطها حتى قبل أن يصل نبوبلاصر لتقديم العون. وقَّع نبوبلاصر اتفاقيةً مع ملك الميديين سياخريس. وتمَّ تدعيم هذه الاتفاقية والتحالف بزواجٍ ملكيٍّ بين ولي العهد البابلي نبوخذنصر والأميرة أميديا ابنة ملك الميديين. وبعد عام من الحملات غير الحاسمة، شنَّ الميديون والبابليون حصاراً على العاصمة الآشورية نينوى في آذار 612 والذي استمر لثلاثة أشهر أدَّت إلى سقوط عاصمة الآشوريون بيد الغُزاة وإقدام ملِكِها سين سار ايشكون على الانتحار.

شُنت العديد من الحملات العسكرية الأخرى في حرّان المجاورة، حتى فرَّ منها الملك الآشوري آشور أوبلط. لكنَّه عاد ومعه جيش المصريين يقودهم الفرعون نخاو الثاني (610-595). هُزم الفرعون عام 605 على يد ولي العهد البابلي نبوخذنصر قرب كركميش على ضفة الفرات.

الشكل (3): الإمبراطورية البابلية في أقصى اتساعها

تُوفي في نفس العام نبوبلاصر الأب المؤسس للسلالة البابليَّة الجديدة، واستمر ابنه نبوخذنصر برعاية الأمجاد وقيادة التوسع نحو الغرب ليحتل المزيد من الممتلكات الآشورية. لا نعلم بشكل دقيق أين ومتى رُسمت الحدود بين بابل ومصر، وتُشير المصادر إلى انسحاب المصريين إلى صحراء سيناء تاركين فلسطين بأيدي البابليين، لكن الباحث اليوناني هيرودوت هاليكارناسوس يقول بأنَّ غزة بقيت ضمن السيادة المصرية.

الشكل (4): لوحة لويليام بليك تمثل نبوخذنصّر وهو مصاب بالجنون

خلال هذه المرحلة سقطت أورشليم بيد البابليين (597) وعندما ثار ملكها سقطت للمرة الثانية عام (587) وتم ترحيل سكانها اليهود إلى بابل، وهذا ما يُعرف تاريخياً بـ "السبي البابلي". خضع الغرب كله للبابليين ولم تقاوم سوى مدينة صور والتي سقطت هي الأخرى عام (585).

ومع هذه الهيمنة البابلية الساحقة على الشرق الأدنى، صار جلياً أنَّ السلالة الملكية العظيمة في الشرق الأدنى القديم قد تبدَّلت من الآشوريين إلى البابليين، وتغيرت النخبة الحاكمة لكن الامبراطورية بقيت نفسها تقريباً. هذا ما حصل بالضبط مع الإخميديين والسلاجقة الذين لم تكن امبراطورياتهم مختلفة كثيراً عن سابقاتهم.

السقوط (539):

مات نبوخذنصر عام 562 وخَلَفه ابنه أميل مردوخ والذي سرعان ما قُتل بواسطة أخيه غير الشرعي نيرغال شاريزر (نيريغليسار أو نيرغال شراصر) والذي تولى الحكم من (559-556) وغزا أنطوليا (الأناضول) وانتصر في قيليقية وعبَرَ جبال طوروس. وعلى الرغم من نجاح فتوحاته إلا أن الدماء الملكية لم تكن تجري في عروقه، لذلك خُلع بانقلاب من الملك الجديد نبونيد.

يُرجح أن الانقلاب قد صُنع بتدبير من ابن نبونيد " بلشاصر". لم تأخذ المصادر نبونيد على محمل الجد ووصفته بالمجنون والمجدف الذي فضَّل عبادة الإله سين في حرّان على عبادة مردوخ وتُشير مصادر أخرى على أنَّه أهمل احتفال الأكيتو البابلي.

مع كل هذا النقد لنبونيد إلا أنه نجح في توسيع المملكة البابلية وضم أجزاءً من الأراضي العربية خاصةً من مملكة الأنباط. ولكن كانت هناك قوة عظمى بدأت بالنمو في الشرق مع نهوض الامبراطورية الفارسية في إيران. وقد استطاع ملكهم قورش العظيم في عام 550 من إسقاط آخر ملوك الميديين أستياجيس، وأضاف عام 547 ليديا إلى مملكته بعد إعدام الملك كرويسوس. وبعد هذه الحملة لم نعد نسمع عن قيليقية في المصادر البابلية مما يوحي بأنها إنحازت إلى صف قورش. في عام 539 هاجم قورش العظيم بابل واحتلها وجعل ابنه قمبيز حاكماً عليها.

كان هذا السقوط هو النهاية للدولة البابلية، ومع هذا لم يستسلم البابليون سريعاً فهم لم ينسوا بأنهم حكموا العالم في يوم من الأيام فقادوا عدة ثورات منها ثورة نبوخذنصر الثالث (522) ونبوخذنصر الرابع (521) وبيل سيماني وساماس ايريبا عام (484) وثورة نيدين بيل (336\335) ويُرجح أن يكون هناك المزيد من هذه الثورات.

المصدر:

هنا