الطب > ‫‏كيف يعمل جسم الإنسان‬؟

سلسلة "كيف يعمل جسم الإنسان؟" - العين، الكاميرا الخارقة (الجزء الأول)

استمع على ساوندكلاود 🎧

كم تبلغُ دقةُ الكاميرا في هواتفِكم المحمولة؟ 20 ميغا بيكسل على أفضلِ تقدير، لكنَّكم تملكونَ كاميرا بدقةٍ تصلُ إلى 567 ميغا بيكسل، إنَّها العينُ البشرية! إحدى الأعضاءِ المذهلةِ في أجسامِنا، ولا شكَّ أنَّ معظمَ الإحساساتِ التي نعتمدُ عليها في حياتِنا اليوميةِ هي إحساساتٌ بصرية؛ فبإمكاننا أن نقودَ السيارةَ ونجتازَ الامتحاناتِ في الجامعةِ وأن نمارسَ قسماً كبيراً من نشاطاتِنا اليوميةِ إذا كانت حاسةُ الشمِّ أو التذوقِ متضررةً شرطَ أنْ تكونَ حاسةُ الرؤيةِ سليمةً؛ في هذا المقال سنحاول أنْ نستكشفَ عجائبَ هذه الكاميرا الخارقة... هذه البِلَّورةُ السحريةُ التي تُرينا العالمَ حولَنا! ولكي نتعرَّفَ على العين، سنخوضُ رحلةً طويلةً ومُشوِّقة، رحلةً منذُ البداية، سواءٌ أكانتِ البدايةُ تاريخيةً ـ كيف فهِمَ أجدادُنا العين- أمِ بيولوجيةً- كيف تتشكَّلُ العينُ لدى الأجنَّةِ حتى تصلَ إلى الشَّكلِ الذي نراه - وكلُّ ذلك وصولاً إلى آخر ما توصَّل إليه علماء الفيزيولوجيا من اكتشافاتٍ حول العين...

تبدأ قصَّتُنا ـ أو قصةُ العينِ بالأحرى ـ في اليومِ 22 من الحمل، إذ تظهرُ العينُ البدئيةُ كثُلمٍ أو انخماصٍ غير عميقٍ فيما يُسمّى بالـ "الدّماغ المُقَدَّم" أو forebrain، وعندَ انغلاقِ الأنبوبِ العصبيّ (والأنبوبُ العصبيُّ بنيةٌ خَلَويةٌ لدى الجنينِ يتشكَّلُ منها الجهازُ العصبيّ) فإنَّ الانخماصين (انخماصٌ لكلّ عين) المذكورَين يُصبِحان نتوءَين صغيرينِ، وبعدَها يَخضعان لعملياتٍ مُعقّدةٍ منها: تماسُهُما مع الأديمِ الظَّاهرِ ectoderm (وهو عبارةٌ عن الخلايا الظِّهاريةِ الخارجيةِ للجنين- والظَّهارةُ هي نوعٌ من أنواعِ النسجِ الحية) وهي عمليةٌ ضروريةٌ لتشكّلِ عدسةِ العين، وتتمُّ عملياتٌ أخرى كثيرةٌ تؤدّي في النهاية إلى تشكيلِ العينِ في الشَّكلِ الذي نراه..

العين البدئية في اليوم 22

بنيةُ العين (لمحة تشريحية):

عندما نتكلَّمُ عن العينِ فإنَّ أولَ ما يتبادرُ إلى الذّهنِ على الأغلبِ هو القُزَحِيَّةُ iris ، تلك البُنيَةُ ذاتُ اللونِ المُميَّزِ التي قد تكونُ بُنيَّةً أو خضراءَ أو زرقاءَ وحتى بنفسجيّة (وسنتكلَّمُ عن ألوانِ القُزَحِيَّةُ لاحقاً)، تحيطُ بها طبقةٌ بيضاءُ تُسمَّى الصُلبةَ sclera، وفي وسطِ العين (أو بالأحرى القُزَحِيَّةُ ) يوجدُ البؤبؤ pupil وهو فتحةٌ صغيرةٌ موجودةٌ في مركزِ القُزَحِيَّةُ. تُغيّرُ العضلاتُ الملساء* الموجودةُ في القُزَحِيَّةِ قطرَ البؤبؤ؛ فتصغّره إذا كانَ الضوءُ شديداً كي نحصلَ على رؤيةٍ واضحةٍ ولا تتضرَّرَ شبكيَّةُ العينِ بالضوءِ الشديد، وعلى العكس، فإنَّها تكبّرُه إذا كانَ الضوءُ ضعيفاً، ويُغطى البؤبؤُ بطبقةٍ شفافةٍ تُسمَّى القرنيةَ cornea.

وخلفَ البؤبؤِ توجدُ مادةٌ تُسمى الخَلْطَ المائيAqueous humor (وهو ـ كما يوحي اسمه - سائلٌ شفَّافٌ)، وخلفَ الخَلْطِ المائي، تقعُ العدسةُ lens وخلفُها الخَلْطُ الزجاجيُّ Vitreous humor، ومن بعدِها الشبكية. وتحرِّك كرةَ العينِ ككلِّ، ستُ عضلات. ولأنَّ أحداً لن يحبِّذَ تحوّلَ المقالِ إلى جلسةِ تشريحٍ مُملّة، سنكتفي من التشريحِ بهذا القدْرِ وننتقلُ إلى القسمِ المُشَوِّق؛ كيفَ تعملُ العين!

لمحة عن تشريح العين

لونُ القُزَحِيَّةِ:

قبل أنْ ننتقلَ إلى صُلبِ موضوعِنا، يُمكنُنا أنْ نعرِّجَ على موضوعٍ ممتعٍ يَهُمُّ الجميعَ تقريباً وهو لونُ العين، وبالتحديدِ لونُ القُزَحِيَّةِ. يعتمدُ لونُ القُزَحِيَّةِ على نحوٍ رئيسٍ على كميةِ مادةٍ تسمَّى الميلانين، فالقُزَحِيَّةِ التي تحوي كميةً كبيرةً منه تكونُ ذاتَ لونٍ أسودَ، وكلَّما قلت تغيَّر لونُها إلى البُني، ومن بعدِه الأخضرِ والأزرق ثُمَّ الفضيّ، وحتَّى أنَّنا قد نشاهدُ ألواناً كالبنفسجي، أو أنْ تكونَ كلُّ عينٍ بلونٍ مُعيَّنٍ وهذا ما يُسمَّى بالـ Heterochromia.

أمرٌ آخرُ مميَّزٌ بالنسبةِ للونِ العين، هو لونُ عينِ الأطفالِ، الذي يكونُ رمادياً في البدايةِ ومن ثُمَّ يتَّخذُ لوناً معيناً والسّببُ في ذلك تغيُّرُ كميةِ الميلانين أثناءَ نموّ الطفلِ، فقد يتأخَّرُ التغيُّرُ لمدّةٍ تصلُ إلى سنتين.

كيف تعملُ العين؟

كانت آليةُ عملِ العينِ في الماضي موضعَ نقاشاتٍ مُحتَدِمةٍ، ولا نقصدُ بالماضي بضعَ عشراتٍ من السنين بل بضعةَ آلافٍ، فآليةُ عملِ العينِ جَذَبَت انتباهَ كبارِ فلاسفةِ اليونانِ أمثالَ أرسطو وأفلاطون.

اعتقدَ بعضُهم أنَّ العينَ تطلِقُ الضَّوءَ فيرتدُّ إليها ثانيةً عن الأشياءِ المُحيطةِ بها، فيرى الإنسانُ ما حولَه، وسُمّيَتْ هذه الفكرةُ بالـ Emission Theory، لكنَّها لم تقنعِ الجميعَ، فلماذا لا نرى جيداً في الليلِ إذا كانت العينُ هي مصدرُ الضّوء؟ وكيفَ نستطيعُ رؤيةَ النجومِ البعيدة! ولذلك اقترحَ آخرونَ الفكرةَ المُعاكِسةَ التي تقولُ إنَّ العينَ تستقبلُ الضوءَ من الوسطِ المحيط.

وفي فترةِ العصرِ الذهبيّ للحضارةِ الإسلامية، لاحظ الرازي أنَّ حدقةَ العينِ تتوسَّعُ وتتضيَّقُ تبعاً لشدةِ الضوءِ، وبعدَه بقرنٍ، ذكرَ ابنُ الهيثمِ في كتابِه "المَناظِر" أنَّ العينَ تتضرَّرُ بالضوءِ القويّ، ومنُه؛ فالعينُ تتأثرُ بالضوءِ لا العكسَ فهي لا تُصدِرُ الضوءَ بل تستقبلُه.

لكنَّنَا اليومَ نعرفُ ما هو أكثرُ من هذا بكثير، إنَّنَا نعرفُ كيف تعملُ العينُ على المستوى الخَلَويّ والجُزَيئيّ وهذا ما سنناقشُه الآن..

تُبصرُ العينُ الضوءَ، والضوءُ عبارةٌ عن أشعةٍ كهرومغناطيسية، وللأشعةِ الكهرومغناطيسيةِ طولٌ موجيٌّ معيَّنٌ تتنبَّه العينُ به**، ينحصرُ في المجالِ بين 400 و750 نانومتر، يُسمَّى الطيفَ المرئي - لأنَّ العينَ البشريةَ تستطيعُ مشاهدتَه - أمَّا الأمواجُ الكهرومغناطيسيةُ ذاتُ الطولِ الذي يتجاوز750ُ نانومترٍ فُتسمَّى الأشعةَ تحتَ الحمراءِ وتلكَ ذاتُ الطولِ الأقلِّ (أو الأقصر) من 400 نانومترٍ تُسمَّى الأشعةَ فوقَ البنفسجيةِ، وكلتاهما (تحتُ الحمراءِ وفوقُ البنفسجية) لا تُبصرُهما العين.

الأطوال الموجية الموافقة للمجال المرئي من الطيف

رحلةُ الضوءِ داخلَ العين:

يعبرُ الضوءُ بادئ ذي بدءٍ القرنيةَ فيحدُثُ له ما يُسمَّى "انكسارَ الضوء" أو light refraction وهو تغيُّرُ مسارِ الضوءِ نتيجةَ انتقالِه بين وسطين مختلفَين (وفي مثالنا هذا هما الهواءُ والقرنية).

انكسار الضوء نتيجة انتقاله بين وسطين مختلفين هما الهواء والزجاج وهو مشابه من حيث المبدأ لما يحدث عند انتقال الضوء من الهواء إلى القرنية

بعد ذلك يمرُّ الضوءُ ـ كما ذكرنا سابقاً ـ عبرَ الحَدَقة التي يتغيَّرُ قطرُها وفقاً لشدَّةِ الضوء، ومن ثَمَّ عبر الخَلْطِ المائي، ومنه إلى عدسةِ العين وبعدَها إلى الخَلْطِ الزجاجيّ، ويحدُثُ انكسارٌ للضوءِ في كلِّ وسطٍ يمرُّ به، وأهميةُ هذا الانكسارِ هو إسقاطُ الضوءِ (أيّ الصورةُ التي تراها العين) على الشبكيةِ التي تتولّى بدورِها تحويلَ هذه الصورةِ إلى إشاراتٍ عصبيةٍ يفهمُها الدّماغُ، وبذلك نبصرُ الأشياءَ حولنا.

لقد ذكرنا قبلَ قليلَ، أنَّ كلَّ الأوساطِ التي يمرُّ الضوءُ من خلالِها في طريقِه إلى الشبكية، تؤدي إلى انكسارِه، لكنَّ الأمرَ ليس بهذه البساطةِ، فكما أنَّ المُصوِّر يعدِّل عدسة الكاميرا كي يحصلَ على الصورةِ الأوضح، فإنَّ العينَ لها أيضاً عدستُها الخاصّةُ كما ذكرنا، إذ إنَّ قطرَ هذه العدسةِ ليس ثابتاً بل يُمكنُ تغييّرُه بآليةٍ انعكاسيةٍ (لا إرادية) عن طريقِ مجموعةٍ من الأربطةِ التي تثبِّتُ هذه العدسةَ في مكانِها، وتتغيّرُ قوةُ شدِّ هذه الأربطةِ عن طريقِ عضلاتٍ ملساءَ، وبناءً على ذلك؛ بإمكانِ العينِ الحصولَ على الرؤيةِ الفضلى، وبتعبيرٍ تقنيٍ إلى حدٍّ ما، بإمكانِها إسقاطُ الضوءِ القادمِ إليها على الشبكيةِ بطريقةٍ مثاليةٍ وتُسمَّى هذه العمليةُ ككلّ المطابقةَ accommodation.

لكنْ، لا بدَّ أنَّ القارئَ قد يتساءَلُ الآن - أو أنَّه تساءَلَ بالفعلِ منذ بدايةِ قراءَته المقالَ - عن سببِ ارتداءِ بعضِ الناسِ النظاراتِ. في الواقع؛ يرتدي الكثيرون النظاراتِ الطبيةَ، لكنْ ليس للسببِ نفسِه.

السببُ الأوَّلُ هو تقدّمُ العمرِ، فبعدَ سنّ الخامسةِ والأربعين تقريباً، تفقدُ عدسةُ العينِ مرونتَها فلا يتغيَّرُ قطرُها على النحوِ الأمثل، ولا يسقطُ الضوءُ (أو لنكن أدقَّ: خيالُ الصورة) على الشبكيةِ جيداً، فيرتدي المصابون بهذه الحالةِ "نظاراتِ القراءة" عند التعامل مع الأشياء القريبة؛ ويُمكن أنْ نَعدَّ هذه الحالةَ (التي تُسمى "قَصُوَّ/مدَّ البصرِ الشيخوخي" presbyopia) حالةً طبيعةً ناتجةً عن تقدّم العمر.

لقد فسرّنا لتونا سببَ ارتداءِ بعضِ كبارِ السّن النظاراتِ، لكنَّ هذا ـ على ما أعتقد ـ لن يشفِ فضولَ القارئ المُهتمِّ، فليسَ كلُّ من يضعِ النظاراتِ من المسنين. هناك حالةٌ أخرى تخصُّ رؤيةَ الأجسامِ القريبةِ تصيبُ كلَّ الأعمارِ تُسمَّى "مدُّ البصر" Hyperopia ويُمكن أن تكونَ نتيجةَ قِصَرِ المحورِ الأمامي الخلفي للعين (أي قصرُ المسافةِ بين مقدمةِ العينِ ونهايتِها الخلفية) حيث يقع الضوء (أو خيال الصورة/الجسم) خلف الشبكية، ويُمكنُ تصحيحُ العيبِ البصريّ عن طريقِ عدساتٍ محدَّبة (أي أنَّ المصابينَ بهذه الحالة يُعانون مشكلاتٍ تخصُّ رؤيةَ الأجسامِ القريبةِ فيرتدون نظاراتٍ محدبةً).

وهناك حالةٌ أخرى شائعةٌ لكنَّها تتعلَّقُ بالأجسامِ البعيدةِ، حيث يقعُ الخيالُ أمامَ الشبكيةِ والسببُ غالباً طولُ المحورِ الأماميّ الخلفيّ للعين، ويُمكن تصحيحُ هذا العيبِ باستعمالِ عدساتٍ مقعرة (أي أنَّ المصابينَ بهذه الحالةِ يعانونَ مشكلاتٍ تخصُّ رؤيةَ الأجسامِ البعيدةِ فيرتدونَ نظاراتٍ مقعرة).

وأعتقدُ أنَّ هذه الصورةَ تختصرُ ما تحدثنا عنه للتو:

مقارنة بين مد وقصر البصر قبل وبعد تصحيح العيب بالنظارات.

هناك حالةٌ مرضيةٌ تُعرَفُ عامياً بالـ "الماء البيضاء" أو السَّاد cataract تتمثَّل بتغيُّمٍ في عدسةِ العينِ نتيجةَ تقدمِ السَّن، ما يسببُ إعاقةً للرؤيةِ السَّليمة، ويتمثَّلُ العلاجُ غالباً بإزالةِ العدسةِ المصابةِ واستبدالِها بأخرى اصطناعيةٍ لكنَّ العينَ هنا تفقدُ القدرةَ على المطابقة.

وهذا مقالٌ يتحدَّثُ عن عيوبِ الرؤيةِ المرتبطةِ بتقدمِ العمرِ على موقعِ "الباحثون السوريون":

هنا

مقارنة بين ما يراه شخصٌ سليمٌ (اليسار) وآخرُ مصابٌ بالسَّاد (اليمين)

وبالحديثِ عن السَّاد، نتحدَّثُ عن الفنانِ الشهيرِ كلاوديو مونيه، لسنا بصددِ الحديثِ عن منهجِه الفنيّ أو لوحاتِه الشهيرةِ بل عن عينِه التي أُصيبَت عدستُها بالسَّاد، ما اضطُّرَ الأطباءِ إلى إزالتِها. الغريبُ في الموضوع، أنَّ مونيه اكتسبَ قدرةً مميزةً بعدَ هذه العملية، فالعدسةُ تمنعُ الأشعةَ فوقَ البنفسجية من الدخولِ إلى العينِ وبإزالتِها أصبحت تدخل، فباتَ مونيه يرى العالمَ أكثرَ ازرقاقاً وبنفسجيةً - إنْ صحَّ التعبير- ورسمَ نفسَ اللوحةِ مرتين، مرةً بالعين التي لم تُتنزع منها العدسة ومرةً بالأخرى (التي انتُزِعَت منها العدسة) فكانت الأولى أكثرَ اصفراراً والثانيةُ أكثرَ بنفسجيةً.

ولمن أحبَّ التوسعَ في الموضوع:

هنا

اللوحة المسماة The House Seen from the Rose Garden رسمها مونيه مرتين، إحداها عندما كان ينظرُ إلى المشهدِ بعينِه التي تملِك العدسة (يسار) وأخرى عندما كان ينظرُ بعينه التي لا تملك العدسة (يمين).

ولكيلا يملَّ القارئ، سنتوقَّفُ هنا اليوم لنكملَ قصتَنا لاحقاً بالتحدُّثِ عن الحالاتِ المرضيةِ الأخرى ونتابعَ رحلةَ الفوتوناتِ في تكوينِ الصورةِ التي رأيتَها وقرأتَ من خلالها هذه الجملة .

المصادر:

Vander’s Human Physiology، The Mechanism of Body Function، 13th edition، Eric P. Widmaier and others، P207-217

Guyton and Hall Textbook of Medical Physiology، 12th edition، P597-632

Langman’s Medical Embryology، 12th، T.W. Sadler، P329

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا