البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية

HIV يردّ اعتباره مقاوماً تقنية التعديل الجيني CRISPR

استمع على ساوندكلاود 🎧

يكتسب البشر المعرفة حول أنفسهم والعالم المحيط بهم بأساليب ومناهج عدّة؛ لعلّ النظام العلميّ أكثرها مرونةً وقدرةً على التراكم، والتراكب، والتآلف مع المتغيرات الكثيرة التي تمسّ قدرتهم على استيعاب ما يُرى بالحواس شتّى. وفي منظومة تشاركيّة معقّدة، تخضع كل الفرضيّات والنظريّات التي تفسّر ظاهرة ما للفحص والتمحيص المستمرين في مجموعة -متآلفةٍ حيناً ومتناقضةٍ حيناً- من المؤسسات العلمية التي تُعنى اليوم بصناعة العلم. ومثالنا اليوم سيتناول قصة جديدة من سعي العلم المستمر لفهم فيروس HIV وإيجاد طرقٍ فعّالة للقضاء عليه.

على الرغم من مرور ما يزيد عن 30 عاماً من اكتشاف فيروس HIV كمسبّب لمتلازمة عوز المناعة المكتسب AIDS1، ما زلنا نواجه تحدياً جوهريّا للتخلص منه. ويكمن هذا التحدي في قدرة الفيروس على غرس جينومه كاملاً داخل جينوم الخلايا المضيفه ( في هذه الحالة الخلايا التائية المساعدة غالباً). في هذا الخصوص، نشر موقع "الباحثون السوريون" منذ مدة وجيزة مراجعة مبسطة باللغة العربية لبحثٍ يُشيد بإمكانية استخدام تقنية التعديل الجيني الشهيرة CRISPR-Cas9 (اقرأ المزيد1) لاستئصال جينوم فيروس HIV-1 وقد حمل ذلك البحث نتائج مبشّرة على الخلايا المزروعة في المخبر (اقرأ المزيد 2).

بعد ذلك بفترةٍ قصيرة وتحديداً في شهر نيسان (أبريل) من العام الجاري، نشرت Cell Reports ورقة جديدة2 تحمل أولى عقبات التطبيق العلاجي السابق؛ وهي المقاومة (التعنيد) التي سرعان ما أبداها فيروس HIV المُعرّض للتعديل. ومن الجدير بالذكر أن الورقة عمل مشترك أنجزه عدة باحثون ضمن فريقٍ عالمي يمثل عدة جامعات يقوده الدكتور Chen Liang من جامعة McGill.

شهدت السنوات الثلاث الماضية نشر ما لا يقل عن 6 أوراق بحثية استقصت استخدام تقنية CRISPR الشهيرة لمهاجمة فيروس عوز المناعة البشري الذي يُقحم جينومه في جينوم الخلية المضيفة والتي تكون في غالب الأحيان الخلية المناعية المعروفة (اللمفاوية T المساعدة)؛ ونذكر أن هذه التقنية تعتمد على شدفٍ موجـِّهة خاصّة من الـRNA تساعد الأنزيم Cas9 على الوصول إلى المكان المرغوب من جينوم الخلايا المستهدفة لتعديله –وهو مكان دخول جينوم الفيروس في حالتنا هذه– ومن ثمة إحداث انقطاع في تسلسل النكليوتيدات في هذه الأماكن، وإصلاحها بشكلٍ غير كافٍ*، ما يقود في نهاية الأمر إلى توقف التضاعف الفيروسي.

يبدو المبدأ عبقريّاً للوهلة الأولى، وهو عبقريٌّ بالفعل، إذ تعتبر الانتانات الكامنة –كما ذكرنا- التحدي الأكبر في العقد الماضي أمام علماء الفيروسات والبيولوجيا الجزيئية في بحثهم لإيجاد حلّ نهائي للأمراض المتعلّقة بها (كمتلازمة عوز المناعة البشري التي تتلو الإنتان الكامن بـHIV). ولكن يبدو أن ملاحظة Liang وفريقه ستكبح فرامل هذه التجربة قليلاُ؛ فبعد أن درب هذا الفريق خلايا تائية على مقاومة وإضعاف HIV، عرّضوها للفيروس وبعد أسبوعين فقط بدأ الفريق بمشاهدة نسخٍ من الجزيئة الفيروسية تخرج من هذه الخلايا مقاومةً هجوم CRISPR. وعند البحث عن تسلسل الدنا تبين أن الفيروس طوّر طفراتٍ قريبةً جداً من مكان القطع الذي يستهدفه CRISPR من الجينوم، وفقاً لبرمجته المسبقة. وبما أن HIV لطالما أظهر قدرته على التطور لمقاومة مختلف الأدوية المضادة للفيروسات، فيمكن القول إلى حدٍ ما أنّ هذه النتائج غير مفاجئة. علاوة على ذلك، لن ننسى قدرة HIV على مقاومة جهازنا المناعي، ويعود ذلك إلى حقيقةِ أنّ الأنزيم المُستَخدم لنسخ الفيروس يعمل بدقّة قليلة وباحتمال كبير للخطأ ما يوفّر فرصة دائمة ومتجددة للتطفّر والتطور.

يعتقد Liang أن آلية التطفّر آنفة الذكر لا تفسّر تغلّب HIV على التعديل بـCRISPR؛ بدلاً من ذلك، أكّد فريقه البحثي على أن الطفرات التي حدثت عندما قام CRISPR بقطع الدنا الفيروسي، تضمنت إدخالاً أو حذفاً لرسائل جينية معيّنة (دُعيت بـindels). فعندما يحدث القطع، تحاول الآليات الخلوية للخلايا المضيفة إصلاح الجينوم وأثناء قيامها بذلك قد تضيف أو تحذف رسائل جينية معينة عادة ما تتسبب بتثبيط الجينوم الفيروسي وإيقاف التضاعف. ولكن في حالتنا هذه لم تتحقق تلك القاعدة، وعوضاً عن ذلك، أضحى HIV قادراً على التضاعف وإحداث العدوى من جديد. الأسوأ من كل ذلك، أن التغيرات الجينية الجديدة في الفيروس تمنع الخلايا التائية المناعية من التعرّف عليه بنفس الآلية المعتادة؛ ما يعني بالنتيجة تحول الفيروس إلى فيروسٍ مقاوم. ونذكر أيضاً أن فريقاً آخر من جامعة Amsterdam بقيادة البيولوجي Das سجّل نتائج مماثلة مسبقاً.

في ختام مقالتهم، يشدد الباحثون على أهمية أخذ هذه الطفرات بعين الاعتبار عند استخدام تقنية التعديل الجيني المتواسط بـCRISPR-Cas9؛ إذ يتوقعون أن هذه الطفرات أو التعديلات المفتعلة ستقود إلى نتائج مماثلة مع العديد من فيروسات الدنا الأخرى كفيروس الحلأ Herpes، وفيروس التهاب الكبد البائي HBV وغيرها. كحلّ نظريّ لهذه المشكلة، يقترح العلماء مهاجمة عدة مواقع من الجينوم الفيروسي بالتزامن بهدف القضاء على فرصته في العودة إلى الحياة والتضاعف.

رغم كل الصعوبات التي واجهت وتواجه هذا المستوى العالي من التقنيات الجزيئية، إلا أنّ العلماء حول العالم في حالة ترقّب دائم لما يحمله الأدب العلمي يومياً من منشورات حول استخدام هذه التقنية الجديدة للتداخل بقوة ودقّة منقطعة النظير على الجينات، آملين أن تحمل مفاتيح جديدة لإدراك مشاكلنا والتغلب عليها.

*المقصود هنا هو الإصلاح من نمط NHEJ (non-homologous end joining) والذي يعني إصلاح الدنا بدون الاعتماد على سلسلة مطابقة للأصل (قالب) تُستخدَم دليلاً للإصلاح.

المصادر:

هنا

البحث الأصلي:

هنا

لمزيد من القراءة:

1- هنا

2- هنا