التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية

عباس ابن فرناس

أسعد الله مساءكم، يا من أدخلتم السّرور إلى قلبي بهمّتكم وإقبالكم على صنوف العلم والمعرفة..

اسمي عباس أبو القاسم ابن فرناس، ولِدت في مدينة رندة في اسبانيا اليوم في أواخر القرن الثاني للهجرة.

أحببت العلم صغيراً فأطلقت لنفسي العنان طالباً له راغباً فيه، فبرعت بعلوم الرياضيات والطب والكيمياء والفلك كما أحببت الموسيقى والشعر، وعُرِف عني حبّي للعزف على العود. فكنت إلى جانب كوني عالماً فذاً، شاعراً من شعراء بلاط أمير الأندلس الحكم بن هشام وإبنه وحفيده اللذين حكما الأندلس من بعده. كما يمكن لكم القول بلغتكم المعاصرة أني كنت أيضاً مخترعاً سجّلَت لي العديد من الأجهزة والتقنيات الجديدة التي لم يسبقني إليها أحد.

ففي الفلك كانت لي ثلاثة اختراعاتٍ هامّة، أوّلها جهاز أسميته (ذات الحلق)؛ وهو عبارة عن جهازٍ مؤلّفٍ من عدّة حلقاتٍ متداخلة في مركزه كرة. ومهمّة هذا الجهاز هي أن يساعد في دراسة حركة الكواكب. كما صنعت أيضاً آلةً لقياس الزمن أسميتها (الميقاتة). ولفرط حبّي للفلك فقد جعلت سقف بيتي يحاكي قبّة السماء حيث يرى الناظر إلى السّقف محاكاة للنجوم والبرق والرعد والغيوم مستعيناً ببعض الآلات التي كنت أديرها أسفل منزلي، حتى قال الشاعر "مؤمن بن محمد" شاعر زمانه فيها شعراً ….

كان لي في الكيمياء أيضاً صولاتٌ وجولات، فلم أكن من عشاق النظرية، بل كان لا بدّ لعملي في الكيمياء أن ينعكس على حياة الناس، فقمت بعدّة إنجازاتٍ فيما تدعونه اليوم بالكيمياء الصّناعية. حيث طوّرت طريقةً لصناعة الزجاج الشفاف من الحجارة والصخور، وهو ما اعتبِر ثورةً في زماني. كما لاحظت المشقة والتّعب الذي يعانيه أهل الأندلس في تقطيع حجارة "المرو" أو ماتسمونه بالكوارتز الذي كان يُرسَل إلى مصر لهذه الغاية ولمن لا يعلم منكم فالمرو يفوق الألماس في القساوة، فما كان مني إلا أن ابتكرت طريقة سهّلت عمليّة تقطيع المرو في الأندلس دون الحاجة لإرساله إلى مصر.

كما ابتكرت بعض أنواع بندول الإيقاع، وهي أداة تعطي تكتكةً أو علامة تجزئة منظمة وثابتة، ذات عددٍ ثابتٍ في الدقيقة الواحدة.

أمّا أعظم إنجازاتي فهي استخدامي لجناحين في محاولة مني للطيران وذلك بالقرب من قصر الرُصافة، وقد تحدّث المؤرخ المقري عن تجربتي مع الطيران في كتابه (غصن الطيب من نفح الأندلس الرطيب) قائلاً:

من بين كلّ تجاربه المثيرة كانت محاولته الطيران هي الأكثر جراءة . حيث عمد إلى تغطيه بدنه بالريش وربط نفسه بجناحين ومن ثم اعتلى ربوةً عالية ليرمي نفسه بعدها في الهواء ! وبحسب العديد ممن شهد محاولته الطيران فإن ابن فرناس قد حلّق كما الطيور مسافةً طويلة، ولكنه ولدى محاولته الهبوط على نفس الربوة التي انطلق منها أصيب في ظهره إصابةً بليغةً كونه لم يعلم أن الطيور في هبوطها تستعين بالذيل، وهذا مافات ابن فرناس أن يدركه قبل خوض هذه التجربة.

وأحد الأدلة على صحة هذه المحاولة أبياتٌ شهرية كتبها شاعر بلاط قرطبة وأحد كبار شعراء عصر ابن فرناس "مؤمن ابن سعيد" قائلاً:

يطــمّ علــى العنــقـــاء في طـيرانــها إذا ما كـــسى جسـمــه ريـــش قشـــعم

وبهذا يكون لي السّبق متقدماً على الانكليزيّ إلمر المالمسبوري (Eilmer of Malmesbury) الذي حاول الطيران مستعيناً بطائرةٍ شراعيةٍ للطيران في إنجلترا بين عامي 1000-1010.

وكما هو الحال في زمانكم، لم ترُق فابحاثي واختراعاتي وشهرتي للبعض من أهل زماني، فثار عليّ جهلاء العامة ومعهم بعض الفقهاء الذين عمدوا إلى اتهامي بالكفر والزندقة وإتيان الخوارق الشيطانية، ومضوا إلى قاضي قرطبة "سليمان بن أسود الغافقي"، ليتمّ اعتقالي ومحاكمتي في الجامع الكبير في قرطبة حيث هرع أهالي قرطبة ليشهدوا الأمر، إلا أنّ سخف أدلة الشهود وجهلهم وحججهم الواهية كان القشة التي أنقذتني من الغرق. فهذا أحدهم يقول أنه رأى الدم ينبع من نافورةٍ في بيتي، ولست أدري مقصده لعلّه أراد أن يكون هذا دليلاً على تعاملي مع الجان والشياطين! بالإضافة إلى غيرها من الحجج الحمقاء. وأحمد الله أنّ القاضي سليمان لم يجد في تلك الترهات دليلاً وهو المعروف بصرامته، فما كان منه إلا أن أطلق سراحي لأعود بعد ذلك إلى العلم والعمل.

أنا ابن فرناس… إسمٌ ارتبط بحلم الطيران... كثرٌ من حاولوا طمس إسمي وعلمي... إلا أنّ شهرتي وصلت إلى القمر ... وما زالت ملهمةً للملايين ..

فماذا عنك أنت ؟؟!!!!