التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

ثيوسيديديس... المُؤَرِّخ الذي سَطَعَ نُوره بعد أن جَافَاهُ طويلاً

استمع على ساوندكلاود 🎧

أحدُ أهم المؤرِّخين القدماء، واضعُ نموذجِ الكتابة التاريخيَّة من خلال كتابه " تاريخُ الحرب البلوبونيزيَّة" وذلك من حيث الرُّؤية والإيجاز والدِّقة. معتمداً على تجربته الخاصَّة خلال الحرب، ومُركِّزاً على الفترة الزمنيّة التي عاصرها وعلى شهود العيان ليكون عكسَ مؤرِّخين آخرين أمثال هيرودوت. معالجاً قضايا أبديَّة كسبب لجوء الدُّولِ للحروب، أو كيفَ ترتقي السِّياسةُ بالمجتمعات أو تهوي بها؟ كيفَ نُقيِّم قائداً عظيماً أو اسلوباً في الحكم؟ وغير ذلك مما سنراه في مقالنا اليوم، فتابعوا معنا

ولد ثيوسيديديس في إحدى ضواحي أثينا وقد تم تقدير سنة ولادته عام 460 قبلَ الميلاد بحسب التاريخ المحتمل لدخولهِ الخدمةَ العسكريَّة ووفاته في 404 ق.م قبل سقوط أثينا. تسلَّم قيادةَ أحد الأساطيل بعد عامٍ من بداية الحرب مع سبارطة ولكنَّه فشل في الوصول إلى مدينة " أمفيبوليس " قبلهم ما أدَّى إلى نفيِهِ عن أثينا. فعَمِلَ خلال أعوامِ نفيِهِ العشرين في جمع المعلومات والكتابة والمراجعة وموَّلَ جهوده عن طريق مناجم الذهب التي امتلكها في " تراقيا " شمالَ اليونان التي تعود إليها جذوره.

أرَّخ ثيوسيديديس الحربَ البلوبونيزية بين الأثينيِّين والإسبارطيين لكونها حرباً عظيمةّ وجديرةً بالتسجيلِ متجاوزةً في أهميتها ما سبقها من حروب.

كانت أثينا خلال وقت اندلاع الحرب قوةً بحريةً عظيمةً ذات نظامٍ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ وقيادةً مُجدَّدَةً جعلتها قوةً لا يُستهان بها، في حين كانت سبارطة الواقعةُ في بيلوبونيز، وهي شبه جزيرةٍ جنوب الأراضي اليونانية الرئيسيَّة، صاحبةَ القوات العسكريَّة البريَّة الأقوى، كما كان نظامها السياسيُّ عسكرياً صارماً وملتزماً بالتقاليد. وقد اعتبرَ ثيوسيديديس أن خوف سبارطة من أثينا هو ما دفعهم للقيام بضربتهم الاستباقية في عام 430 قبل الميلاد.

تبادلَ الطرفانِ الغاراتَ في السنين الأولى للحرب حيثُ كان الاسبارطيين يقومون بالهجمات السنوية على البر ويردُّ الأثينيّين بالغارات البحريَّة حتى عام 422 ق.م حين قاد " كليون " القوات الأثينية لاستعادة " أمفيبوليس " ولكنّه قُتل في المعركة ضد الجنرال الإسبارطي " براسيداس "، مما دفع الطرفين المُنهكين لتوقيع اتفاقية صُلحٍ تبعها سلامٌ هشٌّ لمدَّة ستِّ سنينٍ كُسِرَ حين قام الأثينيون بالهجوم على " سيراكيوز " حليفة سبارطة في صقلية. وقد تبيَّن لاحقاً مدى كارثيَّةِ هذا الهجوم على الأثينيّين أنفسهم حيث تم طردهم في 413 ق.م من قِبَل التَّحالف الصِقلي الإسبارطي الذي دمَّرَ القوات المُهاجمة تماماً مع سُفُنها ولم يعد إلا القليل من الرجال الذين ذهبوا للحرب.

يتألف الجزء الأخير من كتاب ثيوسيديديس من وصفٍ ناقصٍ للثوراتِ والمشاكل التي حصلت في أثينا بالإضافةِ للمكاسبِ التي حققتها سبارطة، ومحاولة أثينا استعادة خسائِرِها في سلسلةٍ من المعارك انتهت بتدمير ما تبقى من الأسطول الأثنيِّ في معركة " إيغوسبوتامي " التي قاد الاسبارطيين فيها ليساندر إلى أن استسلمت أثينا في 403 ق.م.

الأسلوب:

اعتمدَ ثيوسيديديس في كتابه على الأسلوب المباشر، حيث جمع رواياتٍ من مصادرَ مختلفة في نسقٍ واحدٍ لا ينقطعُ إلا حين نَقَلَ خطابات قادةِ الفرقِ المُتناحرة، ولم ينسَ أن يؤكِّد أنَّه نقل جوهرَ ما قيلَ وفي بعض الأحيان ما اعتقد أنّه من الواجب قوله عن تلك الحوادث، كما نقَلَ بعضاً من أقوى الخطابات؛ مثل خطاب " بيركلس " في تشييع قتلى الحرب في مدينته الذي ألقى الضوء على تعقيدات السِّياسةِ الحربيَّة والنفس البشريَّة. أخذت هذه الخطابات في بعض الأحيان شكل الحوار بين أطراف قويةٍ وأخرى ضعيفةٍ كالحوارات التي حدثت بين الأثينيين وبعض المناطق التي فشلت ثوراتها ضد حكمهم، حيث أظهروا الرحمةَ تارةً والشِّدَة تارةً أخرى، ما أبرز فكرةَ أنَّ الحق عادةً يكون مع الأقوياء في عالمنا هذا.

وعلى عكس هيرودوت، لم يُعطِ ثيوسيديديس أهميةً لآلهةِ الإغريق في التأثير على مجرى الحياة، بل ركَّز على الأسباب البشريَّة، ولكن في الوقت ذاته أشار إلى أنَّ خسارة أثينا في صقلية كانت النتيجةَ المنطقيَّة لضَعفِ القيادةِ والانحدار الأخلاقيِّ الذي عانى منه المجتمع الأثينيّ.

الإرث:

لم يتبوَّأ ثيوسيديديس منزلتَهُ كأحد أعظمِ المؤرخين بسهولة، بل احتاجَ إلى العديد من القرون، فلم يذكرهُ " أرسطو " الذي عاش بعدَهُ بعدَّةِ عقودٍ، إلى أن أتى " شيشرون " في القرن الأول الميلادي ليُعلنه مؤرخاً عظيماً ما أدَّى إلى القيام بنسخِ كتابه نُسُخاً كافيةً لتبقى بعد العصور المظلمة، ثم تناوله الفلاسفة السياسيُّون بعد عصر النهضة أمثالُ هوبز ونيتشه كواحدٍ من أعظم المؤرِّخين بسبب نظرته الصَّافيةِ وطريقةِ تناوله الواقعيَّة للسياسةِ والحروب.

المصدر:

هنا