الفيزياء والفلك > فيزياء

ميكانيك بوم | الجزء الثّاني: تفسيرٌ بديل لتجربة شقي يونغ

استمع على ساوندكلاود 🎧

تحدّثنا في الجزء الأوّل من هذا المقال حول نشوء ميكانيك بوم، وعدم الأخذ به وقبوله. ونتابع في هذا الجزء الورقة البحثيّة الّتي صدرت بعنوان: ESSW، والتي وجّهت ضربةً قاضيّة لميكانيك بوم، و كيف أُعيد الاعتبار لاحقاً لميكانيك بوم بعد إعادة تجربية ESSW بطريقةٍ مختلفة.

لاينظرُ عُلماءُ آخرون لميكانيك بوم بتلك الطّريقة، إذ أنّ هذه النّظريّة كافحت سنواتٍ طويلةٍ للحصولِ على قبولِ الأوساطِ العلميّةِ وتخلّفت لسنواتٍ عن نظريّة كوبنهاغن، حتّى إنّها تخلّفت عن نظريّةِ العوالمِ المُتعدّدة. لكنّ الضّربةَ القاضيةَ وُجِّهت لميكانيك بوم مع صدورِ الورقةِ البحثيّة المعروفة باسم " ESSW"؛ وهو اختصارٌ للأحرُفِ الأولى من أسماءِ مؤلّفيها الأربعة. تزعمُ هذه الورقةُ البحثيّة أنّ الجُسيمات لا تَسلُكُ مساراتٍ بسيطةٍ أثناءَ عبورها في تجربةِ شقّي يونغ. لنفترض أن شخصًا ما وضعَ كاشفًا بجانبِ كلّ شقّ لمُراقبةِ الفوتونات أثناء مرورها عبرَ الشّقوق ومعرفةِ عبرَ أيِّ شقٍّ بالتّحديد يمرُّ كلُّ فوتون. أظهرت ESSW أنَّ الفوتون - وفقاً لبوم - يُمكنُ أن يمُرّ عبَ الشّقِّ الأيسرِ، ومع ذلك يُمكنُ أن يظهرَ في التّسجيلِ و كأنّهُ مرّ من الشّقِّ الأيمن؛ وكأن ميكانيك بوم يعتبرُ أنّ الفوتونات تسلكُ مساراتٍ غيرِ واقعيّةٍ (سرياليّة)، الأمرُ الّذي اعتبرته الورقةُ البحثيّة مُستحيلًا.

يقولُ آيفريم شتاينبرغ؛ وهو فيزيائيٌّ في جامعة تورنتو: "وجّهت الورقةُ البحثيّةُ ESSW ضربةً قويّةً لميكانيك بوم، دمّرت محبتي واهتمامي بهذه النّظريّة."

لكن شتاينبرغ وجدَ طريقةً لإحياءِ هذا الحُبِّ مجدّداً. ففي ورقةٍ نشرتها مجلةُ التّطوّرات العلميّةِ "Science Advances" وصفَ شتاينبرغ و زملاؤه - ومن بينهم وايزمان من أستراليا، فضلاً عن خمسةِ باحثين كنديّين آخرين - ما حدث في تجربة ESSW، إذ وجَدَ الباحثونَ أن مسارات الفوتون ليست سريالية، أو بتعبيرٍ أدق؛ قد تبدو سرياليّةً فقط إن تجاهلنا صفةَ "اللامحليّة" التي تتميّز بها نظريّةُ بوم.

أجرى شتاينبرغ و زملاؤه تجربةً مشابهةٌ لتجربةِ شقّي يونغ القياسيّة، لكنّها تعتمدُ على الفوتونات بدلاً من الإلكترونات، وعوضاً عن إرسالِ تلك الفوتونات عبرَ زوجٍ من الشّقوقِ، يمرُّ الفوتون من خلال مجزّئٍ للأشعّةِ وظيفتهُ توجيهُ الفوتون عبرَ أحدِ مسارينِ اعتماداً على استقطابِ الفوتون ذاتِه. يصِلُ الفوتونُ في نهايةِ المَطافِ إلى كاميرا الفوتونات ( أي ما يُعادِل الشّاشة في التّجرُبة التّقليديّة) والّتي تقومُ بتسجيلِ الموضع النّهائيِّ لكلِّ فوتون، وبدلَ أن يكون السّؤالُ: أيٌّ من الشّقّين سلكَ الفوتون؟ يصبحُ السؤال: أيٌّ من المسارين سلك الفوتون؟ والأهمُّ من ذلك كلّهِ أنّ الباحثينَ استخدَموا أزواجًا من الفوتوناتِ المتشابكةِ بدلاً من الفوتونات الفرديّة، ونتيجةً لذلك فإنّهُ يُمكننا أن نستجوبَ فوتونًا واحدًا للحصولِ على معلوماتٍ عن الفوتونِ الآخر.

عندما يمرُّ الفوتونُ الأوّلُ من خلالِ مجزّئ الأشعّةِ فإنّ الفوتون الثّاني "يعرِفُ" المسارَ الّذي سلكهُ الفوتونُ الأوّلُ، الأمرُ الّذي يُمكّنُ الفريقَ من تتبّعِ مسارِ الفوتونِ الأوّل اعتمادًا على المعلوماتِ عن الفوتون الثّاني. بالطّبع فإنّ كلّ هذه القياساتِ غيرِ المباشرةِ تُنتجُ قيماً تقريبيّةً فقط، لكن بحسابِ متوسّطِ عددٍ كبيرٍ من القياساتِ يمكنُ للعلماءِ بناءُ صورةٍ واضحةٍ عن مسارِ الفوتون الأول.

وَجدَ الفريقُ أن مساراتِ الفوتونِ سرياليّةٌ حقّاً، تمامًا كما تنبأت ورقة ESSW، فقد يَضرِبُ الفوتونُ أحياناً الجانبَ الأيمنَ من الشّاشةِ بالرّغمِ من أنّ استقطابَ شريكهِ المُتشابكِ يُخبرُنا بأنّ الفوتونَ سَلكَ الطريق الأيسَر، والعكسُ صحيح. ولكن هل يُمكننا الوثوقُ بمعلوماتِ الفوتون الثّاني؟

وجدَ شتاينبرغ وزملاؤه أنّ الإجابةَ على السّؤال: أيُّ الطّريقينِ سلكَ الفوتون الأوّل؟ تَعتَمِدُ على توقيتِ هذا السّؤال. يفسّر شتاينبرغ هذا على الشّكل التّالي:

يمتلكُ الفوتونُ الثّاني ذاكرةً دقيقةً تماماً حولَ الشّقِّ الّذي مرَّ منه الفوتون الأوّلُ فقط في اللحظاتِ الّتي تلي مباشرةً مرورَ الفوتونِ الأوّلِ من خلال مجزّئِ الأشعّة. لكن مع ابتعاد الفوتونِ الأوّل، يُصبحُ الفوتونُ الثّاني أقلَّ وثوقيّةً فيما يتعلّقُ بالمعلوماتِ حولَ سلوكِ شريكهِ الفوتون الأول. والسّببُ في ذلك يعودُ إلى خاصيّة "اللامحليّة". دعنا نتّفقُ على أنّ الفوتونين متشابكين، وبالتّالي فإنّ المسارَ الّذي يسلكهُ الفوتون الأوّلُ يؤثّرُ على استقطابِ الفوتون الثّاني، أليس كذلك؟ حسنًا، وفي الوقتِ الّذي يصلُ فيه الفوتونُ الأوّلُ إلى الشّاشةِ سيتغيّرُ استقطابُ الفوتونِ الثّاني ليصبحَ مماثلاً لاستقطابِ الأوّل، أي لا جدوى من الحصولِ على رأي الفوتون الثّاني - إذا جاز التّعبير - لنعرفَ ما إذا سلكَ الفوتونُ الأوّلُ الطّريقَ الأوّلِ أو الثّاني!

ووفقاً لشتاينبرغ فإنّ المشكلةَ ليست في أنّ مساراتِ بوم سرياليّة، لكنّ المُشكلةَ الحقيقيّةَ هي أنّ الفوتونَ الثّاني "يُخبرنا" أنّ المسار سرياليّ، وذلكَ بفضلِ خاصيّة اللامحليّة، لذلك لا يُمكنُ الوثوقُ برأيِ الفوتون الثّاني. يقول شتاينبرغ: "ليس هناك تناقضٌ حقيقيُّ في هذا. عليك فقط أن تضعَ دائماً خاصيّةَ اللامحليّة في اعتبارك"

وقد تبنّى بعضُ عُلماءِ الفيزياءِ وجهةَ نظرِ بوم من بدايتها غير آبهين بدراسة ESSW، ولم يفاجئهم ما وجدهُ شتاينبرغ وفريقه. واجهت نظريةُ بوم العديدَ من الهجماتِ على مرِّ السّنين، لكنْ سرعانَ ما فشلتْ هذه الهجماتُ واندثرت لأنّها أساءت فهمَ ما يُشيرُ إليه نهج بوم، وفقاً لما يعتقدهُ أنصار نظريّةِ بوم. في حينِ يعتقدُ أنصارُ دراسةِ ESSW أنّ هذه الدّراسةَ قد وجّهتِ الضّربةَ القاضيةَ لوجهةِ نظرِ بوم، ويعتقدُ أنصارُ هذه الدّراسةِ أنّ مساراتِ بوم موجودةٌ رياضياً فقط لكنها تفتقرُ إلى الوجودِ الماديّ.

تاريخيّاً، عاشَ آينشتاين فترةً طويلةً بما يكفي لأن يسمعَ عن إحياءِ بوم لمُقترحِ دي برولي، لكنْ لم يُعجبهُ هذا التّفسير، نافياً أن يكونَ التّفسيرُ بسيطاً لهذه الدّرجة. وفي رسالةٍ إلى الفيزيائيِّ ماكس بورن، في ربيع عام 1952، علّق آينشتاين على وجهةِ نظرِ بوم كاتباً: "هل لاحظتَ أن بوم يعتقدُ بوجهةِ نظرِ دي برولي قبل 25 عاما. إنّهُ يعتقدُ بأنّه من الممكنِ تفسيرُ النّظريّة الكموميّة بشكلٍ حتميّ! إنّ هذه الطريقةَ تبدو غيرَ ذاتِ أهميّةً بالنّسبةِ لي. لكن يُمكنكَ بطبيعةِ الحال أن تحكمَ في هذا الأمرِ بشكلٍ أفضلَ منّي."

ولكن حتّى بالنّسبةِ لأولئك الّذينَ يتبنُّون وجهةَ نظرِ بوم بجسيماتها الواضحةِ المعالمِ ومساراتها المُحدّدة ، لا تزالُ هناكَ العديدُ من الأسئلةِ الّتي تحتاجُ إلى إجابات. إضافةً إلى التّوتّرِ الواضحِ بين وجهةِ نظرِ بوم والنّسبيّةِ الخاصّةِ الّتي تًحظُر الاتّصالاتِ بسرعاتٍ أكبرَ من سُرعةِ الضّوء. ويرى الفيزيائيّون أن هناك العديدُ من الاستفساراتِ حول خاصيّةِ اللامحليّةِ المرتبطةِ بوجهةِ نظرِ بوم.

المصدر: هنا

الجزء الأول: هنا