الفلسفة وعلم الاجتماع > أعلام ومفكرون

جورج ويلهلم فريدريك هيغل

استمع على ساوندكلاود 🎧

جورج ويلهلم فريدريك هيغل، الشهيرُ بجورج هيغل، فيلسوفٌ ألمانيٌّ عاش في بداية العصر الحديث، وقياديٌّ في مذهب المثاليّة الألمانيّ، أوائلَ القرنِ التاسعَ عشر، رغم أنّ أفكارَه ذهبت أبعدَ مما ذهب إليه مذهبُ (كانط)، وأنشأ مدرستَه الهيغليّةَ الخاصّة.

لُقِّب بـ(أرسطو العصرِ الحديث)، واستخدم نظامه في المنطق لشرح كامل تاريخ الفلسفة، والعلمِ، والفنِّ، والسياسةِ، والدّين. ورغم اتّهامِه بالغموض والفلسفة الكاذبة، عُدَّ هيغل ذروةَ الفكرِ الألمانيِّ في القرنِ التاسعَ عشر.

ترك بصمتَه المميّزةَ في الفلسفة وغيرِها من العلوم، وكان له تأثيرٌ عميقٌ في الكثير من المدراس الفلسفيّة اللاحقة، سواءً التي تؤيّد أفكارَه والتي تعارضُها، وتأثيرُه هذا ليس أقلَّ من تأثير الماركسيّة لكارل ماركس التي تركت بصمةً واضحةً في التصوّر السياسيّ، في القرن العشرين.

حياته:

وُلد هيغل في السابعِ والعشرينَ من آب - أغسطس 1770، في شتوتغارت، جنوبَ شرق ألمانيا. كان والدُه جورج لودويغ هيغل سكرتيرًا، وأمُّه هي ماريا ماغدالينا لويزا.

لهيغل أختٌ أصغرُ منه، هي كريستينا لويز، وأخٌ أصغرُ منه يُدعى جورج لودويغ (تُوفّي خلال حملةِ نابليون على روسيا عامَ 1812).

في الثالثةِ من عمره، ذهب هيغل إلى المدرسة الألمانيّة، ودخل المدرسة اللاتينيّةَ في الخامسة، ثم الثانويةَ في شتوتغارت، من 1784، حتى 1788.

كان طالبًا مُجِدًّا، وناجحًا، وشرهًا للقراءة منذ نعومة أظفاره؛ فقد قرأ لشكسبير، والفلاسفةِ اليونانيّين القدماء، وقرأ الكتاب المقدَّسَ، والأدبَ الألمانيّ. وبجانبِ الألمانية واللاتينيّة، تعلّم اليونانيّةَ، والعبريّةَ، والفرنسيّةَ، والإنجليزيّة.

في عمر الثامنةَ عشْرة، دخل الإكليريكيّةَ البروتستانيّة، المرتبطةَ بجامعة Tubinger.

بعدَ التخرّج؛ عامَ 1793، عمل هيغل معلّمًا منزليًّا لعائلةٍ أَرُسْطِيّةٍ في سويسرا، ثم في فرانكفورت منذ 1797، وحتى 1801.

في عامِ 1801، عمل مُحاضِرًا من دون أجر في جامعة Jena، بتشجيعٍ من صديقه الذي كان أستاذًا هناك.

كان يدرّسُ المنطقَ وعلومَ ما وراءَ الطبيعة، وقدّم مع صديقه محاضراتٍ ومقدمةً لأفكارِ الفلسفةِ الحقيقيّة، وحدودِها.

عامَ 1805، رَشّحتْه الجامعةُ لمنصبِ الأستاذ الاستثنائيّ. وتحت بعض الضغط الماليّ، نَشر الكتابَ الذي قَدّم فيه نظامَه في الفلسفةِ إلى العالم.

في عامِ 1807، صار لديه طفلٌ غيرُ شرعيّ؛ هو (جورج لودويغ فريدريك فيشر) من مالكةِ الشقّة التي سَكَنَها. (وكان زوجُها قد هجرها).

عامَ 1811، تزوّج الابنةَ الكبرى لسيناتور، وأنجبا ولدين.

نُشِر ثاني أعمالِه الكبرى؛ (علمُ المنطق)، في ثلاثة مجلدات، عامَ 1812، و1813، و1816.

منذ 1816 وحتى 1818، دَرّس هيغل في جامعة Heidelberg، ثم تلقّى عرضًا من مجلس الفلسفة في جامعة برلين، فبقيَ هناك حتى وفاتِه عامَ 1831.

مات هيغل في برلين، في الرابعَ عشرَ من نوفمبر – تشرين الثاني، عامَ 1831؛ بسبب وباء الكوليرا، ودُفن في مدفن برلين.

أعماله:

نُشرت أربعةٌ فقط مِن كُتب هيغل الرئيسةِ خلالَ حياتِه، وأعمالٌ أخرى عن فلسفةِ التاريخ، وفلسفةِ الدين، وعلمِ الجَماليّات، وتاريخِ الفلسفة، وقد جُمِّعت من ملاحظات طُلّابه التي دَوّنوها خلالَ محاضراتِه، ونُشرت بعد وفاته.

نالت أعمالُه شهرةً بسبب صعوبتِها واستخدامِه التجريدَ فيها، ولاتّساعِ المواضيعِ التي تغطّيها.

هذه الصعوباتُ يعاني منها بشكل خاصٍّ مَن يقرأُ أعمالَه مترجمةً؛ لأن لغتَه الفلسفيّةَ، والمصطلحاتِ في الألمانية؛ نادرًا ما يكونُ لها مثيلٌ مكافئٌ في اللغات الأخرى. (مثلًا كلمة Geist تترجمُ إلى mind أو spirit، لكنّهما لا تغطّيان كاملَ معناها العميق).

يمكن أن نَعُدّ أفكارَ هيغل جزءًا من تطوُّر الفلاسفة (بالعودة إلى أفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين، وروسّو، وكانط)، الذين يمكنُ أن يُعَدّوا بشكل عامٍّ من أتباعِ المذهب المثاليّ.

لقد طَوَّر هيغل شكلًا جديدًا من التفكير، كان أسلوبُه يبدأ بالمفاهيم الأساسيّة؛ كالوجودِ والعدم.

وَظَّف الجدليّةَ المجرَّبةَ من قبل (التي تعود إلى أرسطو، وتتضمّن حلَّ الفَرْضيّةِ، ونقيضَ الفرْضيّة، والجمعَ بينهما)، لكنْ أَكّد أنّ هذه العمليّةَ المنطقيّةَ لم تكن مجرّدَ شكلٍ منفصلٍ عن المحتوى، بل كانت لها تطبيقاتٌ وتأثيراتٌ في العالم الحقيقيّ. وتَقدّم بمفهوم الجدليّةِ خطوةً إلى الأمام، موافقًا على أنّ الجمعَ بين الأطروحةِ ونقيضِها ليس الحقيقةَ الأخيرةَ للمادة، بل إنّ الأطروحةَ الجديدةَ صارت بدلًا من ذلك مع نقيضِها، فجُمِع بينهما. وهذه العملية يمكن أن تستمرّ بشكل مُجْدٍ إلى ما لا نهاية، حتى تصل التركيبَ الأقصى، الذي يسمّيه هيغل الفكرةَ المطلقة.

مشروع هيغل الفلسفيُّ الأساسيّ أخذَ التناقضاتِ التي رآها في الفلسفةِ الحديثةِ والثقافةِ والمجتمع، وفسّرها على أنها جزءٌ من وَحْدةٍ شاملةٍ متطوّرةٍ وعقلانيّة، سمّاها في سياق الكلام: الفكرةَ المطلقة، أو المعرفةَ المطلقة. لقد آمن أنّ كلَّ شيءٍ مترابط، وأنّ فصلَ الواقع إلى أجزاءٍ منفصلةِ خطأ (كما فعل كلُّ الفلاسفةِ، ومن بينهم أرسطو). دعا إلى المثاليّة المطلقة (التي طوّرها من المثاليّةِ الفائقةِ لإيمانويل كانط)؛ إذْ يدركُ الكونُ قوّتَه الروحيّةَ بتطوُّر المجتمعِ البشريّ، ويمكن رؤيةُ العقلِ والطبيعةِ فكرتين تجريديّتين لروحٍ كاملة لا تتجزّأ.

على أيِّ حال، إنّ الترجمةَ الجدليّةَ التقليديّةَ الثلاثيّةَ لمقاربة هيغل (الأطروحةُ، ونقيضُها، والتركيب) مبسّطةٌ جدًّا. ومن وجهة نظر هيغل، فإنّ تحليلَ أيِّ وَحْدةٍ تبدو بسيطة؛ يكشفُ تناقضاتٍ داخليّةً مخفيّة، وهذه التناقضاتُ تقود إلى انحلالِ الشيء أو الفكرةِ في الشكل البسيط الذي عَرَضت نفسَها فيه، وتطوُّرِها إلى مستوًى أعلَى وأكثرَ تعقيدًا، يَدْمُجُ التناقضاتِ بشكل كافٍ.

لقد كان هيغل الفيلسوفَ الأوّلَ الذي عَدَّ التاريخَ وفلسفةَ التاريخِ مهمَّين، فالنظريّةُ التاريخيّةُ لهيغل تقوم على أنّ كلَّ المجتمعاتِ البشريّةِ (وكلَّ النشاطاتِ البشريةِ؛ كالعلومِ، والفنِّ، والفلسفة) تُحدَّدُ بتاريخها، وأنه يمكنُ البحثُ عن خلاصتِها بفَهمِ ذلك فقط.

ووَفْقَ ما قال به هيغل، إذا أردنا فَهْمَ لِمَ حالةُ شخصٍ ما كذلك، يجب وضعُ هذا الشخصِ في مجتمعٍ ما، ولفَهمِ هذا المجتمعِ يجبُ فَهمُ تاريخِه والظروفِ التي كوّنتْه. ومن أقواله المشهورة في ذلك: «الفلسفةُ هي تاريخُ الفلسفة».

لقد طَوّر نظامُه في فَهمِ التاريخ والعالم مِن تعاليمه الجدليّةِ الشهيرةِ حول الأطروحةِ ونقيضِها والجمعِ بينهما. وعَدَّ التاريخَ تقدُّمًا يتّجه دائمًا إلى الأمام، ولا يكونُ ساكنًا أبدًا، فكلُّ حركةٍ ناجحةٍ تنبثق حلًّا للنقائض المتأصّلةِ في الحركات السابقة. آمن هيغل بأنّ كلَّ حالةٍ معقّدةٍ تتضمّنُ عناصرَ متضاربة، تعملُ على عدم استقرارِها، وتقودُ إلى استحالتِها حالةً جديدةً تُحَلّ فيها التضارُبات. على سبيل المثال؛ شَكّلت الثورةُ الفرنسيّةُ بدايةَ الحريةِ السياسيّةِ الحقيقيّةِ للفرد، لكنها حَملت بين طَيّاتها بذورَ الحكمِ الوحشيِّ للإرهاب الذي تَبِعَها، وبعدها فقط صارت هناك إمكانيّةُ الحالةِ الدُّستوريّةِ للمواطنةِ الحرّة، التي تجسِّدُ القوّةَ الخيريّةَ للحكومة العقلانيّة، والأفكارَ الثوريّةَ عن الحريةِ والمساواة.

ولذلك؛ فإنّ تاريخَ أيِّ محاولةٍ بشريّة لا يُبنى عليها فقط، بل يُبدي أيضًا ردودَ أفعالٍ على ما قد حدث من قبل. هذه العمليّةُ مستمرّة؛ لأن التركيبَ الناتجَ يملِكُ تناقضاتٍ متأصّلةً تحتاجُ إلى حلّ (ولذلك يصبحُ التركيبُ أطروحةً جديدةً لجولةٍ جديدةٍ من الجدل). عمومًا، كان إيمانُ هيغل وبشكل حاسم؛ أنّ هذه العمليّةَ الجدليّةَ ليست عشوائية، بل لها اتجاهٌ أو هدف، وهذا الهدفُ هو الحريةُ والمعرفةُ المطلقةُ للعقلِ بصفتِه واقعًا نهائيًّا.

في الاعتبارات السياسيّة والاجتماعيّة، رأى هيغل أنّ الهدفَ النهائيَّ لهذه العمليّة السياسيّةِ أن تكون خاليةً من الصراعات، وأن تُوصِلَ إلى مجتمع عقلانيّ، لكنّ ذلك لم يكن يعني له مجتمعًا عَقَدِيًّا، أو منطقًا تجريديًّا صافيًا كالثورة الفرنسية، بل مجتمعًا يبحث عمّا هو عقلانيٌّ داخل ما هو حقيقيٌّ وموجودٌ مسبقًا. وقد عارض البعضُ رؤيةَ هيغل للدولة بصفتِها وَحْدةً عقلانيّةً عضويّة، لا تتركُ مجالًا لمعارضةِ الفردِ أو الخِيار، ولا مجالًا للحريّةِ المطلقة التي دعا إليها. لكن يجب التنبيهُ على أنّ فكرةَ هيغل عن الحرية كانت مختلفةً قليلًا عمّا نعتقده عن الاعتبارات التقليديّة لها. ورغم ذلك، لم يفسِّرْ في أيّ تفصيلٍ رؤيتَه للحالة المثاليّة، وكيف يمكنُ بها تجنُّبُ الغرقِ في الاستبدادِ والشموليّة.

رفض هيغل بشكل قاطع فكرةَ (كانط)؛ «الشيءُ في ذاتِه»؛ متعارضًا مع رؤيتِه في أنّ الشيءَ الموجودَ لا سبيلَ إلى معرفته؛ لكونِه متناقضًا وغيرَ متناسق. وعلى النقيض، رأى أنّ أيَّ شيء يجبُ بالتعريف أن تكون معرفتُه ممكنة؛ «الحقيقةُ هي العقلانيّة، والعقلانيّةُ هي الحقيقة». وأكّد على أنّ ما يصبحُ الحقيقةَ هو (Geist) (يمكن أن نقول إنه العقلُ أو الروح)، الذي رآه أيضًا تقدُّمًا خلال التاريخ، إذْ تملِكُ كلُّ مرحلة (Zeitgeist) (روحَ العصر)؛ ولذلك، رغم تغيُّرِ الأفراد وكامل المجتمعات بصفتها جُزءًا من العمليّة الجدليّة؛ ما يتغيرُ بالفعل هو الروحُ الكامنة. رأى أيضًا أنّ كلَّ وعيٍ للفرد هو جزءٌ فعليٌّ من العقل المطلق (وإنْ لم يدرك الفردُ ذلك)، وعارض فكرةَ أننا لو فهمنا أننا جُزءٌ من الوعيِ الأكبر؛ لَمَا كنّا اهتممْنا بحريتِنا الشخصيّة، ولَوافقْنا على التصرّف بعقلانيّة، بطريقة لا تتْبعُ تغيّراتِنا الشخصية، ومن ثَمّ تحقيقَ الذات.

ناقش هيغل أيضًا في أعماله مفهومَ العزلة، وفكرةَ أنّ شيئًا ما وهو جزءٌ منّا يبدو -بطريقة ما- غريبًا أو أجنبيًّا. لقد عرّف الروحَ الحزينةَ التي تصلّي لله الذي تراه كاملَ القوّةِ والمعرفةِ والخير، بينما ترى نفسَها عكسَ ذلك؛ بأنها غيرُ قويّة، وجاهلةٌ، ومنحطّة. فقد رأى أنّ هذا خطأ؛ لأننا جزءٌ فعّال «من الله»؛ ولذلك نملك كلَّ صفاتِه الحسنةِ والسيّئة.

تُعدّ أفكارُ هيغل ذروةَ المثاليّةِ الألمانيّةِ في أوائل القرنِ التاسعَ عشر. ورغمَ قمعِ فلسفتِه من اليمين المحافظ البروسيّ، والرفضِ القويِّ من اليسار؛ كان تأثيرُه هائلًا في الفلسفةِ وغيرِها من العلوم. وكانت له بصمةٌ واضحةٌ في الكثير من المدارس الفلسفيّة التالية.

وفي النصف الأخير من القرن العشرين، خَضعت فلسفةُ هيغل لنهضةٍ كبيرة؛ بسبب إعادةِ تقييمِه بصفته رائدًا فلسفيًّا للماركسيّة، وبسبب عودةِ المنظور التاريخيِّ الذي جلبه لكلِّ شيء، والتقديرِ المتزايدِ لأهميةِ طريقتِه الجدليّة.

المصدر:

هنا