التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

الاستعمار الفينيقي لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط

استمع على ساوندكلاود 🎧

لقد كان ازدهار المدن الفينيقية كمدينة صور وصيدا وجبيل مرتكزاً في أساسه على التجارة، كما كان السعي لإيجاد سلع وأسواق جديدة هو ما أثمر عنه انتشار الحضارة الفينيقية من الساحل الضيق لبلاد الشام إلى استعمار مناطق جديدة في كافة أنحاء منطقة البحرالأبيض المتوسط قديماً، وذلك في القرن العاشر قبل الميلاد. وقد حظيت بعضُ هذه المستعمرات كوادي لبدة (في ليبيا) وقادش وباليرمو بأهميةٍ كبيرةٍ آنذاك، ولا تقل عنها أهميةً مدينة قرطاج الواقعة على الساحل الشمالي لإفريقيا، والتي كان من شأنها في نهاية المطاف أن تتفوق على المدينة الأم صور، وأن تؤسس لامبراطوريةٍ مستقلةٍ بحد ذاتها. كيف تشكلت هذه المستعمرات؟ وما هو الإرث الذي تركته وراءها؟ هذا ما سنتعرف عليه في مقالنا التالي...

من المراكز التجارية إلى المستعمرات:

كان الفينيقيون تجاراً بارعين وملاحين ماهرين، ولا شك في أن هذا الخليط من المواهب أثمر عن إيجاد مستعمراتٍ لهم أينما حلّوا. لقد كانت أهم طرق التجارة لدى الفينيقيين هي تلك التي تعبر البحر وصولاً إلى الجزر اليونانية وجنوب أوروبا، وإلى الأسفل وصولاً إلى الساحل الأطلسي لأفريقيا، وإلى الأعلى باتجاه انكلترا القديمة. إضافةً لذلك، فقد كانت طرق الوصول إلى شبه الجزيرة العربية وبلاد الهند تتم عبر البحر الأحمر، وأما المساحات الشاسعة لغرب آسيا فكان الوصول إليها يتم من خلال ربطها بالدولة الفينينقية عبر طرقٍ بريةٍ كانت تنقل فيها البضائع بواسطة القوافل التجارية.

لقد حتم العمل في مجال التجارة والبحث عن سلعٍ ثمينةٍ (من أجل التبادل التجاري، ودفع ضريبة الدولة الآشورية، وكذلك من أجل استخدامها في مجال الصناعة الفينيقية المزدهرة) تأسيس مراكز تجارية دائمة. بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت السفن الفينيقية بشكلٍ عام (وبالتأكيد ليس دائماً) غالباً ما تبحر بالقرب من الساحل وعلى مرمى البصر وفقط أثناء النهار، ما جعل من إيجاد محطاتٍ بحرية منتظمة أمراً لا بد منه أيضاً. باتت تلك المحطات البحرية، والتي كان اختيارها يتم بناءً على موقعها الآمن ومستوى المياه الضحلة إضافةً إلى دنوها من المياه العذبة، أكثر رسوخاً بهدف السيطرة على أنواعٍ محددةٍ من السلع التجارية في كل موقعٍ بحد ذاته. وعلاوةً على ذلك فقد أصبحت المراكز التجارية الدائمة أسواقاً جديدةً وقيمةً استغلها الفينيقيون في بيع منتجاتهم الصناعية، إضافةً إلى دورها أيضاً في حماية المصالح التجارية الفينيقية طويلة الأجل. ومع مرور الوقت تطورت تلك المراكز التجارية لأبعد من كونها مجرد محطاتٍ تجارية، فقد ازدادت شعبيتها وصارت أكثر استقراراً، وصار طراز بنيانها أكثر أهميةً، وهكذا إلى أن باتت محطات مراقبة التجارة الصغيرة تلك، مستعمراتٍ كاملةً ومدناً كبيرةً مستقلةً بحد ذاتها.

لربما كان الدافع الأكبر وراء استعمار الفينيقيين لمنطقة حوض المتوسط يكمن في التجارة أكثر من كونه دافعاً بهدف التوسع واحتلال أراضٍ جديدة، غير أن الدافع الأول أدى بالضرورة إلى وجود الآخر كأمرٍ لا مفر منه.

صحيحٌ أن موطن الفينيقيين الأصلي بدأ بالانحسار متأثراً بازدياد انتشار القوى المجاورة له، كما قد يكون التغير المناخي قد لعب دوراً في ذلك أيضاً، فقلة تساقط الأمطار تركت تأثيراً سلبياً على الأراضي الزراعية وكذلك المحاصيل الزراعية، ولكن المشكلة الأسوأ كانت في ازدياد الكثافة السكانية للشعب الفينيقي.

ولكن وأياً كانت الدوافع، تبقى نتيجة هذه العملية الطويلة من الاستعمار الفينيقي هي تأثير النفوذ الدائم والمستمر للفينيقيين والذي امتد ليشمل كامل الخط الساحلي لمنطقة حوض المتوسط.

تأريخ فترة الاستعمار الفينيقي:

يعود تاريخ الاستعمار الفينيقي حسب ما يرويه الكتاب القدماء إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، غير أن بعض المؤرخين في العصر الحديث يعتبرون ذلك التاريخ أبكر بكثيرٍ من أن يكون بالفعل هو بداية الاستعمار الفينيقي، فهم يرون أن الاستعمار الفينيقي كان معاصراً لفترة الاستعمار اليوناني الذي يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. في حين يرى بعض الدارسين للتاريخ أن تواصل الفينيقيين مع العديد من المناطق قديماً لا بد من أنه قد بدأ في وقتٍ أبكر من ذلك حتى، ويستشهدون على تلك الحقيقة بوصول الأبجدية الفينيقية إلى اليونان، إضافةً إلى ما يذكره أحد المراجع التاريخية القديمة من أن السفن البحرية القادمة من مدينة صور إلى إحدى المستعمرات (قد تكون يوتيكا -تونس حالياً- أو غالباً قبرص) لم تكن تدفع ضريبة مرورها ما يعني أنها كانت أرضاً واحدة، ويجمع كل كتاب التاريخ القدماء على أن استعمار الفينيقيين لمنطقة حوض المتوسط كان قد قام بالفعل قبل اليوناني. وصحيحٌ ما تذكره سجلات الآثار أنه من غير المحتمل أن تكون المراكز التجارية البدائية الأولى قد تركت أثراً بالكاد يذكر، الأمر الذي يجعل دارسي الآثار يبحثون عن دليلٍ ملموسٍ للاستعمار الفينيقي يعود إلى ما قبل القرن الثامن، وهذا ما يشكل تحدياً صارماً في محاولة العثور على ذلك الدليل.

الشكل (1): خريطة توضح انتشار المستعمرات الفينيقية واليونانية

ولذلك فقد تم التوصل إلى تسويةٍ بين علماء التاريخ تفترض بأن "فترة قبيل الاستعمار" بدأت بإنشاء المراكز التجارية ما بين القرن الثاني عشر والثامن قبل الميلاد، تلتها مرحلة تأسيس المستعمرات بين القرن الثامن والعام السادس قبل الميلاد تحديداً. وخلال تلك المرحلة التي دامت لأكثر من 500 عامٍ، تمكن الفينيقيون من السيطرة على شبكةٍ من النقاط التجارية جعلتهم أحد أعظم القوى التجارية في العالم القديم.

فينيقيا ذاتها كانت من بين تلك المستعمرات وكذلك حضارات ذلك العصر القديم العظيمة، فقد قاموا بشحن وتبادل السلع التجارية كالمنسوجات والزجاج وورق البردي والمعادن الثمينة والخشب والصوف والفخار والمواد الغذائية والتوابل والعبيد.

جزيرة قبرص والجزر الأخرى:

لربما لعب الموقع الجغرافي القريب لجزيرة قبرص من المستعمرات الفينيقية دوراً في كونها أحد أوائل المواقع التي تم احتلالها من قبل الفينيقيين، وقد يرجع ذلك إلى تاريخٍ باكرٍ جداً أي إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وقد حفزت جزيرة قبرص بما احتوته من ثروات طبيعية كالخشب والنحاس الفينيقيين على التمدد والانتشار. وتعتبر مدينة كيتيون أحد أهم مدنها، إضافةً إلى بعض المدن الأخرى كجولجوي وايداليون وتاماسوس وماريون وليبثوس. كما استعمر الفينيقيون بعض الجزر في بحر إيجه أيضاً كجزيرة رودوس (كاميروس واياليسوس) وجزيرة كريت (ايتانوس) وكيثيرا وميلوس وثاسوس وثيرا.

شمال افريقيا:

لطالما ارتبطت فينيقيا بعلاقاتٍ تجاريةٍ قويةٍ مع مصر، حتى أنه من الأرجح أن تكون أولى المراكز التجارية الفينيقية قد تأسست على أرض مصر، وفي وقتٍ أبكر بكثيرٍ من أي مكان آخر. على طول الساحل الشمالي لافريقيا، والذي يتميز بتربته الخصبة إضافةً إلى سهولة الوصول إلى سلع التجارة الداخلية كالعاج، فقد ذكرت المصادر التاريخية القديمة أن مدينة يوتيكا أو ما يعرف بتونس اليوم قد تأسست في العام 1101 قبل الميلاد من قبل صيدا. وأما مدينة قرطاج، وحسب المصادر ذاتها، فقد تأسست في العام 814 قبل الميلاد من قبل صور. إضافةً إلى مستعمراتٍ أخرى كأوزا (كما ذكرت النصوص فقد تأسست من قبل صور ولكنها مجهولة الموقع) وليبتس ماغنا (لبدة) وهيبو وهادروميتم وويكسوس. عندما ازدهرت مدينة قرطاج وتطورت لتصبح مدينةً كبيرةً مستقلةً بحد ذاتها، بدأت هي الأخرى بإيجاد مستعمراتٍ تابعةٍ لها أيضاً، الأمر الذي أدى إلى نشوء بعض الارتباك في أوساط المؤرخين (القدماء منهم والحديثين) فيما يخص التواريخ ومن الذي قام بإنشاء الآخر تحديداً.

ايطاليا:

لقد كانت جزيرة صقلية مستعمرةً فينيقية، بالرغم من أن الفينيقيين اضطروا إلى الانسحاب إلى غرب الجزيرة عندما هاجمهم اليونان. لقد تم إنشاء مدنٍ كموتيا وبانورمو (تعرف حديثاً بـ باليرمو) وسولونتو منذ القرن الثامن قبل الميلاد، وقد تزامن ذلك مع إنشاء مستعمراتٍ أخرى على جزرٍ ذات أهمية استراتيجية كلامبيدوسا ومالطا وبانتيليريا. ومرةً أخرى أثار حجم الدور الذي لعبته قرطاج في هذه العملية جدلاً في أوساط المؤرخين. وبعيداً باتجاه الغرب حيث تقع جزيرة سردينيا (الغنية بالبقول) والتي كانت على الأرحج قد استعمرت منذ القرن التاسع قبل الميلاد مع كل ما تحتويه من مدنٍ مهمة كمدينة نورا وكاراليس (كاجلياري) وبيثيا وسولسيس وكارلوفورت وثاروس.

اسبانيا:

كانت اسبانيا في العصور القديمة غنيةً بمعدن الفضة الذي تمكن الفينيقيون من التجارة به من أهالي المدينة مقابل سلعٍ زهيدة كالزجاج والزيت والفخار. تشير المراجع التاريخية القديمة إلى أن مدينة قادش قد تأسست في العام 1110 قبل الميلاد، غير أن الدلائل التي تشير إلى التاريخ المبكر ضعيفةٌ جداً ومثيرةٌ للجدل. إضافةً إلى ذلك هناك بعض المستعمرات الفينيقية الأخرى كملكا (حديثاً ملجا) وسيكسي (الميونيكار بالاسبانية والمُنَكّب بالعربية) وأبديرا (أدرا حديثاً وعذرة بالعربية) وإيبوسوس (إيبيزا حديثاً)، ولطالما كان يعتقد أن هذه الأخيرة أي إيبيزا كانت مستعمرةً قرطاجية، إلا أن الدلائل الواضحة تشير إلى أنها كانت من أوائل المستوطنات الفينيقية.

الشكل (2): خريطة توضح أماكن المستعمرات الفينيقية (بالأصفر) واليونانية (بالأحمر) ما بين القرن الثامن والسادس ق.م

العلاقة مع الوطن الأم:

تتفاوت المستعمرات التي أسسها الفينيقيون في مدى قربها من ثقافة الوطن الأم وعاداته، وذلك بناءً على الموقع الجغرافي للمستعمرة وأيضاً العادات والتقاليد التي يمارسها سكان المستعمرة ذاتها؛ ولربما تعتبر منطقة شمال أفريقيا الأكثر تطبعاً بالثقافة الفينيقية من أي منطقةٍ أخرى، فقد تم تبني المعتقدات الدينية الفينيقية، وعبادة الآلهة الفينيقية أيضاً كملقرت وعشتروت، وقد تزامن ذلك مع تشييد المعابد والمقدسات والأضرحة، إضافةً إلى أداء الممارسات الدينية والاحتفالات تماماً كما كانت تقام في مدن الوطن الأم كصيدا وصور. وتعتبر أحد أهم الملامح الفينيقية التي عثر عليها في تلك المستعمرات هي "توفة"، وهي عبارة عن حرم مقدس تم بناؤه خارج المدينة، وفيه كانت تنفذ التضحيات أو ما يعرف بالقرابين، وكانت التضحية بالأطفال جزءاً من تلك الممارسات (ربما فقط في ظروف استثنائية).

لقد كان أحد ما صدرته الحضارة الفينيقية هو الفن الفينيقي، وليس متمثلاً فقط بقطعٍ فنية مجسدة وإنما أيضاَ بالأفكار والأساليب، فقد أُنشئت ورش العمل في المستعمرات التي كانت قادرة على إنتاج السلع الفاخرة، كمصوغات الذهب والقماش المصبوغ باللون الأرجواني التي كان الوطن الأم شهيراً بها.

كان فن الهندسة المعمارية أيضاً أحد ما صدرته الحضارة الفينيقية، حيث نُسخ طراز العمارة من الوطن الأم وظهر جلياً في أسلوب عمارة المعابد كمعبد ملقرت في قادش الذي حاكى في تصميمه وأعمدته تماماً ذاك الذي في صور.

ولو اعتبرنا أن الدين والفن للحضارة الفينيقية يصبان معاً في بوتقةٍ واحدة، فالبوتقة الأخرى للحضارة الفينيقية تجمع كلاً من المواد الخام وجبي الضرائب. فقد كان على مدينة قرطاج في كل عام إرسال الضريبة والتي كانت تبلغ عِشر إيراداتها السنوية إلى معبد ملقرت في صور. وكلما ازداد ازدهار المستعمرات الفينيقية كلما اتسعت مساحاتها، ولربما كان ذلك أحد العوامل المرتبطة بازدياد النمو السكاني. فزادت تلك المستعمرات من وسائل الدفاع العسكري والجيش، فبنت القلاع والحصون، وحاربت الشعوب الأصليين في المناطق المستعمرة، ونافست القوى الإقليمية، فتلك المستعمرات الآن أصبحت مدناً مستقلةً بحد ذاتها، وتحارب من أجل وجودها في العالم القديم.

إرث الفينيقيين:

وفي نهاية المطاف أصبحت المستعمرات الفينيقية إما حضاراتٍ معاصرة تسعى للتمدد والانتشار، أو أنها انصهرت في ثقافات الشعوب المحلية. فعلى سبيل المثال تم احتلال مدينة قبرص من قبل سرجون الثاني في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، وحاصر نبوخذنصر مدينة صور في بداية القرن السادس الميلادي، وازداد طموح اليونان في توسعة نفوذهم الاستعماري مما اضطر الفينيقيين إلى التخلي عن نفوذهم في أجزاء من ماغنا جراسيا أو ما عُرف قديماً باليونان العظمى (ويشير ذلك إلى المنطقة الواقعة على الساحل الجنوبي لإيطاليا). وكما ذكرنا سابقاً من أن بعض المستعمرات حققت نجاحاً ملموساً لدرجة أنها أنشأت مستعمراتٍ تابعةً لها، كما هو الحال في مدينة قرطاج في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وكذلك الشروع في الحملات العسكرية بهدف صياغة شكل امبراطوريتها ومن ثم انتزاع السلطة من المستعمرات الفينيقية. إن سلطة ونفوذ الدولة الفينيقية ذاتها انهار أكثر وأكثر مع الهجوم الذي شنه الاسكندر الأكبر عليها في العام 332 قبل الميلاد، غير أن فينيقيا ومنذ ذلك الحين ساهمت بشكلٍ كبيرٍ جداً ومن خلال رغبتها الطموحة والجريئة في إنشاء المستعمرات في إيجاد التواصل الحقيقي في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.

المصدر:

هنا