البيولوجيا والتطوّر > بيولوجي

القردة العليا، والسفر الزمني داخل العقل

شممت البارحة عبق الياسمين من شتلة كانت موضوعة في متجر الزهور، فأخذتني رائحتها في ذكريات صيفية جميلة قضيتها في حارات دمشق القديمة.. لكن هل تملك الرئيسيات الأخرى السلوك نفسه؟ ولنتعرف معاً على ما يدعى بالذاكرة العرضية...

لحن أغنية.. رائحة عطر.. طعمٌ معيّن..

منبّه واحدٌ هو كلّ ما نحتاجه ليتدفّق في خيالنا طيفٌ من الذكريات. وذلك بالإستعانة بذاكرتنا الشخصية والتي هي نوعٌ من أنواع الذاكرة التي كانت تعتبر ميّزة خاصة بالبشر.

ولكن ماذا عن الحيوانات؟ هل تملك ذاكرة تسلسليّة وذكريات عن حياتها الماضية؟ أم أنها "عالقة في الحاضر" ولا تميّز الماضي عن المستقبل؟ العلم يخطو خطوةً أقرب للإجابة عن هذه الأسئلة ، فهناك دراسةٌ جديدة تقترح وجود جنسين على الأقل من القردة العليا: الشمبانزي والاورانغوتان لديها المقدرة ذاتها .

في التجارب الحيوانية اعتمدت الحيوانات على ذكريات تعود إلى 3 سنوات لحلّ مشكلة ! أي أنّ النتائج دلّت على امتلاكها لذاكرة طويلة الأمد والتي قد تكون تطوّرت كأداةٍ لحلّ المشكلات، ولكن يحذّر الباحثون من أن نوع الذاكرة التي استخدمتها القرود لا تزال غير واضحةٍ تماماً .

الفيلة على سبيل المثال تتذكّر، ولكنّ لها طريقة للتذكّر مختلفة عن البشر. فالعديد منها يستطيع تذكّر تفاصيل بيئته والطرق التي سافر عبرها، ولكنها تفتقد للذاكرة الشخصية عن الأشياء التي فعلتها (الذات)، أو استذكار حوادث حدثت في الماضي، أو تخيل حوادث في المستقبل ، وذلك ما يسمى (السفر الزمنيّ داخل العقل) فقد اعتبر العديد من العلماء أنها مهاراتٌ يتميز بها الجنس البشري.

"الذاكرة العرضية" نوعٌ آخر من أنواع الذاكرة والتي تجيب الأسئلة المتعلقة بطبيعة الأحداث (لماذا ؟ وأين ؟ ومتى ؟)

أظهرت عدّة أبحاثٍ أن طائر القيق أو الزرياب يملك ما يشبه الذاكرة العرضية، فهو يتذكر أين ومتى خبأ الطعام، كما تتذكر الفئران أيضاً رحلاتها خلال المتاهات وتستخدم هذه الذكريات لتخيل رحلات المتاهات المستقبلية .

"هناك أدلّة جيدة تعارض كون الحيوانات غير البشرية عالقةً في الزمن" يقول جيما مارتين اورداس، عالم النفس المقارن في جامعة آرهس في الدنمارك والكاتب الرائد في هذه الدراسة. ولكن محاولة إظهار أن القردة لديها استذكار واعٍ للذاكرة الشخصية سيكون أمراً صعبا كما يقول.

إذا كانت الشامبانزي والأورنغوتان لديها ذاكرة شخصية، فهل يمكننا أن ننبه هذه الذاكرة عن طريق منبه حسيّ؟ (كرائحة الياسمين)؟

للإجابة على هذا السؤال، قامت مجموعة من الباحثين بتكوين مشهدٍ قابلٍ للاستذكار للقردة في حديقة لايبزيخ للحيوانات .

في عام 2009، ثمانية قرود شمبانزي وأربع قرود أورنغوتان شاهدوا بشكل منفرد مارتيد اورداس يضع قطعة موزٍ على طاولة بالقرب من قضبان القفص، ولم تستطع القردة الحصول على الجائزة إلا بواسطة عصى طويلة . قام الباحث بعد ذلك بتخبأة عصاتين واحدة منهما فقط تستطيع القيام بالمهمة ، قامت الحيوانات بمشاهدته وهو يخبئ كل عصى في صندوق في غرفة مختلفة . وكان على القردة البحث عن الأداة الصحيحة ثم العودة إلى الغرفة للحصول على الجائزة.

خلال الثلاث سنين التالية، خضع قرود الشمبانزي والأورنغوتان إلى العديد من المهمات برفقة مارتين أورديس في الغرفة نفسها. أحياناً تطلبت هذه الاختبارات منهم استخدام أداة للبحث عن الموزة وأحيانا كان يتوجب عليهم البحث عن أداة مفقودة ، ولكن لم يختبروا التجربة نفسها التي خضعوا إليها سابقاً حتى ذلك اليوم في عام 2012 .

في ذلك اليوم واجهت القردة التجربة نفسها مع نفس الباحثين الذين حضّروها منذ 3 سنوات، من الواضح أن خليط المنبهات قام بتنبيه ذاكرة القردة لأنها كلها عدا قرد أورانغتان واحد تذكرت ما يجب عليها فعله لإتمام المهمة بسرعةٍ وبدقة .

تجربةٌ أخرى أكدت أن القردة تستطيع بواسطة منبه واحد (مراقبة لعبة الميزان المتأرجح) أن تتذكّر بعد أسبوعين أن عليها استخدام كرةٍ خشبيةٍ للحصول على جائزة .

وضّحت التجربتان السابقتان أنه على الأقل يمتلك كلّ من جنسي القرود العليا (الشامبانزي والاورنغوتان) القدرة على تذكّر أحداثٍ دقيقة واستخدام هذه الذاكرة لحلّ مشاكل معينة، وهي ظاهرةٌ لم تلاحظ سابقاً لدى القرود العليا، يقول جوناثان كريستالز دارس علم النفس المقارن في جامعة انديانا: "إنّ ثلاث سنواتٍ هي مدّة طويلة للإعتماد على الذاكرة ليس فقط عند الحيوانات بل حتى عندنا أيضاً، إنه لشيء مبهر جداً !"

ولكن كريستالز وعلماء آخرين لم يقتنعوا بأن هذه التجربة تدل على وجود الذاكرة الشخصية، يقول مارتين أ.كونواي باحث الذاكرة في جامعة لندن: قد تملك القردة ذاكرةً عرضيّة لحظة بلحظة، ولكنها لا تقول لنفسها: لا أصدّق هذا، لقد عدنا إلى هذا المعمل الغبيّ والتجربة الغبية مرة أخرى! لا أعتقد أن هذا ما كانت تفعله القردة في التجربة.

المصدر: هنا

الصورة: Brad Wilson