العمارة والتشييد > المدارس المعمارية

العمارة الرُّومانيِّة - الجزء الأول

استمع على ساوندكلاود 🎧

تُعد الحضارة الرومانية امتداداً لحضارة الإغريق (400 ق م -400 م) لذلك احترم المعماريُّون الرُّومان الإرث المتبقِّي من مهندسي العمارة الاغريقيَّة السابقين، وساروا وفقاً للمبادئ التوجيهيَّة الموضوعة من قبلهم، حيث كان للعديد من المباني الرُّومانية طابعاً إغريقيَّاً. إلا أنَّ الرُّومان كانوا مخترعين عظماءَ أيضاً، فيتبنُّوا بسرعة تقنيَّات بناء وموادَّاً جديدة، ليجمعوا بشكل مميَّز بين التقنيَّات الموجودة والتَّصميمات المبدعة ويُخرجوا لنا مجموعة جديدة من الأبنية المعماريَّة التي كانت استجابة للاحتياجات العمليَّة للمجتمع الرُّوماني كمباني البازيلكا وقوس النَّصر وقنوات جرّ المياه والمدرَّجات والمباني السكنيَّة. كانت هذه المنشآت مدعومة من قبل السُّلطات التي موَّلتها ونظَّمتها ونشرتها في جميع أنحاء العالم الرُّوماني، مولين اهتماماً كبيراً بديمومتها، ممَّا سمح للعديد من هذه الصُّروح بالبقاء ليومنا هذا.


الأنماط المعماريَّة للأعمدة

تابع المعماريُّون الرُّومان السَّير على خطى المبادئ الرئيسيَّة لأنماط الأعمدة الإغريقيَّة وهي الدُّوري والأيوني والكورنثي والذي كان مفضَّلاً بالنِّسبة لهم. كما قام المعماريُّون الرُّومان بإضافة أفكارهم الخاصَّة، حيث أصبح تاج العمود الكورنثي والكورنيش أكثر زخرفةً. بالإضافة لذلك أوجد الرُّومان أنماطاً معماريَّة جديدة للأعمدة تعتمد على الدَّمج بين الأنماط المعماريَّة السَّابقة، كالنَّمط المركَّب والتَّاج فيه عبارة عن مزيج بين الزَّخرفة الحلزونيَّة للتَّاج الأيوني والزَّخرفة النباتيَّة للتَّاج الكورنثي. كما أوجدوا العمود التَّوسكاني وهو تعديل للنَّمط الدُّوري ليصبح بتاجٍ أصغر وبدنٍ أكثر نحالةً وبدون أخاديد على امتداده مع وجود قاعدة أسفله. استخدم هذا العمود الذي حصل على تسميته في فترة عصر النَّهضة بشكلٍ خاصٍ في الفراغات الدَّاخلية كالبهو المُعمَّد وأسفل الشُّرفات. كما فضَّل الرُّومان استخدام أعمدة monolithic وفيها يكون بدن العمود مؤلَّفاً من قطعة حجريَّة واحدةٍ عوضاً عن الإسلوب الاغريقي المتمثِّل باستخدام عدَّة قطع حجريَّة متراصَّة فوق بعضها. اللّافت في الأمر هو استمرار الرُّومان باستخدام الأعمدة لا لأغراض أو ضرورات إنشائيَّة بل لإعطاء المبنى طابعاً كلاسيكيَّاً ومألوفاً مثل واجهة معبد البانثيون Pantheon.

أمَّا في مكتبة Hadrian في أثينا (132 م) فالأعمدة مفصولة عن المبنى، لكِّنَّها متصلة مع الواجهة بارتباطٍ بسيطٍ عبر القاعدة والتَّاج. بينما نلاحظ أنَّ الأعمدة مدموجة مع الجدران في الجزء العلوي لمبنى الكولسيوم Colosseum.


موادُّ البناء

استخدم الرُّومان مجموعة واسعة من مواد البناء وابتكروا مواداً حديثة دمجت بشكلٍ فريدٍ مع مواد البناء الموجودة مسبقاً.

الرُّخام: شُيِّدت بعض المباني من الرُّخام بالكامل كمعبد Jupiter (146 ق.م) في روما حيث كان الخيار المفضَّل لكثيرٍ من المعماريِّين الرُّمان وخاصةً للمباني المموَّلة من الدَّولة.

أشهر أنواع الرُّخام الإيطالي المستخدم كان رخام Carrara من مدينة Tuscany، لكن لم يقتصر الاستخدام على هذا النَّوع حيث تم استيراد الرُّخام من كافة أرجاء الامبراطوريَّة. كما استخدموا الأعمدة الرُّخاميَّة الملوَّنة كالرُّخام الأصفر من شمال افريقيا والبنفسجي من وسط تركيا والأحمر من مصر والأخضر المعرَّق من جزيرة Euboeaاليونانيَّة. إلا أنَّ استخدام هذه الأعمدة اقتصر بصورةٍ خاصَّة على الأعمدة والمباني الإمبراطوريّة نظراً لكلفت نقله المرتفعة جدَّاً.

الحجر: من الموَّاد التي شاع استخدامها وخاصَّةً الحجر الجيري الذي كان متوافراً من المقالع الحجريَّة القريبة بجوار مدينة Tivoli. جاءت شعبيته نظراً لإمكانيَّته الكبيرة في نقل الحمولات وقابليَّته للنَّحت وتشكيل الزخارف، كما استخدم في تعبيد الطُّرقات وإطارات الأبواب والنَّوافذ والأدراج.

الطُّوب: يعتبر من المواد الرَّخيصة حيث شاع استخدام الطُّوب المحروق لأنَّه أكثر ديمومة وأكثر قابليَّة للنَّحت، حيث كان يتم صبَّه في قوالب مربَّعة أو دائرية للأعمدة.

استخدم في الأسقف وبخاصَّة في القباب والقبوات نظراً لخفَّة وزنه كما استخدم الطُّوب الملوَّن (أصفر وبرتقالي) لإعطاء طابع زخرفيِّ.

الجصّ: استخدم بشكل خاصِّ لإكساء الجدران، فكان ينحت ليعطي نفس التصميمات التي اعتاد المعماريُّون الحصول عليها باستخدام الحجر. تم تصنيع الجصّ بمزج الرَّمل والجبس والماء مع استخدام غبار الرُّخام لإعطاء نوعيَّة أفضل.

الطفّ البركاني والخفاف (الحجر الاسفنجي تملؤه الثُّقوب) حيث استخدم في القباب نظراً لخفَّة وزنه كما في قبة مبنى البانثيون Pantheon.

البازلت: استخدم غالباً لرصف الطُّرق عبر قطعٍ متعددة الأضلاع.

الجرانيت المصري الوردي والرمادي الذي استخدم للأعمدة والمسلّات.

الخرسانة

بدأ الرُّومان باستخدام الخرسانة منذ حوالي 2000 عام، واستخدمت في أشهر المباني الرُّومانية مثل Colosseum وPantheon، وهي مختلفة عن الخرسانة في أيامنا الحاليَّة.

درس المهندسون خواصّ هذه المادة حيث يقول المهندس الميكانيكي Renato Perucchio: "إنَّ الخرسانة الرُّومانيَّة أضعف من الخرسانة الحديثة بنسبة تقارب 10 مرات. لكن ما هو مميَّز فيها هو زيادة قدرتها على المقاومة مع مرور الزَّمن". تكوَّنت من الجير المحروق والرَّماد البركاني (وهو المكوِّن الرَّئيسي الذي يعطي للخرسانة خصائصها) بالإضافة للماء، كما استخدمت الخرسانة كمادِّة رابطة لقطع الطُّوب أو الُّصخور البركانية (الطف) ولتشكيل الأساسات والجدران والقبوات والحصول على مجازات أكبر.

رغم نجاح الخرسانة إلا أنَّ استخدامها اختفى مع أُفول نجم الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة حتى أُعيد اكتشافها حديثاً.


المعابد

هي مزيج بين النَّمطين الإغريقي والاتروسكاني، حيث كانت القاعة الداخليَّة مرفوعة على قاعدة بارتفاع 3.5م، ومحاطة بالأعمدة مع مدخل مدرَّج. كان لجميع الواجهات نفس مستوى الأهميَّة عكس المعابد الإغريقيَّة التي اهتمَّت بواجهة الدُّخول فقط.

من الأمثلة معبد Maison Carrée في مدينة Nimes في فرنسا 19 ق.م، ومن المعابد الرُّومانية في الإقليم السُّوري معبد Venus في بعلبك في لبنان، والذي بني في القرن 3 م وما زالت أطلاله قائمة ليومنا هذا.

معبد البانثيون

بدأ بناء المعبد الحالي في عهد الإمبراطور Trajan واكتمل بعهد الإمبراطور Hadrianعام 125 م، وهو مبني على أنقاض معبدين سابقين، دمِّر أحدهما بسبب حريق والآخر بسبب صاعقة.

يُحملُ المعبد على قاعدة ارتفاعها 1.3م، وتمتدُّ ل 7م أمام الرِّواق المعمَّد المبني على الطِّراز الإغريقي الكلاسِّيكي والذي يفضي إلى القاعة الرَّئيسيَّة الدَّائرية ذات الطِّراز الرُّوماني.

تتألَّف الواجهة من 8 أعمدة كورنثيَّة، حيث بني جسم العمود بإسلوب monolithic من الجرانيت الرمادي، أمَّا التَّاج والقاعدة فمن الرُّخام الأبيض. تحمل هذه الأعمدة جبهة مثلثيَّة وهي فارغة حاليَّاً، ولكن الحفر الموجودة على سطحها تشير إلى أنَّها ربَّما ضمَّت ما يشبه الرَّمز أو الشِّعار كتمثال لنسر أو أكاليل من البرونز المطليّ بالذَّهب، وتمثال للإله Jupiter. أمّا الرِّواق المُعمَّد فكان مُغطَّى بالرُّخام ومزيَّناً بنقوشٍ لطقوس التَّضحيات الدِّينيَّة.

ما يميِّز مبنى البانثيون أنَّه أوَّل مبنى من العمارة الكلاسيكيَّة تُزيَّن واجهاته الدَّاخليَّة أكثر من الخارجيَّة. أمَّا جدران القاعة الدائريَّة فسماكتها 6 م، تقوم بحمل القبَّة المبنيَّة من الخفَّاف والخرسانة والمؤلَّفة من 5 طبقات متناقصة السَّماكة باتِّجاه الأعلى لتخفيف الحمولات. يبلغ نصف قطر القبَّة حوالي 43 م وهو نفس الارتفاع، أيّ أنَّها نصف كرة كاملة، كما يوجد في أعلى القبَّة فتحة بقطر 8.8 م. تحوَّل المبنى لاحقاً إلى كنيسة عام 608 م.

المسارح

استوحى الرُّومان تصميمها في البداية من الإغريق، لكنَّ الأوركسترا جاءت نصف دائريَّة لتوزيع صوتي أمثل وبنيت بأكملها من الحجر. كما أضاف الرُّومان خلف المنصة مبنى مزخرف بشكل مبالغ ضمَّ فيه أعمدة على مستويات مختلفة وأقواس وتماثيل. تظهر لنا المسارح ميل الرُّومان للمساحات المطوَّقة، حيث تمَّت تغطية بعض المسارح بشكل كامل أو جزئي بواسطة الخشب أو المظلّات القماشيَّة. حيث كانت المسارح المغطَّاة بالكامل هي المفضَّلة بالنِّسبة للرُّومان مثل مدرَّج Colosseum الشَّهير أو ما يعرف باسم مدرَّج Flavian.

مدرَّج Colosseum من المدرَّجات الأكثر شهرةً لحفاظه على معظم ملامحه، وهو أعلى المنشآت الرُّومانية بارتفاع يصل لحوالي 50م، مسقطه بيضوي الشَّكل وقطراه 188م و156م، حيث توزَّعت مدرَّجات الجمهور على محيطه حول ساحة العرض (arena). رغم زوال المقاعد والتي قدِّر عددها ب87 ألف مقعد موزَّعة على حوالي 50 صف حيث كانت تقسَّم المقاعد تبعاً لطبقات المجتمع، فخصِّصت الصٌّفوف القريبة من السَّاحة لأعضاء مجلس الشيوخ بمقاعد رخاميَّة نقشت عليها أسماؤهم. كما عثر تحت ساحة القتال على هيكليّة فرعيَّة قد تكون أوكاراً للحيوانات أو قنوات لضخّ وتفريغ المياه أثناء تقديم العروض والمعارك المائيّة. من الصّعب معرفة العمليَّة التي استطاع من خلالها الرُّومان تقديم عروض المعارك البريَّة ثم البحريّة في نفس اليوم.

يحتوي المدرَّج على 46 بوابة للدُّخول والخروج مع وجود مظلَّة قابلة للإزالة لتأمين الظلّ للمدرَّجات. تتألَّف واجهة المدرَّج الخارجيَّة من 3 طبقات من الأقواس، لكلِّ واحدةٍ منها نوعٌ مختلفٌ من الأعمدة، حيث استُخدم في الطَّابق الأرضي النَّمط التوسكاني (وهو الشّكل المبسَّط من النمط الدُّوري)، وفي الطَّابق الأول النَّمط الأيوني، أمَّا في الطَّابق الثَّالث فقد استُخدم النَّمط الكورنثي. تم افتتاح المدرَّج في عام 80م وهو مبني من الحجر الجيري والطُّوب والرُّخام مع استخدام الخرسانة للأساسات.

قوس النصر

ابتدعه الرُّومان كوسيلة لتخليد الانتصارات العسكريَّة والأحداث الهامَّة. يصنَّف حسب عدد بوَّاباته فهو إمَّا مدخل أو مدخلين أو ثلاث مداخل مسقوفة بأقواس ضخمة حيث كانت تبنى عادةً على الطُّرق الرئيسيَّة.

من أقدم الأقواس قوس L.Stertinius في روما 196 ق.م وهو بمدخلين فقط. أمَّا أكثر الأقواس التي حافظت على هيئتها حتى يومنا هذا هو قوس قسطنطين Constantine في روما والمبني عام 315م وهو متوَّج ب 4 عربات تجرُّها أحصنة من البرونز. أصبحت هذه الأقواس نصباً حجريَّة فخمة تشير للقوة والمجد الرُّوماني.

السَّكن

تميَّزت المنازل الخاصَّة لأثرياء القوم بجدرانها الداخليَّة المزيَّنة باللَّوحات الجداريّة والجبصين. كما كانت تضمُّ بهواً معمَّداً ومزيَّناً بزخارف جصيَّة وحدائق داخلية لتأتي جميعها بتناظر خلَّاب. أحد الأمثلة على هذه المنازل هو منزل Vettii في مدينة Pompeii في القرن 1 ق.م.

مباني روما السكنية(للسُّكان الأقل ثراءً)

ابتكر الرُّومان نمطاً جديداً للبناء سمِّي insula والتي تعني حرفيَّاً الجزيرة. وهي مجمَّعات سكنيَّة بلغ ارتفاع بعضها إلى 7-8 طوابق وكانت مبنيَّة من الطُّوب والخرسانة والخشب. كما امتلك بعضها شرفات وخُصِّص القسم الأرضي المواجه للشَّارع في بعضها لاستخدامه كمحلَّاتٍ تجاريَّة.

طبعاً ما هذا إلا جزءٌ ممَّا قدَّمته الحضارة الرُّومانية من إسهاماتٍ هامَّة على مستوى العمارة، فانتظرونا في الجزء الثاني من المقال لنتعرَّف على المزيد من ابتكارات الرُّومان في مجالات تأمين مياه الشرب والصَّرف الصحي وغيرها من الجوانب الأخرى.


المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا