العمارة والتشييد > العمارة والسينما

العمارة والسينما، علاقة متبادلة

استمع على ساوندكلاود 🎧

العلاقة بين العمارة والسينما علاقة متبادلة، فكلٌّ من هذين الفنَّين يحاول أن يوصل رسالته بأفضل وأدق صورة ممكنة. فتأثير العمارة في السينما لا يمكن إنكاره، فكلُّ إنتاجٍ سينمائيٍّ ضخمٍ لا يمكن أن يكتمل بدون وجود أساس معماري يحمل المشاهد على معايشة الواقع الممثَّل أمامه بأكمل إطار، وفي هذا المقال سنتحدَّث عن دور العمارة كمسرحٍ سينمائيٍّ قادرٍ على توصيل المشاهد إلى أقصى درجات المخيِّلة المطلوبة

استعانت السِّينما بالعمارة كثيراً لتوضيح فراغاتها المعماريَّة، فكثيرٌ من الأفلام تعتمد على الفراغ المعماري لنقل رسالة مخفيَّة تؤثِّر على مشاعر المشاهد وكيفيَّة تقبُّله للأحداث، فمن الممكن باستخدام التصميم المعماري لعناصر المشهد نقل شعور الخوف أو الحزن أو القلق وحتى الفرح والسَّعادة والأمل. فالتصميم المعماري يتعدَّى توزيع وتصميم المباني المستخدمة في مكان التصوير، بل يتعدَّى ذلك إلى الجوِّ العام، واستخدام الألوان والإضاءة والمساحة، بل كلّ ما يمكن ملاحظته بعين الإنسان.

بعض الأفلام تحتاج إلى مكانٍ واحدٍ لنقل أحداثها وهذا ما يسمَّى بسينما المكان بحيث تدور أحداث الفلم جميعها في مكانٍ واحد، وغالباً ما يكون للمكان تأثيرٌ كبيرٌ على أحداث الرِّواية.

ومن أشهر هذه الأفلام التي تعتمد على مكانٍ واحدٍ لتصويرِ المشاهد فلم النَّافذة الخلفيَّة (Rear Window 1954 ) للمخرج Hitchcock، فلا بدَّ أنَّ الصُّعوبات التقنيَّة المتعلِّقة بتصوير المشاهِد في غرفة واحدة هي ما أثار إعجاب Hitchcock المعروف باختيار الأفلام الجريئة الطَّابع والمتحدِّية، فأحداث الفلم المتلاحقة مصوَّرة من الرُّؤية المحدودة بنافذة الغرفة، ومن خلال هذا المنظور نستطيع أن نرى ما يمكن لعمارة المكان أن تؤثِّر في الأحداث، فإصابة المصوِّر تجبره على رؤية الأحداث من نفس المكان كلَّ يوم، ممَّا يستدعي فضوله لمراقبة حياة الآخرين من خلال نافذته المطلَّة على الجوار.

ويعد Hitchcock من أشهر المخرجين الذين اعتمدوا على التصميم المعماري من أجل إظهار أفضل للأحداث، والذي يظهر في عددٍ من أفلامه مثل Rope و1948 North by Northwest وإليه تنسب الجملة المشهورة التي كتبها في الموسوعة البريطانيَّة (Encyclopedia Britannica): يجبُ على مخرجِ الفن أن يمتلكَ معرفةً واسعة وفهماً عميقاً للعمارة.

أمَّا المخرج المبدع Woody Allen الذي زفَّ إلينا فلم Manhattan عام 1979وهو من الأفلام التي يعتبر فيها المكان الحجر الأساسي في القصّة فتتحوَّل فيه مدينة Manhattan إلى الخلفيَّة الرئيسيَّة للفلم ليرافق المشاهدين في رحلة ممتعة عبر المدينة بصورها الرُّومنسيَّة المجسِّدة لفوضاها. فعند مشاهدة الفلم ستأسر بسحر المدينة وبعمارتها لتبدأ رحلتك مع الملصق الترويجي للفلم حيث تمَّ المزج بين اسم المدينة وناطحات سحابها، لتستكمل جولتك في مدينة الأضواء واللافتات وزحمة السَّير عبر Fifth Avenue و Park Avenueومتحف Guggenheim للمعماري Wright، فتظهر المدينة على أنَّها الوجهة المحبَّبة للنَّاس، ليختتم المبدع Woody Allen الفلم بالعبارة الشهيرة: يا صديقي إنها فعلا مدينة عظيمة، ولا أكترث لما يقوله الآخرون عنها.

ومن الجدير بالذِّكر أيضاً فلم panic room للمخرج David Fincher 2002 والذي يروي قصَّة أمٍّ وابنتها المحتجزين في غرفة مجهَّزة بأعلى التِّقنيات خلال تعرُّضهم لهجومٍ من عصابةٍ تهدف لسرقة المنزل المكوَّنِ من عدَّة طوابق بأحد الأحياء الرَّاقية في مانهاتن، وتتوالى الأحداث في محاولة من الأم للتَّخلص من هذه العصابة والنجاة بابنتها المصابة بداء السِّكري. يظهر بوضوح من خلال متابعة الفلم روعة تصوير المكان، والسُّهولة التي أتاح بها المخرج للمشاهد بأن يكون مراقب مباشر للأحداث، حيث تمَّ تصوير الفلم باستخدام كاميراتٍ موزَّعة في مواقع مدروسة من المنزل، يتحكَّم في هذه المواقع التصميم الدَّاخلي للمنزل وحرية الحركة في الموقع المصوَّر وبهذه الطريقة يتوضَّح الإنتقال السَّلس للشَّخصيات في موقع التصوير. ولا يغيب عن ذهن المراقب إستخدام الإضاءة والألوان لزيادة التأثُّر الفعلي بمجريات القصة.

بعيداً عن سينما المكان، نجد فلم Playtime 1967 للمخرج Jacques Tativille الذي يقدِّم محاكاةً ساخرة وأنيقة للعمارة الحديثة المستقبليَّة في مدينة باريس، حيث تمَّ في هذا الفلم تسليط الضوء على ملامح العمارة الحديثة ونمط البناء العالمي (International Style). ففي تصوُّر المخرج لمدينة باريس المستقبليَّة، أَعطت العمارة الحديثة تأكيداً إضافيَّاً لمفهوم البساطة والوظيفية، وكشفت عن العناصر الهيكلية دون تغطيتها تحت أيِّ ظرف، مع تفضيلها لاستخدام مواد مثل الفولاذ والنوافذ الشريطيَّة.

وبهذا الفلم يرصد المخرج حركة الأبطال باربارة وهي سائحة أمريكيَّة تزور مدينة باريس الحديثة، والفرنسيMonsieur Hulot الذي يتوه بطرقات باريس، و يصوِّر الفلم بمواقع عدَّة كالمطار ومبنى المكاتب ومعرض المنتجات والشقَّة والحديقة، ومن خلال التنقُّل بين هذه المواقع تُبنى فكرة باريس العصريَّة ذات المساكن الواحدة المتشابهة بنظامها العالمي ومفهوم الانفتاح على الخارج.

من أكثر الأفلام تأثُّراً بعمارة المكان سلسلة أفلام الرجل الوطواط (Batman)، فهو كشخصيَّة رئيسيَّة متأثرٌ بمدينته Gotham، حيث توصف المدينة بأنَّها الوجه البائس لمدينة نيويورك. تعدُّ مدينة Gotham القوطيَّة بما تحويه من هياكل بيتونيَّة ومساحات هائلة من التقنيات الميِّتة الكابوس الرَّجعي للمدن المستقبلية، وهي بذلك تشبه الرجل الوطواط، حيث تعتبر المدينة بكاتدرائياتها الضَّخمة المدينة المثاليَّة للخفافيش. ورغم التصوُّر الحديث للشخصيَّة من قبل المخرجChristopher Nolan ، الذي قام باستبدال العمارة القوطيَّة القديمة بناطحات السَّحاب والأبنية الزجاجية، إلا أنَّها حافظت على الخصوصيَّة المطلوبة لشخصيَّة الرجل الوطواط.

وبالطَّبع من خلال التبنيَّات المختلفة لهذه الشخصية، يمكننا ملاحظة تعدُّد التأثيرات المعماريَّة بناءً على القصَّة المذكورة، كما في الجزء الثالث The Dark Knight Rises بتصويره التصميم الخاص بسجن الموت الذي تسجن فيه الشخصية، فالتعبير عن هذا السجن على أنَّه الجحيم على الأرض مصوَّراً من خلال التصميم الشاقولي للسِّجن الذي يعطيك الأمل بالهروب منه مع استحالة تحقيقه، ويدفع بالشعور بضآلة السجناء أمام التصميم العملاق للسِّجن.

ولكي ندرك فعلاً أهميَّة العمارة في الأفلام، فلنحاول أن نتخيَّل أفلامنا المفضَّلة بدون مميِّزات مواقع التصوير الخاصة بها، أو لنحاول أن نتخيَّل هذه الأفلام في بيئة مختلفة، هل من الممكن أن تمتلك ذات التأثير علينا ؟؟؟

----------------------------------

مقالات أُخرى عن العمارة والسينما:

مقال Batman والعمارة: هنا

مقال Hitchcock رمز عمارة التشويق: هنا

hr />

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا