الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

نظريّة (الخِيار العقلانيّ) في العلوم السياسيّة

استمع على ساوندكلاود 🎧

نظريّةُ (الخِيارِ العقلانيِّ) هي إحدى أهمِّ النظريّاتِ التي امتدّت من مجالِ الاقتصادِ إلى بقيةِ العلومِ الاجتماعيةِ وميدانِ العلاقاتِ الدَّوْلية، لتغدُوَ في بداياتِ القرنِ الحادي والعشرين طريقةً مثاليّةً لدراسةِ السلوكِ السياسيِّ والاقتصاديّ. وقد شكّلت هذه النظريةُ بافتراضاتِها ووَحدةِ تحليلِها وتطبيقاتِها مثارَ جدلٍ واسع، فما هذه النظريةُ، وما فرْضيّاتُها؟ وكيف حُدّدتْ وَحدةُ تحليلِها؟ وما مثالُ تطبيقاتِها في العلومِ السياسية، ولماذا أثارت جدلًا واسعًا؟

إذا كان معظمُ الباحثين في العلومِ الاجتماعيةِ قد أكّدوا على أنّ العقلانيّةَ هي أهمُّ ما يميّزُ أفعالَ البشر، فقد توجّهوا إلى التأكيدِ على أنّ هناك مكوِّناتٍ غيرَ عقلانيةٍ أيضًا في السلوكِ البشريّ؛ فسلوكُ الإنسانِ تحدِّدُه موجِّهاتٌ قيميّةٌ وعاطفيّة (بالنسبةِ إلى علماءِ الاجتماع، ومنهم عالمُ الاجتماعِ الألمانيّ ماكس فِيبر (1926))، وهنا تأتي نظريّةُ الخِيارِ العقلانيِّ لتؤكّدَ أنّ السلوكَ الإنسانيَّ تفسّرُه القراراتُ المبنيةُ على الاختياراتِ العقلانيّةِ الرشيدةِ فقط، مع استبعادِ المكوِّناتِ غيرِ العقلانيّةِ في السلوكِ البشريّ. إذْ تقومُ هذه النظريةُ بمحتواها الفلسفيِّ والاقتصاديِّ والسوسيولوجيّ؛ على افتراضاتٍ مُفادُها أنّ البشرَ عقلانيّون راشدون، ويحسِبون خياراتِ الربحِ والخَسارةِ لأيِّ فعلٍ أو قرارٍ قبلَ إجرائِه أو اتّخاذِه. أي إنهم يُجْرون حساباتٍ عقلانيةً للمفاضلةِ بين الخياراتِ المتاحةِ أمامَهم، ولأنهم عقلانيّون؛ فهم يقارِنون بين البدائلِ؛ لاختيارِ أحدِها، فيُحقِّقُ القرارُ المتَّخَذُ أمرين متلازمين؛ الربحَ والمصلحةَ الذاتية، وعند ذلك يكونُ الفعلُ أخلاقيًّا، أي إنّ المحتوى القيميَّ للفعلِ يُحدَّدُ بكونِه مبنيًّا على حساباتٍ عقلانية، ويَصُبُّ في المصلحةِ الشخصيةِ للفرد.

وبناءً على هذه الفكرة، يمكنُ القولُ إنّ (المرجعيّةَ الفلسفيّةَ) الأولى لهذه النظريةِ تعودُ إلى الفيلسوفِ الإنجليزيِّ توماس هوبز، في كتابِه اللِّفياثان (أو التنين) (1651)، حين يربطُ فلسفتَه في الطبيعةِ البشريّةِ بفلسفتِه السياسيّة، فيما يخصُّ الانتقالَ من حالةِ الطبيعةِ إلى حالةِ المجتمعِ المدنيِّ أو السياسيّ، فيرى أنّ الأفرادَ العقلانيّين ذوي المصالحِ الذاتيّة انضمّوا إلى العِقْدِ الاجتماعيِّ بدافعِ مصالحِهم؛ إذْ إنّ البديلَ المنطقيَّ الوحيدَ في حالِ لم يحصُلْ هذا الانتقال؛ هو الفوضى التي لا تنسجمُ مع مصالحِ الأفراد، فالحياةُ بموجَبِها تتّسمُ بالفقرِ والوحشيّةِ والانعزال. وبفضلِ هذا العِقْدِ وما يترتّبُ عليه من إلزامٍ سياسيّ، يولَدُ الفعلُ الأخلاقيُّ لديهم؛ فالأخلاقيّةُ هي نِتاجُ العقلانيّةِ وَفْقًا لهذه الرؤية.

وفي المجالِ الاقتصاديّ، صارت نظريةُ الخِيارِ العقلانيِّ جزءًا مهمًّا في الفكرِ الغربيّ، منذ أن حَلَّ نظامُ السوقِ محلَّ اقتصادِ القرونِ الوسطى، إذ فُسِّر هذا التحوُّلُ بأنه صعودٌ للإنسانِ الاقتصاديِّ الذي يندفعُ بموجَبِ الحساباتِ الاقتصاديةِ لمصالحِه الخاصّة، أكثرَ ممّا تحرِّكُه في سلوكِه منظومةٌ قيميّة، وهذا الإنسانُ (الفردُ) صار وَحدةَ تحليلِ نظريةِ الخِيارِ العقلانيّ. بل إنّ كلَّ صيغِ نظريّةِ الخِيارِ العقلانيِّ تَفترِضُ أنّ الظواهرَ الاجتماعيةَ المعقّدةَ يمكنُ أنْ تُحلَّل؛ ابتداءً بالفردِ وخِياراتِه وقرارتِه، التي من مجموعِها تتشكّلُ الظواهرُ الاجتماعية.

وفي العلومِ السياسيّة، اتَّخذت المدرسةُ السلوكيةُ الأمريكيةُ في خمسينيّاتِ وستينيّاتِ القرنِ العشرين، في تحليلِها التجريبيِّ للسلوكِ السياسيِّ مِن هذه النظريةِ أسلوبًا لـ(نَمْذجةِ) الظاهرةِ السياسيّة. ويُعدُّ عالِمُ الاقتصادِ الأمريكيُّ أنطوني داونز (Anthony Downs) (1957) أوّلَ مَن طبّقَ نظريّةَ الخِيارِ العقلانيّ؛ لدراسةِ السلوكِ الانتخابيِّ والتنافُسِ الحزبيّ.

ويمكن تحديدُ أشهرِ النماذجِ (paradigms) التي طُبِّقت فيها نظريةُ الخِيارِ العقلانيِّ في العلومِ السياسية:

أولًا: نموذج الألعاب:

وهو نموذجٌ يعتمدُ على حساباتٍ رياضيةٍ بُغْيَةَ توضيحِ التنافُسِ القائمِ بين مجموعةٍ محدودةٍ من اللاعبين، الذين يتوجّبُ عليهم أن يتنافسوا بالشكلِ الذي تُحسَمُ به النتيجةُ لصالحِ كلِّ فردٍ في الفريق. وللوصولِ إلى هذه النتيجة؛ يُفترضُ أن يكونَ كلُّ لاعبٍ عقلانيًّا؛ يسعى لمصلحتِه قبلَ مصلحةِ الفريقِ الذي ينتمي إليه.

ثانيًا: السياسةُ الحزبيّة:

تطبيقُ افتراضاتِ نظريّةِ الخِيارِ العقلانيِّ في إطارِ السياسةِ الحزبيّة؛ يكونُ بتأكيدِ أنّ كلَّ حزبٍ سياسيٍّ يسعى في نشاطاتِه إلى إدراكِ مصالحِه، (وربما) جنبًا إلى جنبٍ مع السعيِ إلى تحقيقِ الديمقراطيةِ في الحكم.

ثالثًا: التشريع:

وَفْقًا لنظريّةِ الخِيارِ العقلانيّ، يسعى أعضاءُ المجالسِ البرلمانيةِ أولًا إلى تحقيقِ مصالحِهم الشخصية، (وربما) تتْبعُها المصالحُ العامّة.

رابعًا: تشكيلُ الائتلافات:

قد لا يُفسَّرُ تشكيلُ الائتلافاتِ وَفْقًا لنظريّةِ الخِيارِ العقلانيِّ بالأسبابِ المعلَنةِ أو المعروفةِ فقط لأغلبِ الأفرادِ المنضمّينِ للائتلاف، بل قد تكونُ أيضًا وسائلَ مستخدَمةً من قبلِ بعضِ الأفرادِ فيه؛ لتحقيقِ مصالحِهم (الراشدةِ والعقلانية).

إنّ تطبيقَ نظريّةِ الخِيارِ العقلانيِّ في السياسةِ يقتربُ من الواقع؛ لأن فكرةَ (المصلحةِ العامة) مفهومٌ غيرُ واضح، وقد يَختلِطُ بالصالحِ الخاصِّ بمُمارسي السياسة، ولكنّ النقدَ المعياريَّ (الأخلاقيَّ) لنظريّةِ الخِيارِ العقلانيِ يقومُ على نقطةِ ارتكازِها في التحليلِ على الفرد، وأنّ الفعلَ يكونُ أخلاقيًّا حينما يكون عقلانيًّا قائمًا على الحساباتِ والمفاضلاتِ بين المكاسبِ والخسائر، والانتقادُ الأخيرُ هو أنّ مكوِّناتِ الفعلِ البشريِّ ليست العقلانيّةَ فقط، بل إنّ الفردَ -كما قال الكثيرُ من الفلاسفةِ والعلماء- هو مزيجٌ من العقلانيّةِ واللاعقلانيّة.

المراجع:

Arabian Journal of Business and Management Review (Nigerian Chapter) Vol. 1، No. 3، 2013

90

Rational Choice Theory: Assumptions and Strengths، Michael I. Ogu

Department of Political Science and Public Administration

Babcock University،

GREATEST WEAKNESSES IN APPLICATION OUTSIDE THE

WESTERN MILIEU CONTEXT.

Ogun State، Nigeria، p: 92