الموسيقا > موسيقا

تاريخ تدوين الموسيقى العثمانية

استمع على ساوندكلاود 🎧

ألْفُ عامٍ مِنْ تَراكُمِ العلوم:

بدأت الحضارات القديمةُ كتابةَ تاريخها ووَثَّقت أهمَ الأحداث والمعتقدات الدينيةِ، وتركت لنا كتاباتٍ بلغاتٍ عديدةٍ فُكت طلاسمها على يد علماء الآثار واللغويين بعد آلاف السنين. وتَرافَقَ تطورُ الحياة الاجتماعية لدى هذه الحضارات بتطورِ فنونِها وطقوسِها واحتفالاتها، وكانت الموسيقى إحدى هذه الفنون إذ كان لها دورٌ هامٌ في جميع نواحي الحياة. ولعلّ أقدمَ تدوينٍ موجود كان لقطعةٍ موسيقيةٍ تَعودُ إلى ترنيمةِ الحوريين.

فقد اكتُشِفَ في أوغاريت الرَّقِيم H-6 الذّي يُمثل أغنيةً مُنَوَّتةً بكلماتٍ حورييةٍ بالخطّ المسماري، وقد حلّ رموزَها الباحثُ راؤول فيتالي ومَكَّننا بذلك من سماعِ قطعةٍ موسيقيةٍ متكاملةٍ تعودُ إلى الألفِ الثاني قَبلَ الميلاد 1400 BC وهي أنشودةُ العبادةِ الأوغاريتية Hurrian hymn المخصصةِ للإلهَةِ "نيكال" إلهةِ القمر.

للمزيد من المعلومات اقرأ في موقعنا هنا

ومَعَ اندثارِ الحضارات القديمة لم يبقَ لنا إلّا أنْ ننتظر اللحظاتِ التي تَكشفُ لنا فيها الصُّدَفُ وخِبراتُ المنقبين عن كنوزٍ أثريةٍ موسيقية تُمَكّنُنا من فَهم موسيقى وتاريخِ هذه الحضارات.

بدأتُ بهذا التدوين الضاربِ في القِدَم لاعتقادي (وهذه فرضيتي ولم أجدْ في البحث ما يؤكدها) أنَّ فكرةَ التدوين الموسيقي في الشرق انتقلتْ وتواترتْ عبْر العصور باستخدام الأحرف، فمِنَ المتوقع أنَ الأحرفَ المسماريةَ التي استخدمتْها الشعوب في تلك المِنْطَقة كانت اللَّبِنَة الأولى لفكرة التَّنويط، ومن بَعدِها تغيرت الطريقةُ بتَغَيُّر اللغات والكتابات، فانتقلت بطريقةٍ ما إلى اللغة العربية التي كانت تَستخدم الأحرفَ في الترميز الرّقمي بما يُسمى عِلمَ حساب الجُمَل أو Abjad numerals، وهي طريقةٌ لتسجيل صُوَرِ الأرقام والتواريخ باستخدام الحروف الأبجدية، وقد استُخدمت في اللُّغات السامية الهندية، العبرية والعربية، وكان العربُ في اليمن يستخدمونها في الخط المُسْنَد ثم استخدموا أرقامَ اللغة الآرامية والفينيقية وبعدها الأحرفَ العربيةَ الحالية. وقد بَرعُوا فيها حتى أنَّ بعضَهُم نَظَمَ الشعر باستخدامها مَعَ الدّلالةِ على تَواريخ الأحداث، وحتى اليوم يوجدُ شِعرٌ مخمسٌ وسداسيّ ومُسَبّع في مِنطقة الخليج وخاصةً الإمارات يَعتمدُ أيضاً على الترميز الرقمي للأحرف.

ومَعَ انتشارِ الإسلام في الأرجاء وازدهارِ العلوم الإسلامية وسُطوعِ نجمِ العلماء المسلمين، وصلتِ اللّغةُ العربية إلى أصقاعِ البلاد ودَرَسها العديدُ مِنَ العلماء المسلمين وبَرعوا في علومها وكتبوا بهذه اللغة مخطوطاتِهم وأبحاثَهم، وأعتقدُ أنَّ الترميزَ الحَرفي للموسيقى انتقل من هذه الفكرة إليهم. وإذا أردنا تَتَبُّعَ التاريخ، سنصادفُ تجربةً مهمةً جداً حدثتْ في الكوفة سنةَ 874 تُعتَبر حديثةَ العهد مقارنةً بسابقتها في مجال التدوين الموسيقي للنغمات، وهي تجربةُ العالِمِ أبي يوسف يعقوب بنِ إسحاقَ الكندي، العلاّمة الذي بَرَعَ في الفَلَك، الفلسفة، الكيمياء، الفيزياء، الطب، الرياضيات، الموسيقى، علم النفس والمنطق الذي كان يُعرَف بعِلْم الكلام، وألَّف في علوم الموسيقى رسالةً في المدخل إلى صناعة الموسيقى ورسالةً في الإيقاع، وكَتبَ في طُرُق تَشَكّل الإيقاعات واختلاطاتها وعلاقةِ الشعر بالموسيقى وطُرُق التأليف الموسيقي. وهو أوّلُ من أدخلَ كلمةَ موسيقى إلى اللغة العربية والتي انتقلت فيما بَعدُ الى الفارسية والتركية. وكتب رسالةً في اللحون والنَّغم وهو أول من أجرى تجاربَ العلاج بالموسيقى من العرب، وقد استخدمَ الأحرفَ العربيةَ للدلالة على الإيقاعات في التدوين، حيث استخدمَ 12 حرفاً للدلالةِ على النوطاتِ في السلم الموسيقي الكروماتيكي اعتماداً على تقسيم أوتارِ العود.

راؤول فيتالي

لا أذكرُ أين قرأتُ تلك العبارةَ القائلة: "لا تُكرّموا الرّجُل…"

وهي نظريةٌ اعتمدَ عليها العديدُ من الموسيقيينَ لاحقاً في التدوين اللحني وقد أَسَّست لإعطاء الأسماء الحاليةِ للنوطات الغربية C،D،E،F،G،A،B.

لننتقلْ إلى أبي نصر محمد الفارابي، الذي وُلِدَ في تركستان وتوفيَ في دمشق 950 م. وهو الفيلسوفُ الطبيبُ صاحبُ كتاب الموسيقى الكبير الذي يُطلِق عليه الأتراك اسمَ المعلمِ الثاني في الفلسفة والمعلمِ الأوّل في النظريات الموسيقية، حيثُ أنَّ معظم المنظرينَ الغرب استعانوا بكتابهِ في نظريات الموسيقى لكونه الأهمَّ بالنسبة لنظريات الموسيقى الشرقية وأكثرَها شمولاً حَسْب ما يقول (Jebrini، 1995). حيث أنَّ الفارابي قد تجاوزَ في عمله المنظورَ اليوناني القديم وانطوى أسلوبُ دراسته على توضيحاتٍ حولَ المبادئ الفيزيائية والفسيولوجية في الموسيقى، بالإضافة إلى أنَّه يحتوي على الكثير من المعرفة في علم الأعضاء والآلات Organology Knowledge ورَفْع أهميته. وقد استخدمَ الفارابيُّ أيضاً الأحرفَ في تدوينه لتَبْيان النغمات والنوطات، ووضعَ جداولَ تُوضّح الأوكتافات بينما رَكّزَ في التدوين على تَوَضُّع الأصابع على الآلة نفسِها بدلاً من اسم النوطة وبدلاً من إظهار الإيقاع واللحن كما يقول Henry George.

وبعد الفارابي، كَتبَ العالمُ الطبيب والفيلسوف ابنُ سينا الذي وُلدَ في بخارى (منطقةِ أوزباكستان حالياً) عدةَ رسائلَ في الموسيقى ومنها "مقالةُ جوامعِ علم الموسيقى" و"مقالةٌ في الموسيقى" ويُرجِعُ له البعض الفضلَ في اختراع آلة الكامنجا. هنا

وقد ربطَ ابنُ سينا الرياضياتِ وعلومَها بالنظريات الموسيقية التي اعتُمدَ عليها لعدةِ قرونٍ في حساب أطوالِ الأوتار وصناعةِ الآلات.

أما صفيُّ الدين الأرمويُّ البغدادي المولودُ في عام(613هـ/1216م) والمتوفى في عام (693هـ/1294م)، والذي يُعَدُّ أشهرَ موسيقيٍّ عربي فقد كان نديماً لآخرِ خلفاء بني العباس وهو المستعصم بالله. يُعَد صفيُّ الدين كما وصفه العالم الأسكتلندي "هنري جورج فارمر" أحدَ الذين أضاؤوا صفحات تاريخ الموسيقى العربية، كما يُعتبر سُلُّمه الموسيقي أكْمَلَ سلّمٍ على الإطلاق بِرأي الإنجليزي "هربرت باري" الذي قال في كتابه "فنُّ الموسيقى": "إنَّ سلم الأرمويِّ يعطينا أصواتاً متوافقةً أنقى وأصفى مما يعطينا إياها سلُّمنا (أي السلم الغربي) ذو الدرجات المتعادلة" كان الأرموي أولَ مَنِ استخدم الحروفَ الهجائية العربية مفردةً ومُركبةً في الموسيقى، إِذ استعملَ الحروفَ الأبجديةَ العشَرة الأوائل (أبجد هوَّز حُطي) في تسمية درجات السلم الموسيقي، كما تَستخدمُ اليومَ البلادُ الأنغلوسكسونية مثلُ إِنكلترا وألمانيا، أبجديتَها (A،B،C بدلاً من العلامات الموسيقية Do، Re، Mi) وتقابلُها C،D،E)) المستخدمةُ في البلاد اللاتينية مثلِ فرنسا وإِيطاليا و إسبانيا. وهو أولُ مَنِ استخدم لفظةَ آواز في الموسيقى، وهي لفظةٌ فارسيةٌ (وآوازة يُقصَدُ بها الصوت أو اللحن أو المقام) وحَدّدَ كذلك أسماءَ الأدوار والآوازان التي كانت تُسمى قبلهُ بأسماءِ الأصابع والدّساتين (وهي الرّبْطاتُ التي تُوضَعُ عليها الأصابع). وهو أولُ من صوّر الأدوارَ على عدة نغماتٍ في مقامه الموسيقي فأجازَ وضْعَها في غيرِ مواضعِها وطبقاتِها الصوتيةِ الأصلية، وهو ما يُعرفُ اليومَ بـ (النقل أو التصوير transition في الموسيقى الغربية) أي نقلِ السلم أو المقام من درجةٍ إِلى درجةٍ أخرى.

وكان أولَ من دوّن العلامات الموسيقيةَ مُحَدِّداً أبياتَ الشِّعر عليها، واضعاً نبراتِ الإِيقاع تحتَ كلِّ نغمةٍ منها. كما حَصَر عددَ أنواعِ العقد أو الجنس الرباعي (البُعد الذي بالأربع tetrachord) والعقد الخماسي (البعد الذي بالخمس pentachord) هو أولُ مَنْ وضع الدوائرَ الموسيقية، وعددُها 84 دائرة، على أنْ تَرْمِزَ كلُّ دائرةٍ إلى مقامٍ موسيقي معين. كما يُعَدُّ كتابُه "الرسالةُ الشَرَفيَّة في علم النَسَب التأليفية والأوزانِ الإيقاعية" بالإضافة إلى كتابِ "الأدوار" الذي يُعتبر من أهمِّ الكتب في الموسيقى العربية ومازالت طريقته في اشتقاق السلالم الموسيقية الـ 17 معتمدةً إلى الآن، وطريقته هذه تَعتَمد على الأوكتاف وقد الذي دوّنَها بطريقةِ الحروف أبجدهوز على مقام نيروز وشعرٍ من بحر الرمل بكلماتٍ عربية، ويَعتبرها الأتراك أولَّ وأقدمَ مثالٍ في تاريخ الموسيقى التركية حَسْب (Özcan).

عبد القادر بنُ عيني المَرَاغي ١٤٣٥ م المُتوفى في شيراز-إيران.

مِنَ السّهل أنْ نقولَ أنَّ عصر الموسيقى الإسلاميةِ في الشرق الأوسط قَبلَ الموسيقى الحديثة لمْ يتمَّ حِفظه أو تدوينُه بسببِ الاعتماد على الانتقال السَّمعي، وكانَ أساسُ تدوينِ كلماتِ الأغاني دونَ أي دلالةٍ على اللحن والمقام أو الأداء إنجازاً كبيراً، فكيف بالحصول على 30 نوطةً من مُؤلَّفات المَراغي التي تُعتَبر مِن أهمِّ المُدَوَّنات الموسيقيةِ للموسيقى التركية. كتبَ المَراغي ستةَ كُتبٍ أهمُّها جامِعُ الألحان باللغة الفارسية وهو في مجلدٍ ضخم له نسخةٌ خطيةٌ في نور عثمانية في إسطنبول رقم 3645 قدَّمه للسلطان (شاه رخ) وكتابُه هذا يُعتبر مُهماً جداً حيث لم يُبْقِ من دقائق الفن وعظائمِه شيئاً إلا ذَكَره وأحاطَ بعِلْمِه، وفيه أوضحَ مصطلحاتِ القول وأضاف إليه فوائدَ كثيرة ليشتمل على مُقدمةٍ واثني عَشَر باباً وأنهاهُ ببيتينِ بالفارسية فحواهما:

كَتبتُ هذا ليبقى زماناً بعدي

أنا لن أبقى وجعلتُه ذكراي

وستوارينَ التراب بغَمٍّ وألم

ولا يعلمُ حالي غيرُ خالقي

وقد وَضَعَ المَراغي طريقةً لتدوينِ الموسيقى عَبْرَ الأحرف مُستخدِماً الفواصلَ الـ 17 للنغماتِ في الأوكتاف مُطَوِّراً الطريقةَ التي تعودُ لصَفي الدين الرومي مُعطياً حرفاً أو اثنين لكل اسمِ نغمة كما هو موضحٌ في الجدول التالي:

وفي نمطِ التدوين الحَرفي أبجدهوز اشتُهر أيضاً الموسيقيّ عثمان ديدي 1729م، الذي اعتمدَ هذه الطريقةَ مُضيفاً لها بعضَ الرُّموز في الموسيقى التركية مثلِ رموزِ الأصوات الحادة أو المنخفضة، وقد خَلّفَ حوالي الـ 70 عملاً في كتابِ أدوار من تأليفه وبعدها تابعَ الموسيقي عبد الباقي ناصر الديدي 1821م بنفس الطريقة مُطوراً نفسَ طريقة التدوين وألّفَ كُتباً اعتمد فيها على التدقيق والتحقيق لهذه الطريقة في التدوين وألفَ أربعَ قِطَعٍ تعتمد على هذه الطريقة.

همبارتسوم ليمونجيان 1839 Համբարձում Լիմոնջեան Hampartsoum Limondjian

وُلِدَ في إسطنبول على مضيق البوسفور في عائلةٍ متواضعة، لم يتمكنْ أبوه سركيس من دفع أجورِ المدرسة الإعدادية فتَركها ليتّجه لمهنةِ الخياطة والتي تابع إلى جانبها تردُّده على الكنيسة الأرمينية لتَعَلُّم الموسيقى، حيث برع في التأليف والعزف على الناي ومن ثم انطوى على تَعَلُّم الموسيقى العثمانية التي أوصلتْه عَبْر أستاذه ديدي أفندي إلى فرقة بَلاط السلطان سليم الثالث الذي كانَ عازفاً ومؤلفاً موسيقياً تُعزَف مؤلفاته حتى الآن.

ابتكر هذا الفنان الموسيقي والمؤلِّف للكنيسة الأرمينية الارثوذوكسية بدعمٍ من السلطان سليم الثالث طريقةً جديدةً في التدوين للموسيقى التركية تعتمدُ أساساً على الطريقة الأرمينية في التدوين խազ khaz، التي كانت مُعتَمَدَةً في الكنائس الأرمينية وسميت هذه الطريقة باسمه "Hamparsum Notası" مَعَ أنها لم تكن كافيةً للتعبير عن الموسيقى التركية حيث كانت تَستخدمُ 7 رموزٍ لـ 7 نغماتٍ أساسية، فأضاف إليها خطاً قصيراً تحتَ اللحن الأساسي ووضعَ إشاراتٍ للمقامات مما أعطاها فاعليةً كبيرة فاستخدمت على نطاقٍ واسعٍ في توثيق تاريخ الموسيقى الكلاسيكية التركية التي ظلت مُعتمَدةً إلى أن استُبدلت بالطريقةِ الحديثة الأوروبية الحالية، وعلى مدى قرنينِ من الزمن مَنعَ ضَياعَ آلاف القطع الموسيقية وقدَّم خدمةً للعالم لا تُقَدَّر بثمن.

اعتمدَ في طريقته على استخدامِ رموزٍ للنوتات الأساسية، ووضعَ خطاً بعدها إما فوقَ الرمزِ الدَّالِّ على العلامة أو تحتَه وذلك لتمييز الأوكتاف العُلوي أو السفلي وبذلك ضاعفَ عددَ النّوتات المستخدَمةِ دون وضع رموزٍ جديدة.

ثم أضافَ على هذه الرموزِ إشاراتٍ خاصةً ليُحدِّد من خلالها الأزمنةَ للنغمات إضافةً إلى الوقفات والسّكَتات.

وباستخدامِ نظام التدوين هذا وثَّق ليمونجيان معظمَ المؤلفاتِ الموسيقيةِ التركيةِ في القرن الـ 18 وجمَعها في ستةِ كتبٍ قدَّمها إلى سليم الثالث. كُتِب لاثنين منها فقط البقاءُ على قيدِ الحياة حتى الآن، ويتمُّ الاحتفاظُ به في مكتبةِ المعهد الموسيقي الكونسرفتوار في إسطنبول.

وبهذا شكَّل ثنائيُّ الكنيسةِ والسلطانِ الأرمني والعثماني الفني الجديرُ بالوقوف عندَه منعطفاً هاماً في تاريخِ الفن والموسيقى في تركيا لا يزالُ يُقَدَّم إلى يومنا هذا ويَعكِس حضاراتِ وفنونَ شعوبٍ قد خَلَت.

اترككم مع مقطعٍ موسيقي من تأليف السلطان سليم الثالث

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا