الفيزياء والفلك > علم الفلك

نسيجُ الزمكان... من النظريّة إلى الواقع

استمع على ساوندكلاود 🎧

لقد كان آينشتاين على حقٍّ مجدداً، فهنالك حقًا دوّامةٌ في النّسيجِ الزّمكانيِّ المُحيطِ بالأرض، وشكلُها يتطابق بدقّةٍ مع الشّكلِ الّذي تنبّأت به نظريّتهُ في الجاذبيّة.

فقد أكّد الباحثونَ في مؤتمرٍ صحفيٍّ عقدتهُ ناسا عام 2011 ، أن نتائجُ بيانات مسبار الجاذبيةِ الفضائيّ "Gravity Probe B" والّذي يُسمّى اختصاراً GP-B، قد أظهرت أن نسيج الزّمكان المُحيطِ بالأرضِ قد تعرّض للتّشوّه تماماً كما تنبّأت النّظريّة النسبيّة العامة.

وفقاً لنظريّة النسبيّة لآينشتاين، فإنّ المكانَ والزّمانَ محبوكانِ مع بَعضهما في نسيجٍ زمكانيٍّ رباعيٍّ الأبعاد، تُحدثُ كتلة الأرضُ في هذا النسيجِ انحناءً مشابهاً للانحناء الّذي يُحدثهُ شخصٌ ثقيلٌ يقفُ على النّطاطة (التريمبولاين)، أمّا الجاذبيّةُ -وفقًا لآينشتاين - فهي حركةُ الأجسامِ على خطوطِ هذا الإنحناء.

لو كانتِ الأرضُ مستقرّةً لانتهتِ القصّةُ هنا، لكنّها تدور حول نفسها، ونتيجةً لذلك تقومُ بتَدوير هذا الانحناءِ في نسيجِ الزّمكان محدثةً فيه ما يُشبه زوبعةً رباعيّة الأبعاد، وهذا ما أراد العُلماء التّحقّق منه اعتمادًا على المكّوك GP-B.

تعتمدُ الفكرةُ الأساسيّة لهذه التّجربة على أداة المِدوار أو الجايروسكوب. الجايروسكوب هو أداةٌ تقيسُ انحراف جسمٍ ما عن موضعٍ مرجعي. ويستخدم الجايروسكوب للتأكد من عدم انحراف المركبات الفضائية والصواريخ والسفن والغواصات وغيرها عن مساراتها.

نضع جيروسكوباً دوّاراً في مدارٍ حولَ الأرضِ على أن يكونَ محورُ دورانِه موجهاً نحو نجمٍ بعيدٍ يُعتبرُ نقطةً مرجعيّةً ثابتة. عندما يكون الجيروسكوب متحرّراً من كلِّ القِوى الخارجيّةِ، فإنّه سيُشيرُ إلى هذا النّجمِ للأبد. ولكن إن كانَ الفضاءُ ملتوٍ، فإنّ محورَ دورانِ الجيروسكوب سيتغيّرُ مع الوقت، ومن خلال مراقبة هذا الانحراف في محورِ الدّورانِ يمكنُ للعلماء حسابُ الانحناءات في نسيجِ الزّمكان.

شاهد هذا الفيديو الّذي يوضحُ طريقة عمل الجايروسكوب.

بالرّغم من أنّ الفكرةَ العامّة بسيطةٌ إلا أنّ التطبيقَ صعبٌ جداً، فقد استخدمَ المكّوكُ GP-B أربعةَ جيروسكوباتٍ كرويّة مصنوعةٌ من الكوارتز والسيليكون. يبلغُ حجمُ كلٍ منها حجمِ كرةِ البينغ بونغ تقريبًا، و يبلغُ قطر كل منها نحو 3.81 سنتيمتر. صُنعت هذه الكُرات بدقّةٍ كبيرةٍ غير مسبوقة، لتكون مثاليّةً بحيث لا يتعدّى مجالُ الخطأ في صُنعها 40 ذرّة. فلو كانت كرةُ الجيروسكوب غيرَ مثاليّةٍ لكان محورُ الدّورانِ سيتغيّرُ بغضّ النّظرِ عن تأثيرِ النّظريّة النسبيّة، لهذا السبب فقد حاول العُلماء أقصى جهدهم لتكون هذه الكُرات مثالية الكروية.

يتوجّبُ على انحناءات نسيج الزّمكانِ - وفقاً للحساباتِ - أن تحرفَ محورَ دورانِ الجيروسكوباتِ بزاويّةٍ قدرُها 0.041 ثانيّةً قوسيّةً خلالَ عامٍ كاملٍ (الثّانيةَ القوسيّة تساوي واحد على 3600 من الدّرجة القوسيّة) ولكي نتمكّنَ من قياسِ تلك المقاديرِ الصّغيرةِ بدقّةٍ يجبُ أن تكونَ حركةَ المكّوكِ دقيقةً بدرجةِ 0.0005 ثانيّة قوسيّة. إنها حساباتٌ معقدةُ و دقيقةٌ جدًا. الأمرُ يُشبِهُ قياس سماكة ورقة محمولة من طرفها على بعد مئة ميل.

كان على العلماءِ أن يطوّروا تقنيّاتٍ خاصّةٍ لجعلِ هذه المهمّةِ قابلةً للتحقيق، فقد طوّروا قمراً صناعيّاً ذاتيّ الحركةِ يُمكنُ أن يتحرّك بسلاسةٍ خارجَ الغلافِ الجويّ للأرضِ دونَ التّأثيرِ على حركةِ الجيروسكوبات. كما أوجدوا طريقةً لمنع تأثير الحقلِ المغناطيسيّ الأرضيّ على المكّوكِ الفضائيّ، واخترعوا جهازاً مخصصّاً لقياسِ دورانِ الجيروسكوبات دون لمسها.

لقد كان نجاحُ هذه التّجربةِ تحدّياً كبيراً. وبعد أنِ استغرقتِ التجربةُ سنةً كاملةً، تبعتها خمسُ سنواتٍ من تحليلِ البياناتِ، يبدو أن العلماءَ قد أنجزوا المهمّة.

تُجدّدُ النّتائجُ الّتي حصل العُلماء عليها من المكوك GP-B ثِقتنا بصحّةِ تلك التنبّؤاتِ الغريبةِ التي قدّمها آينشتاين. إذ يمكنُ تطبيقُ هذه التنبّؤاتِ في أماكنَ أخرى من الكون. فتلكَ الدّوامةُ في النّسيجِ الزّمكانيّ الموجودةِ حولَ الأرضِ ستكونُ موجودةً أيضاً بحجومٍ أكبرَ حولَ النّجومِ النيوترونيّةِ الضّخمةِ والثّقوبِ السّوداءِ ومراكز المجرّاتِ النّشيطة. ولو كرّرنا هذه التّجربةَ لدراسةِ تشوّهِ الزّمكان قربَ ثقبٍ أسودَ، فإنّ الجيروسكوب لن ينحرفَ بهذهِ المقاديرِ الصّغيرة جداً، بل سيتحرّكُ بطريقةٍ جنونيّةٍ حولَ محورهِ وربّما ينقلبُ على نفسه أيضاً.

في أنظمةِ الثقوبِ السودَاء الثنائيّة ( أي عندما يدورُ ثقبٌ أسودَ حولَ ثقبٍ أسودَ آخر) فإنّ الثّقبينِ الأسودينِ يدورانِ أيضاً بحركةٍ مشابهةٍ لحركةِ الجيروسكوب في التّجربة. تصوّر ماذا يمكنُ أن يحصلَ عندما يكون لدينا نظامٌ من ثقبينِ أسودينِ يحومانِ حول بعضِهما و يدورانِ حول محورِهِما ويتقلّبانِ و يترنّحان! هذا النّوعُ من التّصوّراتِ تتكلّمُ عنه النّظريّة النّسبيّة وتعِدُنا تجربةِ الجيروسكوب بأنه قد يكونُ أمرًا حقيقيًا.

بدأ تمويلُ ناسا لهذا المشروعِ في خريفِ عام 1963، وهذا يعني أن العلماء قد عملوا على تخطيطِ وترويجِ وبناءِ وتحليلِ البياناتِ لأكثرِ من 47 سنة، إنّه لجهدٌ خارقٌ حقاً.

ماذا بعد؟

يذكرُ العالم فرانسيس إفيريت Francis Everitt المشرفُ على التّحقيق بنتائج مهمّةِ غرافيتي أنّه تلقّى نصيحةً من مُشرفه على أطروحتهِ والحائزُ على جائزةِ نوبل باتريك م.س. بلاكيت "Patrick M.S. Plackett": "إذا لم تستطعِ التّفكّرَ بما تستطيعُ الفيزياءُ أن تفعلَ أكثر، فابتكر تقنيّاتٍ جديدةٍ، وهي ستقودك نحو فيزياءٍ جديدة"

يقول إفيريت: " لقد اخترعنا 13 تقنية جديدةٍ من أجل مهمّة GP-B، من يعلمُ أين ستقودنا هذه الاختراعات أيضاً؟ لابدّ أنّ هذه الملحمةَ لا تزالُ في بدايتها... "

* زاوية المُدَاوَرَة تنتجُ عن ترنّح الجيروسكوب بتأثيرِ التّشوّهِ في النّسيجِ الزمكانيّ المحيطِ بالأرضِ والنّاتج عن كتلتها في حال كانت ثابتةً لا تدور. أمّا زاوية سحب الإطار فهي ناتجة عن ترنّح الجيروسكوب نتيجةَ التّشوّه في النّسيج الزّمكانيّ نتيجة دورانِ الأرضِ حول محورها.

المصدر: هنا