الطب > مقالات طبية

هنري مولياسن... الحياة التي لا تُنسى للمريض الذي لا يذكر شيئاً

استمع على ساوندكلاود 🎧

ذكرياتُنا هُويتُنا ولكن ماذا لو فقدناها؟ ماذا لو عَلِقْنا في حياة لا زمنَ فيها إلا الحاضر، فلا ذكرى للتجارِب التي نعيشها، أو للملاحظات التي ندونها، تجرِبةٌ قد تُعدُ من أقسى التجارِبِ التي يُمكن للمرء أن يختبرَها، لكنَّ من سنتحدث عنه اليوم جعل من تلك المأساة سلاحاً لبناء وتطوير أسس العلوم العصبية.

هنري جوستاف مولياسن Henry Gustav Molaison أو من كان يُعرف لعشرات السنين بالمريض H.M المولود في عام 1926 هو أشهرُ وأكثرُ المرضى دراسةً في تاريخ الطب الحديث. بدأت قصة هنري في العاشرة من العمر بنوبات الصَّرَع الشديدة التي أثرت بشكلٍ كبيرٍ على صحته وأدائه المدرسي وحياته الاجتماعية. ومع تقدم هنري بالعمر استمرت نوباتُ الصرع بإلحاق الضرر بحياته المهنية والاجتماعية على الرَّغم من علاجه بتراكيزَ عاليةٍ من الأدوية المضادة للاختلاجات، ولذلك قام جَرَّاح الأعصاب ويليام بييتشر سكوفيل William Beecher Scoville في محاولةٍ منه للتخفيف من النوبات الصَّرَعيَّة التي أضنت هنري الذي كان في عامه السابع والعشرين آنذاك بجراحة دماغية تجريبية عليه، وقد تضمَّنت هذه الجراحة إزالةَ الأجزاء الأُنْسِيَّة من الفَّص الصَّدغي بما في ذلك الحُصين (hippocampus) في محاولةٍ منه للتخفيف من النوبات الصَّرَعيَّة حسب رأيه.

وبالفعل ساهمت هذه العملية الجراحية بشكل كبير بإنقاص تواتر (عدد مرات) النوبات الصَّرَعيَّة، ولكنها تركت أثراً جانبياً غير متوقع كان لعنةً على هنري ونعمةً للطب والبحث العلمي؛ فقد استيقظ هنري ليكتشفَ عدم قدرته على الاحتفاظ بأي ذكريات جديدة! ونظراً لكون ذاكرته سليمة تماماً قبل الخضوع لتلك الجراحة، فقد عُزي اضطرابُ الذاكرةِ هذا الذي أصابه إلى استئصال القسم الأنسي من الفَصّ الصَّدغي وتحديداً الجزءَ المعروف بالحُصين. حتى ذاك الوقت لم تكن الطبيعةُ العصبيةُ للذاكرة وموضعُ تشكُّل الذكريات في الدماغ معروفاً، لذلك استنتج الباحثون أنَّ استئصالَ الحُصين من كلا نصفي الكرة الدماغية يمنع تشكيلَ ذكرياتٍ جديدة، ونُشر هذا الاكتشاف لمنع القيام بمثل تلك الجراحة في المستقبل.

وبعد موافقة هنري على المشاركة بالأبحاث العلمية التي اهتمت بحالته الفريدة، بدأت حِقبةٌ جديدةٌ من البحوث العلمية التي تنظر في الذاكرة، وقد استمر هنري بالمشاركة بالتجارِب والأبحاث لمدة 55 عام قضاها بشكلٍ رئيسي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (Massachusetts Institute of Technology (MI مساهماً في التجارِبِ التي أُجريَت تحت إشراف البروفسور سوزان كوركنSuzanne Corkin وفريقها الخاص من الباحثين المختصين بالعلوم النفسية العصبية Neuropsychologists، وخلال تلك الفترة بقيت هُوية هنري سريةً بهدف حمايته؛ نظراً لما قد يتعرَّض له شخص لا يُمكن أن يحتفظَ بأي ذكرى جديدة، وبقي معروفاً في الأوساط العلمية والأوراق البحثية المنشورة تحت اسم المريض H.M، إلا أنَّه قبل وفاته بفترة قصيرة سمُح بالنشر العلني لتسجيلاتٍ صوتيةٍ سُجلت في أوائل التسعينات، شكَّلت أولَ فرصةٍ للعامة لسماع صوت هنري والتعرُّف عليه عن قرب بالإضافة إلى الحصول على فكرة مقربة حول طريقة حياته وشخصيته التي اتسمت بالتفاؤل والمرح على الرَّغم من ذاكرته المُتجمدة في الزمان.

لم يكن فقدانُ الذاكرة الذي أصاب هنري بسيطاً، بل على العكس! إذ لم تقتصر المشكلة على فشل دماغه بتشكيل ذكرياتٍ جديدة أو ما يُعرف بفقد الذاكرة التقدميanterograde amnesia (اللاحق للإصابة)، بل تضمَّن أيضاً درجةً من فقد الذاكرة الرجوعي retrograde amnesia(التالي للإصابة) للإحدى عشرة سنةً التي سبقت العمل الجراحي، ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا النوعَ من فقدان الذاكرة لم يكن ناتجاً عن الاستئصال الثنائي الجانب للحُصين، بل كان على الأرجح نتيجةً لعلاج بجرعات عالية من مضادات الاختلاج بالإضافة إلى النوبات الصَّرَعيَّة التي كثيراً ما عانى منها. أما فقدان الذاكرة التقدمي فقد كان نتيجةً مباشرة لهذه الجراحة التي أثرت بشكلٍ رئيسي في قدرةِ الدماغ في نقل الذكريات قصيرة الأمد إلى الشكل طويل الأمد فلم يعد باستطاعة هنري تعلُّمَ كلماتٍ أو أغانٍ أو وجوهٍ جديدة، كما فقد القدرة على معرفة عمره أو فيما إذا كان والداه على قيد الحياة أم لا.

لكن ومقابل هذا العجز فقد احتفظ هنري بقدرته على تعلُّم مهاراتٍ حركية جديدة كَحَلِّ أحجية المتاهة بسرعة كبيرة بعد عدة محاولات، أو تعلُّمِ استخدام العُكَّازَات بعد طيه لكاحله، إلَّا أنَّ تعلُّمَ هذه الحركات كان يحدث دون وعيٍ؛ إذ لم يكن يُدرك أنَّه قام بتعلم هذه الحركات من قبل، فبالنسبة له كانت كلُّ مرة يحاول فيها هي المرة الأولى التي يحلُّ فيها أحجيةً أو يُمسك بالعُكَّازَات، ما ساعدَ على اكتشاف داراتِ ذاكرة منفصلة عن تلك الموجودة في الحُصين تتعلَّق بالتعلُّم العملي ولا تحتاج لتدخُّل الذاكرة الواعية فيها.

وفيما عدا ذلك بقيت كلٌّ من شخصية هنري وقدراتِه اللُّغوية والذهنية وانتباهه وذاكرته قصيرة الأمد سليمةً، كما أنَّ اختباراتِ الذكاء التي خضعَ لها هنري بعد 10 أشهر من العمل الجراحي أظهرت امتلاكَه ذكاءً يتجاوزُ المتوسط ويبلغ IQ=110. ولكن لأنَّنا نقيسُ الوقتَ بالذكريات كان هنري عالقاً للأبد في عمر السادسةَ عشر، أي قبل خضوعه للعمل الجراحي بإحدى عشرة سنةً.

ونظراً لبدائية طرق تصوير الدماغ في تلك الفترة التي خضع فيها هنري للعمل الجراحي؛ كان من غير الممكن معرفةُ طبيعةِ وحجم الآفة الدِّماغية الناتجة عن الإجراء الاستئصالي. وقد نُشِرَت صورٌ مأخوذةٌ بواسطة جهاز الطبقي المحوري CT على دماغ هنري عام 1984، غيرّ أنَّ المعلوماتِ التي قدَّمتها تلك الصور في توصيف الآفة كانت قليلةً وتفتقر للكثير من الدقة، ولكن بعد دخول الرنين المغناطيسي مجالَ الاستخدام تمَّ تحديدُ مكان الآفة بشكل دقيق في مُعقَّد اللوزة amygdaloid complex والقشرة الشمية الداخلية entorhinal cortex بالإضافة إلى جزء كبير من تشكيل الحُصين، لكنَّ الرنينَ المغناطيسيَّ عَجِزَ عن تحديد الحدود التشريحية للآفات الدماغية المُتوضعة في الفَّص الصَّدغي الأنسي.

وفاته وعطاؤه المستمر:

بعد وفاة هنري عام 2008 عن عمر يناهز 82 عاماً ، كُشِفَ السّتارُ عن اسمه للعامة مع نشر قصته من قبل البروفسور سوزان كوركن في كتابها "الزمن الحاضر الدائم: الحياة التي لا تنسى للمريض الذي لا يذكرشيئاً"/ “Permanent Present Tense: the Unforgettable Life of the Amnesic Patient” الذي خلَّدت فيه المساهماتِ الكبرى التي قدمها هنري لفروع العلوم العصبية.

ولكن لم تتوقف مساهمة هنري في تقدم العلوم العصبية مع وفاته، فقد تمَّ التبرعُ بدماغ هنري لمرقاب الدماغThe Brain Observatory في جامعة كاليفورنيا في سان دييغوUniversity of California at San Diego ليتمَّ تشريحُه وتصويرُه صوراً تشريحيةً عصبيةً عالية الوضوح high resolution neuroanatomical images تُمكِّن الباحثين من إجراءٍ ترسيميّ تشريحي مجهري مفصلٍ وأخذ قياسات ثلاثية الأبعاد D3 على النموذج الرقمي المُعاد تشكيلُه من هذه الصور. وقد أجرى فريق من الباحثين بقيادة الدكتور ياكوبو انيزي Jacopo Annese عملية التشريح النسيجي وإعادة البنى ثلاثية الأبعاد خلال مدة 53 ساعةً متتاليةً من العمل المستمر دون نوم التقطَ فيها 2401 صورةً رقميةً لدماغ هنري، وقد بُثَّت عبر الانترنت في الذكرى السنوية الأولى لوفاة هنري.

ومن خلال هذه العملية تمكن الباحثون من توضيح التشريح الدماغي لهنري بشكل دقيق، إذ تبين وجودُ استئصالٍ تام للحصين الأمامي ومعظم القشرة الشمية الداخلية، مع ملاحظة بقاء كمية ملحوظة من نسيج حصيني يُفترض أنَّه لا وظيفيٌّ، كما لوحظ الاستئصالُ التام للوزة، ما يُفسِّر الحالةَ المُخفَّضة من التعبير عن العواطف، ونقصَ الدافعِ والمبادرة، وعدمَ القدرة على التعرف على الحالات الداخلية كالألم والجوع والعطش بشكلٍ جيد، وتبيَّن وجودُ آفةٍ صغيرةٍ في الفَّص الجبهي الأيسر، ذاتِ منشأ مجهول السبب لم يتمَّ التعرُّف عليها مسبقاً، كما لا يُعرف فيما إذا كان لهذه الآفةِ أيُّ تأثيرٍ على حالة هنري وتصرفاته. وسُجّلَ كذلك ضمورٌ في المُخيخ كان قد تم التعرف عليه من خلال التصوير الطبي المجرى سابقاً وهو ناتجٌ عن التعاطي المزمن لدواء Dilantin (المعروف أيضا وبشكل شائع بالفنيتوئينPhenytoin لمعالجة النوبات الصَّرَعيَّة قبل وبعد الجراحة. وأخيراً كانت هنالك أذيةٌ منتشرةٌ في المادة البيضاء العميقة تحت الأجزاء المُستأصلة من الفُصوص الصَّدغية الأُنسية وهي كما يبدو تُعبِّر عن ظاهرةٍ حديثة مرتبطة بالعمر يُمكن أن تُعزى لحالاتٍ طبية مختلفة كارتفاع التوتر الشرياني.

عاش هنري مولياسون وحيداً في الحاضر لمدة 55 عاماً قام خلالها بتعليمنا حول الذاكرة والدماغ أكثرَ مما كان يُمكن تصوُّرُه. وكما ذكر الباحثون دوماً، فقد كانَ دائمَ الغِبطة، سعيداً بمشاركته في الأبحاث والاختبارات التي كانت تجرى عليه قائلا: "ما يكتشفونه عني يُمكنُّهم من مساعدة الآخرين". وهكذا... سيُخلِّدُ تاريخُ العلوم العصبية حياةَ هنري التي حول فيها معاناتِه الشخصية ومعاناة عائلته إلى كنز حقيقي للعلم.

المصادر:

هنا

هنا