الطب > مقالات طبية

تطور الحفظ بالبرودة الفائقة (الحفظ القري) و تطبيقاته الطبية Cryopreservation: development and medical applications

استمع على ساوندكلاود 🎧

يستفيد العديد من الأشخاص حول العالم من التطبيقات الطبّية لحفظ الخلايا والأنسجة بالبرودة الفائقة، من زرع الخلايا الجذعية الدموية إلى حفظ الخلايا الجنسيّة لغايات الإخصاب الصناعي.

تبقى جميع هذه التطبيقات مرهونة بمدى فعالية هذا الحفظ وآثاره الجانبية وعُيُوشِيَّة الخلايا بعد التذويب.

سنناقش في هذا المقال تطور هذه التقنية وأنواعها ومشاكلها، و أحد الأبحاث العلمية المنشورة مؤخراً، والهادفة لتحسين نتائجها.

لقي حفظ الخلايا والأنسجة البشرية بالبرودة الفائقة (تجميد المواد البيولوجية لأغراض الحفظ) اهتماماً كبيراً في الأوساط العلمية منذ اكتشاف Polge وزملاؤه فعالية الغليسيرين الواقية من البرودة عام 1949، حيث يمكننا حالياً الوصول إلى الظروف المثلى للحفظ بالبرودة الفائقة عندما يتعلق الأمر بمجموعة متجانسة من الخلايا أو بنسيج مكون من طبقة واحدة، مع الحفاظ على نسبة جيدة من الخلايا.(1)

تُستخدم طريقة الحفظ بالبرودة الفائقة على نطاق واسع في التطبيقات الطبية وغير الطبية، مثل حفظ السائل المنوي والبويضات و زرعات الخلايا الجذعية الدموية وبعض منتجات الدم وحتى بذور النباتات. ولكن هذه العملية تصبح أكثر صعوبةً عندما يتعلّق الأمر بالأعضاء والأنسجة الأكثر تعقيداً و الأقل تجانساً في محتواها الخلوي .(2)

ما هو مبدأ الحفظ بالبرودة الفائقة (الحفظ القري)؟

الحفظ بالبرودة الفائقة هو صَوْن الأنسجة في حالة عَيُوشِيّة كامنة في درجات حرارة قرية (باردة للغاية)، وللتبسيط فإنه بإمكاننا القول بأنه عند درجة حرارة -196 درجة مئوية (وهي درجة حرارة النيتروجين السائل) تتوقف كلّ التفاعلات الكيميائية والعمليات البيولوجية والأنشطة الفيزيائيّة داخل وخارج الخليّة، إذاً، فإنّ هدف التبريد الفائق هنا هو إيقاف، أو على الأقل إبطاء وظائف الخلايا مع الحفاظ على هياكلها الفيزيائية.

بعد هذا التعريف المبسّط، وللوهلة الأولى قد يبدو الحلم بإنشاء بنك أعضاء حقيقي لتوفير ضرورات عمليات الطب التصنيعي في متناول اليد، ولكن في الحقيقة هنالك العديد من العقبات والمعوّقات التي تعترض هذه العملية من الناحية الحيوية، ولا بدّ من تذليلها لتحقيق هذا الحلم.

1- التبلور:

في ظل الحالة إِسْوِيَّة التوتر، وعند درجات حرارة أقل من الـ 0 المئوي، يصبح الماء في الأنسجة البيولوجية غير مستقرٍ ترموديناميكياً ويميل إلى البلورة أثناء الحفظ بالتبريد.

يعدّ مدى وكيفية الانتقال من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة، في الوسط داخل و خارج الخلوي، الشغل الشاغل لكثير من الباحثين، ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار نسبة السائل في الأنسجة البيولوجية، التي قد تصل إلى 70%.

يلعب التبلور، وخاصة خارج الخلية، دوراً حاسماً أثناء الحفظ بالتبريد. وفي الواقع، يحفِز تشكّل الجليد في

الفراغ بين الخلايا تعديل البيئة الكيميائية، وتوليد الإجهاد الميكانيكي على جدران الخلايا من خلال تشويهها، مما يؤدي بالنتيجة لبدء عملية التبلوُر داخل الخلايا، مما يؤدي بالتالي إلى الإضرار بالخلية، وبالتالي إلى الإضرار بنتائج الحفظ.

2- التجفاف الخلوي:

النتيجة الأولى لتكوين بلّورات الجليد في الفضاء خارج الخلية هو تغير التركيب الكيميائي، مع زيادة في تركيز الشوارد في السوائل خارج الخلية، مما يسبّب دخول المواد المذابة للخلية و يدفع الماء إلى الخروج منها، و بالتالي إلى ‘تجفاف خلوي’.

هناك نوعان من الآفات الخلوية التي يسببها التجفاف:

• زيادة في تركيز الأملاح في الوسط خارج الخلية، الأمر الذي يعدّل طبيعة البروتينات والبروتينات الدهنية التي تشكل الجزء الأكبر من أغشية الخلايا.

• تبلور الأملاح الواقية (buffering) مما يؤدي إلى اختلافات هامة في درجة الباهاء (PH) مع ما يترتب عن ذلك من تشوّه بعض البروتينات بشكل دائمٍ غيرعكوس.

وما أثر سرعة التبريد على الخلية؟

عندما يتم تبريد الخلايا ببطء، يتدفق الماء إلى الوسط خارج الخلية، مما يجنّب داخل الخلايا التعرض للبرودة الفائقة، و قد يمنع تجمّع البلورات داخل الخلايا، حيث يسيطر التجفاف الخلوي على عملية التبريد.

بينما في المقابل، وباستعمال التبريد السريع، ينتشر الماء بسرعة منخفضة نسبياً ويسود التبلور داخل الخلوي.

يمكن للباحثين التنبّؤ بما قد يحصل من بلورةٍ وتجمعٍ والتصاقٍ نتيجة استخدام طريقةٍ تبريد ما بفضل النماذج الرياضية التي تأخذ بعين الاعتبار مدروج انتشار الماء وخصائص الخلايا.

كيف يمكن أن يؤثر الحفظ بالبرودة الفائقة على حيوية الخلية رغم أن كل العمليات الحيوية تكون متوقفة؟

على الرغم من توقف التفاعلات الأيضية في درجة حرارة (-196 درجة مئوية)، يمكن لمراحل التجميد والذوبان أن تؤثر بشِدّات مختلفة على بيولوجيا الخلية، كما يعد تحريض البرودة لتشكل فقاعات الغاز داخل الخلية من الآثار غير الميكانيكية الإضافية والمؤثرة.

3- الصدمة الحرارية وآثارها:

يستطيع الغيير السريع في درجة الحرارة خلال التبريد لوحده أن يسبّب العديد من الآفات الخلوية، حتى في حالة عدم وجود تشكيل بلورات الجليد؛ تحدث هذه الصدمة بشكل رئيسي بين درجتي +37 و+15 مئوية، وأيضا بين الـ0 و-80 درجة مئوية.

تحدُث آفات غشاء الخلية عند تقلّص مختلف مكونات هذا الغشاء، وترتبط مع التغيرات الشاردية في الوسط خارج الخلية، وخاصة مع تغيرات الخلات، الكلوريد والنترات واليود والكبريتات.

يمكننا التخفيف من آثار الصدمة الحرارية من خلال إضافة مادة واقية من البرودة الفائقة و أنواع محددة من الفوسفولبيدات (مثل فوسفاتيديل السيرين phosphatydl sirine)، جنباً إلى جنب مع تبريد بطيئ نسبياً.

ما هي أهم أنواع المواد الواقية من البرودة القرية، وهل لها أضرار معيّنة؟

يمكن تصنيف هذه المواد إلى نوعين:

• إنتشاري أو نشط داخل الخلية : يتميز هذا النوع بأوزان جزيئية أقل من 400 ويستطيع بالتالي عبور غشاء الخلية.

الأكثر شيوعا من هذا النوع هو ال dimethyl sulfoxide (DMSO) ، بالإضافة إلى الغليسرول و 1،2 بروباانديول 1،2-propanediol.

• غير إنتشاري أو خارج الخلية ، مثل البولي فينيل بيرولدون polyvinylpyroldone ونشاء الهيدروكسي إثيل وبعض السكريات. حيث أن هذه المواد لا تستطيع عبور غشاء الخلية بسبب ارتفاع أوزانها الجزيئية.

آليّات عمل هذه الواقيات هي موضوع العديد من الأبحاث، حيث يفترض البعض أنها تشكل روابط هيدروجينية مع الماء ممّا يسمح له بالاحتفاظ بوضعه السائل في درجات حرارة أقل من درجة حرارة تجمده، ويشكّل هذا السائل (واقٍ+ماء) مذيباً للشوارد، ويمكن أن يمنع التبلور من خلال تعطيله لنوى تكثيف البلورات ، كما تعمل بعض المواد الواقية مثل الـDMSO على حماية البروتينات من التمسّخ من خلال آليات الكهرباء الساكنة.

بنتيجة الانخفاض الشديد في درجة الحرارة، ورغم وجود المادة الواقية، يتحول الماء في النهاية للحالة الصلبة (جليد GLASS)، ولكن دون أن يمر بمرحلة التجمد التقليدية (FREEZING)، وتدعى هذه العملية بالتزْجِيج أو التجليد.(3)

يبقى لنا أن نذكر بأن استخدام المواد الواقية لا يخلو من المخاطرة، فلهذه المواد درجات سُميّة مختلفة، ويمكن بالتالي أن تتلف الخلايا التي من المفترض أن تحميها من البرد القارس بنسب مختلفة.(1)

كيف يسعى الباحثون لتوسيع فعالية الحفظ القري ليشمل أنسجة معقدة أو أعضاءً بمجملها؟

من خلال تحسين فعالية هذا الحفظ، وتقليل أضراره الجانبية على النسج، باكتشاف مواد جديدة أو باستخدام طرق وشروط تبريدٍ جديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قام فريقٌ بحثي من كلية الهندسة في جامعة ولاية أوريغون مؤخراً باكتشف نهج جديد لعمليّة يمكن أن تسمح في نهاية المطاف بالتوسع في استخدام ‘التزْجِيج’ أو حفظ الأنسجة بالتبريد الخالي من الجليد، من خلال تخفيض الآثار السُميّة للمواد المانعة من التجمد (الحافظات القرية)، وخصوصاً منها تلك المستخدمة لتزْجِيج الخلايا البطانية اللاصقة (adherent cells)، والمعروفة بأنها ذات نتائج سيئة باستعمال التزْجِيج (VETRIFICATION) التقليدي.(4)

قام هذا الفريق بتطوير نموذج رياضي لمحاكاة عملية التجميد في ظل وجود مواد واقية قرية. حيث افترض الباحثون أنه يمكن الحد من الضرر المسبب بالمادة الحافظة بتعريض الخلايا في البداية لتركيزٍ منخفضٍ من هذه المادة، بعد ذلك يتاح للخلية الوقت الكافي لتنتفخ (تنتبج)، ومن ثمّ يمكن تَزجِيْجُ العينة بنجاح وبسرعة بإضافة تراكيزعالية من المادة الواقية القرية .

باستخدم هذه الطريقة الجديدة،حصل الفريق على نتائج سُمّية أقل بشكل واضح، حيث أظهرت الدراسة أن معدّل البقاء على قيد الحياة للخلايا السليمة ارتفع بعد التزْجيج من حوالي 10 في المئة مع الطريقة التقليدية إلى أكثر من 80 في المئة مع العملية الجديدة.

يقول آدام هيغنز Adam Higgins-الأستاذ المساعد في كلية الهندسة الكيميائية والبيولوجية والبيئية بجامعة ولاية أوريغون-: "المشكلة الأكبر والعامل المُحدِّد في التزْجِيج هي سُميّة المواد الواقية القرية، وهذا الإنجاز يساعد على معالجة ذلك، كما يمكن لهذا النموذج أن يساعدنا أيضاً على اكتشاف واقيات قرية أقل سُميّةً و في المحصّلة أن يفتح الباب أمام تزْجِيج المزيد من الأنسجة ولربما تزْجِيج اعضاء كاملة".

في النهاية، من شأن مثل هذا الإنجاز أن يفتح الباب أمام عدد كبير من تطبيقات الحفط القري بالتزْجِيج ، حيث يمكن لهذه الطريقة أن تتضافر مع التقدم في طب الأنسجة التجديدي والخلايا الجذعية ، فيصبح بإمكان الباحثين تصنيع كمية صغيرة من الخلايا و تخزينها إلى حين الحاجة للزرع، كما قد يمكننا حفظ أعضاء كاملة بأمان حتى يتم العثور على مريض محتاج و متوافق مناعياً لاستخدامها.

يمكن لهذه التقنية أن تكون مفيدةً في تطوير الأدوية أيضاً، حيث أن اختبار الأدوية يتم حالياٌ على نماذج حيوانية أو زرعات خلوية، ولكن هذه الطرق لا تستطيع التنبؤ بتفاعل الدواء مع جسم الانسان بدقةٍ ، لذا يحاول العلماء تطوير طرق تسمى (أعضاء على رقاقة ) أو organs-on-a-chip ، حيث تحوي الرقاقة على حجيرات سائلية دقيقة تحوي بدورها على خلايا بشرية مزروعة ومقطوفة بشكل يحاكي تطور الأنسجة والأعضاء الأصلية، ولكن الصعوبة الكبرى التي كانت تعترض هذه التقنية تتمثل في إمكانية حفظ الخلايا لفترة طويلة، وهنا يمكن لطريقة جامعة أوريغون أن تساهم بحل هذه المعضلة وبالتالي تسريع تطور مثل هذه الأبحاث.(2)

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا