الفنون البصرية > فن وتراث

سلسلة الآلهة الأم الكبرى، الجزء الثالث: السلطة الذكورية تحل دعائمها على أنقاض سابقتها السلطة الأمومية

استمع على ساوندكلاود 🎧

كما ذكرنا في مقالنا السابق، (هنا) فقد كانَت الآلهةُ الأم في العصرِ الباليوليتي ومطلعِ العصر النيوليتي وحيدةً تتربعُ على عرش الكون، ولكن مع نضوجِ الثقافة النيوليتية واكتمالِ الشكل الاقتصادي الجديد وتزايدِ الدور الاجتماعي للرجل تزعزعَت الأنظمةُ الأمومية وخصوصاً مع ظهورِ الكتابة، التي ابتكرَها الإنسان في مطلع العَصر المَدني، والتي ساهمَت بدورِها في تدوين أساطيره المَوروثة عن أسلافِه البُسطاء، وتظليلِ صورة الأم الأولى. كما أنَّ ظهورَ المدنِ الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المُعقدة، ساهمَ بانتقالِ السلطة إلى الرجل، وتكوينِ دولة مَدنية قويَّة ذاتُ نظام مركَزي وهرَم سُلطوي طبَقي تسلسلي صارِم، والذي قامَ على أنقاض النِّظام الزراعيِّ البسيط.

ومع بِدء تكوين الآشوريين لامبراطوريتهم الآشورية، لم تعدْ الزهرة ربة اللذةِ والحُب الشهوانيِّ فقط وإنما أصبحَت أيضاً ربة للحرب، وهذا يعودُ إلى طبيعةِ الشعب الآشوري الدموي فهو شعبٌ محاربٌ بفطرته، لذا فقد عُبدت الزهرة "الأم الكبرى" كإلهٍ ذكرٍ في الصباح يُشرف على الحروب والمذابح، وأنثىً في المساءِ ترعى الحبَ والشهوة.

هذا وقد ظهرَت الأديانُ الذكورية في الغربِ قبلَ الشرقِ بزمنٍ غير قصير، حيثُ دفعَت موجاتُ الصقيع الناسَ إلى هجراتٍ نحو المناطقِ الدافئة. وظهرَت الأديانُ الذكورية في الشرقِ على أثر هذه الهجرات، فقد أكدَّت الأبحاثُ الأركيولوجية هذه النظرية مبينةً أنَّ الشرقَ كان فعلاً تحت سُلطةِ الأم الكبرى وما فعله غزاةُ الشمالِ في الشرق هو إضافةُ علامةِ التذكير إلى الربة وإضافةُ كلمةِ زوج، فكلمة "بعل" تعني زوج ومع الأيامِ صارَت تُطلقُ على الرب.

ومنذ البداياتِ الأولى للثورةِ المدنية تزايدَت الأعمالُ الفنيةُ المخصصةُ لتمثيلِ الآلهة الذكور، وكثرَت صُورهم في الأساطير، ومع انهيارِ الثقافات الأمُومية وصعودِ الثقافات الذكورية، غلبَت الشمسُ القمرَ وتوطدَّت الدياناتُ الشمسية السماوية وراحَ آلهة الشمسِ يبنون أمجادَهم بعد معارك حاسمة مع سيدة العتم "الأم الكبرى" مُهاجمين رموزَ الأم الكبرى، ويكادُ لا يعثرْ على إلهٍ شمسيٍّ لم يدخلْ في صراعٍ مع أفعى الأم الكبرى، ولعلَّ هذا الصراعُ يعكسُ صراعاً مُوغلاً في القدم، تمَّ عند مشارفِ التاريخِ المكتوبِ بين الدياناتِ الأمُومية القديمَّة والدياناتِ الذكوريَّة الصَّاعدة. وانتهى الصراعُ بتدميرِ معابد الأم الكبرى، وقتلِ كاهنتَها التي ترتدي جِلدَ الأفعى وتحطيمِ تماثيل الحية. وعلى سبيلٍ الذكر، فقد تصدى الإله أبولو بعدَ ولادتِه بأربعة أيامٍ فقط للأفعى "بثيون" أفعى الأم "جيا" وثبَّت الأرض في المكانِ الذي قتلها فيه، وبنى معبدَه الجديد في دلفي. على الرغمِ من مصادرَ آخرى تشيرُ إلى أنَّ المعبدَ قديمٌ جداً، وكانَ مكرساً للأمِ الأرض جيا.

وقد بَدا واضحاً في قصةِ التكوين البابلي كيف أحلَّ النظامُ الذكوري قواعدَه على أنقاضِ النظام الأمومي فـ "تيامة" الأمُ الأولى والمياهُ البدئية التي حملَت في داخلها الجيلَ الأولَ من الآلهة، الذي تناسلَ وأخرجَ جيلاً متمرداً من الآلهةِ الفتية، الذين ثَاروا على تيامة وأحلوا نظاماً جديداً بقيادةِ الإله مردوخ، الذكرُ الأسمى، الذي قتلَ الألهة الأم وقسمَ جسدها إلى السماءِ والأرضِ ونظمَّ الكون على صورته الحالية.

ونرى أنَّ أسطورةَ التكوينِ البابلية هذه تعترفُ بدورِ الأم الكبرى بإخراجِ الكون من حيزِ الهُيولى إلى حيزِ الوجود، ولكنَّها تجعلُ منه دوراً سلبياً لأنَّ الأم تغدو مادةً لفعلِ الإله الذكر، لا مصدراً تلقائياً للإشعاع، وإن قتل الأمِ في هذه الأسطورة يعكسُ رغبةَ الرجل، سيد الحضارة الجديدة، فالخروج من حُضن الطبيعة والتحكم فيها وتوجيهها لمصلحته بعد تاريخٍ طويلٍ من الاستسلام والعيش في كنفها.

أما في كنعان نجدُّ أنَّ زواجَ إله السماء "إيا" من الأمِ الكبرى قد ساعدَ على طمسِ وجهها القديم ونقلِ خصائصَ الخُلق كاملةً إلى إلهٍ مُذكر.

ولكن في سومر بقيَت الأمُ على حالها تقريباً، فقد كانت "نمو"هي الأمُ الكبرى والمياهُ البدئية، وحيدةٌ على العرش وبما أنَّ الإله الذكر لا يستطيع الإدعاءَ بقتلِ الأرض فقد أضعفَ صورتها الكلية لفترة وجعلها منفعلةً لا فاعلة، فخصبها لا يفيض عنها بل يأتي من خارجها، ومآوها الذي ينبع من أعماقها ويسقي تربتها لاينتمي إليها. وفصلَ خصَائص الأم الكبرى عن خصائصِها المُتعلقة بالخصب وحركةِ الطبيعة الأرضية، فتركَ الأولى لاسمها "نمو" وجعلها ألهة مرحلة تعيشُ في عالم المُجردات بلا ظلٍ ولا معبدٍ ولا ديانةٍ منظمة، وتركَ الثانية لاسمها "إنانا" التي أدمجَها بالآلهة الجديدة برئاسة "أن" وجعلَ لها نسباً وأماً وأباً في شجرة الآلهة الذكورية.

وكما ذكرنا في مقالنا السابق، فقد توَّجت الثقافةُ الذكوريةُ انتصارَها بإجلاءِ الأمِ الكبرى عن القمر ليجسدَ إلهاً مذكراً هو إله القمر "سن" في بلاد الرافدين، وأشباهه في الثقافات الآخرى.

كما لا يَغيب عن مقالنا هذا صُورة إنانا وليليت النموذجَين المُتعارضين والمُختلفين تجاه التطورات التي أدَّت إلى سيادةِ الذَكر على الكَون، فكانَت إنانا سيدةً مطلقةً في البانيثون السومري وتحولَت لمجرد شريكة للذكر، أما ليليت ربةُ المهد، التي تحدثنا عنها في مقالنا السابق، فهي لم تُساومْ ولم تخضعْ وأصرَّت على أن تبقى تربيةُ الأطفال من نصيبها، لأنها كانت ترى أنَّ السلام الذي عمَّ الأرض هو نتيجةٌ لتربيتها، وخشَت أن ينتزع الرَجل منها المُلكية فيربي الأولادَ على الحربِ والفساد، لذلك طُّردت ليليت لأن جلجامش أراد أن يُلقن الصبي أناشيد القتال لا أغاني المهد وأغاني الحب، فتربية ليليت حسبَ المفهومِ الجديد للرجل تعني قتلَ الطفل وليس تربيته حتى يكون رجلاً مقاتلاً ومنذ ذلك الوقتِ صارَ لقبُها قاتلةَ الرجل وخانقةَ الأطفال. لذلك اعتبِرت إنانا خائنةً لجنسها وللأم الكبرى مع انصياعِها وتأقلمِها مع النظام الذكوري الجديد، الذي تفننَ في تشويه صورة الأم الكبرى فكمَا صوروا سابقاً بأن "تيامات" ما هي إلا تنينٌ يخرجُ من الماء ويقتلُ الرجال، كذلك تفننت السلطةُ الذكوريةُ في تشويهِ صورة ليليت فأصبحَت قاتلةً وعفريتةً حيث رُبط اسمها بـ "لاماشتو" الشيطانة التي تنتظرُ الولادات الحديثة فتنقضُ على الطفلِ قبل يومه الأربعين وتذبحُه وتذهبُ مع الريح.

إلا أنَّ النساء بقين في مُعظمهن على عهدهِن في الإخلاص لليليت، العينُ الساهرةُ للطفل، وما العينُ التي ترسمُ وسطَ راحة الكفِ سوا رمزٌ للرعايةِ والعناية، أي ما قامَت به ليليت قد انتشرَ في كلِّ أنحاء العالمِ قديماً ومازلِنا نقومُ به حتى اليوم.

وإنَّ جعلَ ليليت قاتلةً للرجل يُذكرُ بالسيرنيات، اللواتي كنَّ في جزيرةٍ نائيةٍ في البحر كلما مرَّ من جوارهن رجلٌ يغنين بصوتٍ ساحرٍ فلا يستطيع بحارٌ أن يقاوم، فينزل الجزيرةَ وتغاويه السيرنية وتقتله بعد المضاجعة، ولعلَّ هذه القصةُ أكبر دليلٍ على مقاومةِ النظام الأمومي لحركةِ التجديد الذكورية.

وحتى سيت، إلهُ العاصفةِ والبراري وكل ما هو شرير، ما هو في تحولاتِه إلا ليليت وتيامات، فهو لم يكنْ رباً، بل ربةً واسمها يعني الست أو السيدة، ولكن اسمها سُرق وأُلحقَت بربٍ سموه أنليل سيد الهواء، ولم يجعلوا لها بديلاً، لأنهم لا يريدون للمرأة أن تأخذَ مكانةً في مجتمعِهم.

كما لا يغفُ عنا صورةُ أيزيس المصرية فهي أيضاً تُجسِد صورة ليليت المتمردة، فهي من حصلَ على اسم الرب الخفي والسري بعد أن عالجَت الإله رع مُستغلةً وضعه البائس، فطلبَت منه الاسم السري وعينيه لابنها حورس شرطاً لتعالجه، فقبل رع وعادَ للحياة ولكن دون عينيه اللتين انتقلتا إلى البشر، فصارَت العدالةُ عمياءَ عندهم، ولكن أصبح الإنسانُ ابن المرأة هو الذي يستخدمُ العينَ في حياته، لكن دون أن يُحسن استخدامها، أما الاسم سر الألوهة، ظلَّ مع المرأة ربةً وخالقةً الحياة. وقصة أيزيس خيرُ دليلٍ على محاولةِ ربات الأم الكبرى استعادةَ سلطتها السابقة ولكن الذكر كان قد وطدَّ سلطته جيداً.

ولا ننسَ أهمَّ الصراعاتِ بين السُلطتين الأمومية والذكورية وهو الصراعُ مع الأمازونيات اللواتي رفضن الثقافةَ الذكورية وحاربن ضِدها، حتى كُن يقطعن صدورهن ليستَطعن استعمالَ القوسِ بسهولة، وما هذا إلا ردةُ فعلٍ للثقافة الأمومية تجاه المحاولاتِ الهادفةِ لاستبعادها.

لكن ومع هذا كله، فإن هذا التَحول في مكانةِ الأم الكبرى لم يتمْ إلا على النطاقِ الرسمي، حيث بقيَت مكانتها على حالها في ضمير الناس عامةً ويتجهون إليها عند الخوفِ واليأسِ والشدة، فنلاحظُ في الميثولوجيا اليونانية أنَّ ربات الفنون جميعهن من النساء، ورغمَ قوة الصراعِ إلا أنه لم يستطعْ إقحامَ ربٍ واحدٍ بين هذه الربات، المُختصة بالفنون وكل ما هو جميل ويرقى بنفسية الإنسان.

وهكذا نجدُ أن هذا الصراع الذي ظهرَ في أغلبِ الأساطير ليس في حقيقته وغاياته إلا تعاوناً بين القوتين من أجلِ حفظِ الوجود ومنعِه من العودة إلى هاوية السُكون والعدم، ويحتاجُ متابعة هذا الصراع إلى مجلداتٍ ضخمةٍ وكثيرةٍ لتغطية التاريخ القديم، ولكن ما وصلنا إليه في بحثنا هذا هو أنَّ التجمُّع الإنساني الأولَ لم يؤسسْ بقيادةِ رجلٍ محاربٍ وصياد، بل تلبورَ تلقائياً حول الأم التي كانت المنتجَ الأولَ في الجماعة، فكانت هي الطبيعةُ الأولى، ولكن للأسفِ استطاع المبدأ الأبويُّ المتسلطُ والمتملكُ من الطغيان على المبدأ الأمومي، ذو العدالةِ والمساواة، لتخرجَ الإنسانية عن مسارِ الطبيعة وتخضعَ لقوانين مصنوعة بدلاً من العودةِ للتوحد مع الطبيعة والاندماج معها.

المصادر:

1- عبود. حنا، ليليت والحركة النسوية الحديثة، دمشق، منشورات وزراة الثقافة، 2007.

2- القمني. سيد، الأسطورة والتراث، الطبعة الثالثة، القاهرة، المركز المصري لبحوث الحضارة، 1999.

3- الحوت. محمود، في طريق المثيولوجيا عند العرب، دار النهار، 1979.

4- السواح. فراس، لغز عشتار- الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، الطبعة الثامنة، دمشق، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، 2002.

5- Neumann. Erich، The Great Mother- An Analysis of the Archetype، 1st press، Princeton University، 1991