الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الثورة الفرنسية – الجزء الرابع (فولتير) والمَلَكيّةُ المطلقة

استمع على ساوندكلاود 🎧

في المرحلةِ الثالثةِ من الثورةِ الفرنسية، جاء دورُ (فولتير)، ومذهبِه القائمِ على أساسِ (الدّكتاتوريّةِ المستنيرة)، النظريةِ التي تُشابه نظريةَ روسّو في أمرٍ واحدٍ فقط؛ هو عدمُ تجزئةِ السيادة، ولكنّ السيادةَ في نظريةِ فولتير ليست للشعب، بل للملكِ فقط.

لقد أعلن فولتير نفسَه -كما فعلَ مونتيسْكيو قبلَه- أحدَ أتباعِ الفلاسفةِ الإنجليز، وعلى اعتبارِ أنه زار إنجلترا مراتٍ عدّة؛ فقد وَصف المملكةَ الإنجليزيةَ بمصطلحاتٍ تشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ تلك التي استخدمَها مونتيسْكيو، مثلَ أنّ إنجلترا (موطنُ الحرية). وكذلك كما فعل مونتيسْكيو، فقد لَقَّب فولتير الفيلسوفَ لوك بـ(أميرِ الفلاسفةِ الإنجليز)، ما لا يدعُ مجالًا للشكِّ في أنّ فولتير يَدينُ بالكثيرِ للوك؛ بمعظمِ أفكارِه.

إنّ كتابَ فولتير (Traite sur la Tolerance) أو (معاهدةُ التسامُح)، على سبيل المثال، يضيفُ القليلَ إلى ما طرحَه لوك في كتابِه (Letter of Toleration) أو (رسالةٌ في التسامُح)، غيرَ أنّ فولتير لم يتّفقْ مع مونتيسْكيو في نظريتِه لتجزئةِ السيادةِ والحكومةِ الدُّستورية، الأمرُ الذي طرحَه لوك في أحدِ أعمالِه؛ (Two Treatises of Government) أو (أُطروحتا الحكومة).

إنّ أحدَ أكثرِ الفلاسفةِ الإنجليزِ المفضَّلين أيضًا لدى فولتير كان (فرانسيس بيكون)، الملقبُ بـ(فيلسوفِ التقدُّم). فعلى الرغمِ من أنّ بيكون قد توفيَ عامَ 1626م، أيْ قبلَ اندلاعِ الثورةِ الفرنسية، إلا أنّ فولتير عَدّه أكثرَ المفكِّرين مواكبةً للعصرِ آنذاك؛ فقد حَملتْ رسالتُه في القرنِ السابعَ عشرَ نوعًا من الواقعيةِ التي اقترنتْ بالقرنِ الثامنَ عشرَ لفرنسا حينَها، والتي جعلتْ فرنسا تتفوَّقُ على نظريةِ لوك، التي كانتْ موجَّهةً تحديدًا وبشكل رئيسيٍّ للإنجليزِ الذين خاضوا تجرِبةَ الحكومةِ البرلمانية، في حين لم تكن فرنسا قد خاضتْها بعد.

كان إعجابُ فولتير ببيكون قبلَ كلِّ شيءٍ لأنه رجلُ علْم؛ وليس ذلك لأنه أحرزَ اكتشافًا علميًّا بنفسِه، بلْ ببساطةٍ لأنه كان قد صَرَّح بمبدأ «العلمُ هو السبيلُ لإنقاذِنا». والأمرُ الذي كان مميَّزًا في مبدئِه ذاك تأكيدُه على

«المنفعةِ التي تعودُ على البشريةِ من العلْم؛ فالعلمُ كما يراه هو ليسَ مجرَّدَ أداءٍ فكريٍّ نؤدّيه، بل هو مشروعٌ عمليٌّ يمنحُنا قدرةَ التحكُّم في عالمِنا. فعندما يتعلمُ الإنسانُ آليّةَ عملِ الطبيعة؛ سيكونُ قادرًا على تسخيرِها لمصلحتِه، وسيتغلّبُ على مشكلةِ ندرةِ الطعامِ أو المُؤَن؛ من خلالِ الابتكاراتِ العلميّةِ في مجالِ الزراعة، كما سيتغلّبُ على الأمراضِ من خلالِ الأبحاثِ العلميةِ في الطِّبّ، وسيستطيعُ تحسينَ حياةِ الإنسانِ بشكلٍ عامٍّ من خلالِ كافّةِ أنواعِ التطوُّراتِ في الصناعاتِ والتكنولوجيا».

إنّ هذه الرؤيةَ التقدُّمِيّةَ لبيكون أثارتْ حماسةَ فولتير وسعادتَه، ولم يكن أقلَّ حماسةً للبرنامجِ الذي رسمَه بيكون في سبيلِ تحقيقِ رؤيتِه تلك. يقومُ ذلك البرنامجُ على ما يلي:

• إلغاءُ الجَدَلِ الميتافيزيقيِّ التقليديّ، والنزاعاتِ اللاهوتيّةِ الفارغةِ التي أُهدِرَتْ فيها المنحُ الدراسية.

• إبطالُ المعوِّقاتِ القانونيّةِ والسياسيّةِ القديمةِ كافّةً، والتحوُّلُ إلى التنظيمِ الفَعّالِ للدولةِ التقدُّمِيّة.

لقد كان بيكون يقفُ بشكلٍ علنيِّ مع منْحِ السلطةِ الواسعةِ للنظامِ المَلَكيِّ على حسابِ حقوقِ الكنيسةِ والبرلمانِ والمحاكم، وقد وافقَه فولتير في ذلك. وكان لدى بيكون -في عصرِه ذاك- خطةٌ لتعزيزِ رغبةِ الملكِ جيمس الأولِ في أنْ يصبحَ الملِكَ المطلَق، حتى إنّ بيكون نفسَه كان على استعدادٍ ليكون الفيلسوفَ المقرَّب للملِكِ القويِّ المطلَق (1)، غيرَ أنّه أخفقَ في ذلك؛ ما أثارَ تعاطُفَ فولتير الشديدَ لجهودِه تلك.

إضافةً إلى ذلك، فقد بدا لفولتير أنّ (الخطةَ البيكونيّة) تلك ستحظى بفرصةٍ أكبرَ للنجاحِ في فرنسا؛ ذلك أنّ فرنسا كانت قدْ مرَّتْ بالفعلِ بتجرِبةِ السلطةِ المَلَكيةِ المطلَقةِ في ظلِّ حكمِ ملوكِ البوربون خلالَ القرنِ السابعَ عشر. ومن هنا يبدو أنه من السهولةِ بمكانٍ أنْ يَفهمَ المرءُ سببَ إعجابِ فولتير بالملكِ هنري الرابع، وليس أقلَّ من ذلك تقديرُه أيضًا للملكِ لويس الرابعَ عشر، الذي اضْطَهَدَ البروتستانت، وقَمع المعارضين، ووفّر الحمايةَ للمتديِّنين. ويبدو أنّ لويس الرابعَ عشرَ قد أثارَ الجانبَ الجماليَّ مِن مُخَيِّلةِ فولتير، الذي صَوّر الملكَ بفنّانٍ يستخدمُ ريشتَه لفرْضِ الوَحْدةِ على فوضى المجتمع. وعلى كلِّ حال، فإنّ فولتير لا يرى أيَّ تهديدٍ للحريةِ في ظلِّ نظامِ الحكمِ المَلَكيِّ المطلَق، والذي يقومُ في أساسِه على مركزيّةِ الحكم، بل إنه على النقيضِ من ذلك -وبحسْبِ التجرِبةِ الفرنسيّة- يرى أنّ العدوَّ الحقيقيَّ للحريةِ هو الكنيسةُ والمؤسساتُ التي تسيطرُ عليها طبقةُ النبلاء، إضافةً إلى البرلمان، وبقمْعِ تلك المؤسساتِ أو تقليلِها؛ ستتمكُّنُ الحكومةُ القويةُ ذاتُ الحكمِ المركزيّ، من منحِ الناسِ مساحةً أكبرَ للحرية، فقد حدث ذلك في فرنسا من قبلُ، ويمكنُ له أنْ يحدثَ في المستقبلِ أيضًا.

ولا يتّفقُ فولتير مع مونتيسْكيو في فكرةِ وجودِ سلطةٍ عليا تراقبُ سلطةً أخرى بهدفِ تحقيقِ الحريةِ من خلالِ مبدأِ توازُن القُوى. وبذلك، فإنّ فولتير يَرى أنّ نظامَ الحكْمِ الفرديِّ القويِّ القادرِ على كسْبِ ثقةِ الشعب؛ هو الحكْمَ المطلوبَ، وليس نظامَ حكْمِ القُوى المتصارعة؛ فالأجدرُ بتلك القُوى المتصارعةِ أنْ يتمّ إخضاعُها؛ لأنها تشكّلُ تهديدًا للحرية.

هامش:

(1) إنّ فكرةَ وجودِ (فيلسوفٍ للملك) تُوغِرُ في قِدَمِها إلى عصرِ أفلاطون بالطبع. وقد كان كثيرٌ من ملوكِ أوروبا في القرنِ الثامنَ عشرَ مقتنعين بتلك الفكرةِ التي طرَحها فلاسفةُ عصرِ التنوير؛ فحاولوا تفعيلَ دورِ (فيلسوفِ الملكِ) على أرضِ الواقع، منهم الإمبراطورةُ (كاثرين) إمبراطورةُ روسيا، والإمبراطورُ (جوزيف) إمبراطورُ النمسا، إضافةً إلى عدّةِ أمراءَ آخرين. وقد قرَّب ملكُ بْروسيا (فريدريك) فولتيرَ منه شخصيًّا، كما دعاه للانضمامِ إلى محكمتِه في بوتسدام، وكانت تلك تجرِبةً حُكِمَ عليها بالإخفاق؛ فقد وَجد فولتير نفسَه عاجزًا تمامًا عن إبداءِ أيِّ رأيٍ أمامَ ملكٍ يَعُدُّ نفسَه بالأساسِ فيلسوفًا ليس بحاجةٍ إلى نصيحةِ أحد، وكلُّ ما أرادَه هو الثناءُ الدائم!

المصدر:

هنا