الموسيقا > الآلات الموسيقية

آلة لافالي... العابرة للقارات

لا تتشكلُ الهويةُ الثقافيةُ فقط عبرَ الذاكرةِ الجَمعية، وإنّما أيضاً بإزالةِ بعض الحقائقِ التاريخيةِ والثقافيةِ. إنّ إنشاءَ هويّةٍ ثقافيّةٍ ما في النهاية، يكونُ ذا شخصيةٍ سرديّة، بمعنى أنّهُ مرتبطٌ باستمرارِ سردِ بعضِ أجزاءِ الهويةِ الثقافية، أي أنّ ما لا يدخلُ في السّرْدِ والتداولِ لنْ يكونَ جُزءاً منَ الموروثِ الجمعيّ؛ وبهذا الفرْضِ أعتقدُ أنّ حالةَ لا فالي Valiha الآلةِ الشعبيةِ التقليديةِ في ثقافةِ مدغشقر هي مثالٌ غايةٌ في الأهميّة.

ماوريتسيو ديسوتييو (موسيقى وثقافة وهوية ص 38 2001)

مدغشقر أو الجمهوريةُ المالاغاشية، وهي جزيرةٌ في المحيطِ الهنديّ، تقعُ قُبَالةَ السّاحلِ الجَنوبيّ الشرقيّ لقارةِ إفريقيا، وهي رابعُ أكبرِ جزيرةٍ في العالم، كانتْ قدِ انفصلتْ عن إفريقيا منذ ما يقاربُ 160 مليونَ سنة. بدأتْ كتابةُ التّاريخِ في مدغشقرَ في القرنِ السّابعِ، عندما أنشأَ المسلمونَ مراكزَ تجاريةً على طولِ السّاحلِ الشَّماليّ الغربي، وخلالَ العصورِ الوسطى كانتْ مدغشقرُ مَنْفَذاً هامّاً للتداولِ عبرَ المحيطات لساحل شرقِ إفريقيا، حيث شكّلَتْ إفريقيا جُزءاً من طريقِ الحريرِ التّجاري، بالإضافةِ إلى كونها ميناءً للسّفُن. تُعْتَبَرُ اللغةُ الفرنسيةُ لغةً رسميةً فيها إضافةً إلى اللغةِ المَلاغية، وهي خليطٌ من عدةِ لغاتٍ تشمل الإندونيسية والإفريقية والعربية وبعضَ الماليزية. كما تأثرتْ موسيقاها بعدةِ ثقافاتٍ عِرقية مثلِ الإندونيسية والجنوب آسيوية والأوروبية والعربيةِ وشعوبِ أَسْتْرُونِيزية Austronesians—people، أي سكانِ جنوبِ شرق آسيا وأوقيانوسيا مثلِ سنغافورا وماليزيا والفلبين الذين أحضروا آلاتِهم الموسيقيةَ التقليديةَ معهم إلى مدغشقر، وقد أصبحتْ هذه الآلات فيما بعد ركيزةً أساسيةً في الثقافة الموسيقيةِ الملاغية.

تتضمنُ موسيقى مدغشقر التقليديةُ منها والمعاصرةُ على حدّ سواء أدواتِ وجمالياتِ الموسيقى الفلكلورية، التي كانتْ جزءاً منَ المجتمعاتِ المحليةِ على مدى عقود، فضلاً عن أنماطِ الموسيقى الشعبيةِ التي تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على موسيقى الروك أند رول والهيب هوب. ينتشرُ في مدغشقرَ أيضاً الرقصُ وفنونٌ موسيقيةٌ تراثيةٌ غنية، تتجسّدُ في العشراتِ من الأنواعِ الموسيقيةِ حسبَ الأقاليم مثلِ salegy الساحلية أو hiragasy. كما توجدُ مجموعةٌ واسعةٌ مِنَ التقاليدِ الفنيةِ في مدغشقر، ومنها فنُّ الخَطابة الذي يُعَبَّرُ عنه في أشكال شِعرِ hainteny، أو الخِطابِ العامّ kabary والأمثال ohabolana.

يُقامُ في مدغشقر منذ عام 1993 مَهْرجان Festival Donia ويعني مهرجان التسلية، الذي يُعَدُّ أهمَّ مهرجانٍ موسيقيّ تقليديّ وكلمةُ Donia بلغةِ الساكالافا Sakalava تعني تسلية. يقامُ هذا المَهرجانُ المهمُ على مدارِ خمسةِ أيام في جزيرة نوسي بي Nosy Be في بدايةِ شهر تشرينَ الأوّل، حيث يستقطبُ عشراتِ آلافِ السياحِ والمهتمينَ بهذا النوعِ مِنَ الموسيقى. لمُحبي الجازِ أيضاً نصيبٌ من الاهتمام، إذ يقامُ لهم مَهرجانُ ماداجازكار Madajazzcar الدوليُّ في العاصمةِ أنتاناناريفو Antananarivo التي تستضيفُ فنانينَ من كلِّ أنحاءِ العالم وتُعْتَبَر آلةُ Valiha لا فالي من أهمّ الآلاتِ في ثقافةِ هذه الجزيرة، وهي آلةٌ كالقيثارة ARPA تُصْنَع بالشكل التقليدي من الخيزرانِ الذي يُمثلُ فيها الصندوقَ الصوتي cassa armonica، أو من صندوقٍ خشبيّ بأحجامٍ مختلفة يتم تزيينهُ وتُنقَشُ عليه الرسومات الفنيةُ التي ترصد أحياناً صوراً من مناحي الحياة في الجزيرة. وبذلك تكون لهذه الآلاتِ قيمةٌ فنيةٌ مضافة تجِذبُ السياحَ للحصول عليها. يُشَدّ على الآلةِ من 7 إلى 28 وتراً، وغالباً ما يكونُ وترُ الصّول G في الوسط، بينما يكونُ وترُ الدو على اليسار، ويكونُ الرّي على الجانبِ الآخر فوترُ المي بعدَ الدو، والفا بعدَ الرّي وهكذا بشكلٍ تناوبيّ. يكونُ عزفُ السلّمِ الموسيقي بها بشكلٍ تراتُبي بينَ أصابعِ اليدين، فيكونُ السلّمُ الناتجُ diatonic وهو الماجور( العجم ). إنّ هذه الطريقةَ في الدوزان التي تَعتمدُ بالمحصلة على البعدِ الثالثِ بينَ الأوتار (RE-FA- LA; MI-SOL- SI) تُذَكّرُ بدوزان اليوماتوجوتو أو الواوجون أو الكوتو اليابانيةyamatogoto، koto  ، wagon التي تُعتَبَرُ الآلةَ الوطنيةَ عند اليابانيين، وتُضبطُ أوتارُها بالشكل التالي (RE-LA-RE- SOL-SI- MI).

آلة koto اليابانية

إنّ صوتَ هذه الآلةِ يشبهُ إلى حدّ ما هارب أو الكورا الإفريقية Kora، إذ يَتمُّ العزفُ عليها بواسطةِ نقرِ الأوتارِ بالأصابع و بكلتا اليدين، بحيث تُصدِرُ أكورداتٍ (توافقات) وإيقاعاتٍ مختلطَةً بنفس الوقت؛ مما يتطلبُ من العازفِ مهارةً تقنيةً وأذُناً موسيقيةً وإيقاعيةً عاليةَ المستوى. تعتبرُ هذه الآلةُ في بعض المناطقِ مقدسةً ولا يُسمَحُ العزفُ عليها لأيٍّ كان، إذ ترتبطُ هذه الآلةُ بإيمانِ من يعزفُ عليها، فمثلاً يُعتَقَدُ أنّ إرضاءَ السلَفِ الصالحِ يكون من خلال الموسيقى والإيقاع، وفي حال الإتيانِ بإثمٍ ما يجبُ التبرأُ منه بواسطة الموسيقى، نظراً لما كانَ للموسيقى من ارتباطٍ وثيقٍ بالثقافةِ الأمانيةِ لسكانِ مدغشقرَ القدماء.

أما الأوتار، فغالباً ما يتم الحصولُ عليها من الأسلاكِ المعدنيةِ المُستخرجةِ من إطاراتِ السياراتِ الُمستهلَكةِ حالياً، وخاصةً في العاصمة وذلك بسببِ تَكلِفتها البسيطة، أما في السابق فكانت تُصنَعُ من لِحاءِ بعض الأشجار، كما أنّ البعضَ يستخدمُ أوتارَ القيثاراتِ الحديثةِ من النايلون، بينما يستعيضُ البعضُ الآخرُ عنها بالأسلاكِ الملفوفةِ لفراملِ السيارات أو العجلاتِ الهوائيةِ بدلاً من رميها. يكونُ الوترُ مكوّناً من سلكٍ أو اثنين مجدولينِ سوياً، أما الجسورُ أو ما يسمى بالفَرَسِ الحاملِ للأوتار فيُصنَعُ من قِطَعٍ خشبيةٍ مُثبّتةٍ على مسافاتٍ متعددةٍ على طول القَصَبةِ والصندوقِ الخشبي.

وفي دراسةٍ قامَ بها Jobonina Razafindrakoto في جامعةِ باريسَ الرابعة، ونُشِرَت في  (Ateliers d’ethnomusicologie ADEM) (وُرَشِ العملِ الإثنية) لتحليل الصّبغةِ الصوتيةِ Timbro لهذه الآلةِ. تمت دراسةُ آلاتٍ وُضِعَت عليها أوتارٌ معدنية وأُخرى كانت تُصْنَعُ سابقاً من لِحاءِ الشجر لمقارنةِ الانسجاماتِ التي تصدرُ من هذه الآلة وكيف يمكن أنْ تؤثرَ على المزاج العامّ للعازف. فعَبرَ تحليلِ السونار The Sonagraphique Analysis، أظهرتِ النتائجُ اختلافاً في طبيعةِ الصوتِ الناتج.

أظهرتِ النتائجُ لسلاسلِ عاملِ الجَودة بالاعتماد على الخصائص الفيزيائيةِ للمادة وعلى عواملِ الاستهلاك الخارجي للصوت مثلِ رطوبةِ الهواء، وعواملَ أخرى مثلِ (الاحتكاك، الخسارات... إلخ)، أنّ الأوتارَ النباتيةَ تشكلُ انسجاماً كبيراً. كما أجريتْ قياساتُ تَرددٍ في مختبرِ stroboconn واختبارٌ بطريقة التحليلِ العددي من سلسلةٍ تهتزُّ على الآلةِ بواسطة برنامجِ MATLAB والذي قام بمسح مجموعةِ الطيف بأفضلِ وأعلى درجةٍ من الدقة. استنتجوا من خلالها أنّ دِقةَ الحبالِ النباتيةِ أعطتِ انسجاماً harmonicity أكبرَ من الحبالِ المعدنية، حيث أنّ الانسجامَ هو العاملُ الذي يؤثرُ على الشعور والمِزاج العام للعازف وخاصةً عندَ العزفِ في مجموعات (فِرَق). وأنّ الأوتارَ النباتيةَ أقدرُ على التعبير وأقلُّ تشويشاً للعازف وذاتُ طابَعٍ أقوى؛ وهذا ما يفسرُ انسجاماً أقلّ لعازفي مدينةِ أنتاناناريفو العاصمة الذينَ يستخدمونَ تلك الأوتارَ المعدنية، بينما تنسجمُ بشكلٍ أكبرَ الآلاتُ ذاتُ الأوتارِ النباتية.

وبالحديث عن أصول هذه الآلةِ الجميلة، يُعتَقَدُ أنها نشأتْ في جنوبِ آسيا وذلك حَسَبَ عالمي الإثنوموسيقى (Mack; Sachs). ومن المثير للاهتمام أنّ طريقةَ دوزانِ هذه الآلة الذي يشكلُ أبعاداً ثلاثيةً في كلّ جانب، يشبهُ ضبطَ الثلاثيات لآلةِ الكورة kora الإفريقية، بينما يقول Philip Allen أن جوهرَ ثقافةِ مدغشقر يأتي من مصفوفةِ وتَلاقُحِ الثقافة الأفرو-الإندونيسية حيث أنّ هذه الآلةَ منتشرةٌ أيضاً في إندونيسيا وغينيا الجديدة.

بالإضافة إلى أنّ هذه الآلةَ تُعتبرُ آلةً وطنيةً في الدولة فهي كذلك جُزءٌ أساسيّ من الطقوس والاحتفالات، وكانت في القرن التاسعِ عشر خاصةً بالأرستقراطيين كما يقول Rakotomalala والذي يَعتقدُ أنّ العزف على الجيتار الكلاسيكي هو محاكاةٌ لها، وقد استعارَ فكرةَ وتقنيةَ العزف منها بحسبِ Ramboatiana حتى أنّ مدرسَ الجيتارِ الكلاسيكي Rakotomavo لم يَقبلْ أنْ يُدَرِّسَ الطلبةَ الذينَ لم يكونوا قادرينَ على العزفِ على هذه الآلة حيث يقول :(إذا أردتَ التعرفَ على القيثارةِ المالجية، فإنها تأتي عن طريق عزفِ البيانو المالاجي الذي هو بالأصل نسخةٌ من اللافالي والتي هي أصلُ كلّ شيء). تعتمد كل أنواع الموسيقى الشعبية تقريباً في مدغشقر على الرقصات والإيقاعات المنتشرة جغرافياً على طول الجزيرة مثل salegy والمتأثرةِ بالفن الإندونيسي، وkenyoti ذي الأصول الأفريقية، و tsapika من جنوب الجزيرة، وsigaoma التي تشابه الموسيقى الجَنوب إفريقية.

من أهم العازفين المعروفين الذين اشتهروا بالعزف على هذه الآلة: Zeze، Mama Sana، Tovo، Rajery، Sylvestre Randafison و  Justin Vali،

العازف الشهير Rakotosafy

لكنَّ أشهرهم على الإطلاق والذي يعتبر رمزاً وطنياً هو Rakotosafy الذي ولد في عام 1938، وكان نابغةً في الموسيقى لكنه مات فقيراً وللأسف لم يتبقى لدى أرشيف الراديو الرسمي سوى القليل من تسجيلاته النادرة والمحفوظة في راديو مالاغاشي من ستينات القرن المنصرم. هذا العازف الذي ذاع صيته حتى في أوروبا جعله محور قصة فيلم وثائقي اسمه Like A God When he Plays ننصح بمشاهدته لما فيه من رصدٍ لسحر طبيعة مدغشقر وتنوعِ ثقافاتها.

مقاطع فيديو:

رابط الفيلم:

هنا

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

Musiche، culture، identità: prospettive interculturali dell'educazione musicale-

Maurizio Disoteo،Barbara Ritter،Maria Silvia Tasselli 2001  ISBN: 9788846431646-

Madagascar e Comore : David Andrew; EDT 2008 ISBN: 9788860401533-

Storia della musica. The New Oxford History of Music. Vol. 1: Musica antica e orientale-

1987، XVI-588 p.، ill.، 5 ed. Wellesz E

Les instruments de musique de Madagascar. Paris: Institut d’ethnologie. Sachs، Curt 1938-

Madagascar The New Grove Dictionary of Music. New York: Macmillan Publishing Ltd pp. 526-529. Schmidhofer، August and Domenichini، Michel. 2001-

Guitar Music of Madagascar Gitara Gasy: Philip Lewis 2007-