الفنون البصرية > فن وتراث

سلسلة الآلهة الأم الكبرى، الجزء الثاني: صفاتُ الأمِ الكبرى كما صورَتها الشعوبُ القديمة

استمع على ساوندكلاود 🎧

كما ذكرنا في مقالنا السابق عن أسبقيةِ عبادة الآلهة "الأم الكبرى" على عبادةِ الآلهة الذكورية، سنتابعُ في مقالنا هذا عن ماهيةِ وصفاتِ الأم الكبرى كما صورتَها الشعوبُ القديمة، ففي المجتمع الأمومي سلَّمَ الرجلُ القيادة للمرأة، لا لتفوقِها الجسدي بل لتقديرٍ أصيلٍ وعميقٍ لخصائصِها الإنسانية، وقواها الروحية وقدراتِها الخالقة، وإيقاع جسدها المتوافق مع الطبيعة.

عُرفَت بكونها عذراء لأنها ابتدأت الكونَ فيما بعد من خصبِها دون معونةٍ من مبدأ ذكري مشاركٍ لها في أزلها، فوجِدَت في الأساطيرِ أغلبَها كمحيطٍ بلا بدايةٍ أو نهايةٍ كـ "نمو" السومرية.

عبدها الإنسانُ الأول كروحِ الغاب ممثلة بشجرة ولم تكنْ عبادَته موجهةً نحو الشجرةِ بذاتها بل نحو الروحِ الكامنةِ فيها لذلك وجِدَت الأم الكبرى مرافقةً للشجرةِ في كثيرٍ من الرسوم والنقوش، ففي بلاد الرافدين تظهرُ الشجرةُ مراراً خلف عشتار بشكلٍ يوحي للناظرِ بالوحدة بينهما.

اكتسبَت خلال تجوالها في البريةِ بحثاً عن الجذور والأعشاب الصالحة للأكل معرفةً بفصائل الأعشاب وأنواعِها وطرق الإفادة منها. لذا عُرِّفت بكونها سيدةُ الغابِ والبراري والطبيعة وهي سيدةُ عالمِ الحيوان وفي رعايتها للحيوان رمزٌ لوفاءِ المرأة لتكوينها الأصيل المرتبطِ مع الطبيعة.

ولعلَّ أهم تجليات الأم الكبرى كان بالحية، رمزُ الآلهة الأم الخضراء، روح الإنبات والخصوبة، فقد كانت أيضاً رمزاً للشفاء ففي سومر يظهرُ الأفعوانان المتقابلان الملتفان على عصا كرمزٍ لإله الشفاء "ننجريدا" وهو أحدُ أشكالِ الإله تموز، وكانَت الحيةُ "الأم الكبرى" رمزاَ للشفاء لدى السومريين، الذي مازال إلى الآن رمزاً للطبِ في جميع أنحاء العالم. كما تظهرُ عشتار البابلية كسيدةٍ للشفاء في التراتيلِ والصلواتِ التي تركتَها ثقافةُ بلادِ الرافدين.

اعتُبِرَت الحية أيضاً روحاً للشجرةِ وحارسةً لمياهِ الينابيع، فنجدُها في كثيرٍ من الأعمالِ التشكيليةِ وقد التفَّت حول الشجرة ومن تحتها تنبثقُ مياه الينابيع. كما اعتقدَ الإنسانُ القديم بأن الحيةَ خالدةٌ لا تموتْ وإن تبديلها لجلدِها القديم بجلدٍ آخر هو تجديدٌ لحياتها، كلما نالَ منها الهرم، وربطَ بينها وبين القمرِ الذي يحددُ حياته الأبدية في دورةٍ شهريةٍ دائمة، فكانت الحية رمزاً للآلهةِ القمرية منذ الأزمنةِ السحيقة ومن هنا جاءَ اسمُ الأفعى في اللغةِ العربيةِ على أنَّه الحية مشتقاً من الحياة. كما أن الحالةَ الأولى التي تتداخلُ فيها الظلمة والمياه والسكون هي الهيولى البدائيةُ والمدارُ الأعظمُ الذي رمزَّت لها ميثولوجيا الشعوبُ بشكلِ الحية "الأم الكبرى" التي تعضُ على ذيلها دلالةً على الاكتمالِ الأزلي المطلق قبل أن ينحلَ إلى مظاهرِ الكون المختلفة.

هذا وقد رُمز للآلهة "الأم الكبرى" بأنها آلهة قمرية، فالإنسان القديم كما وجدَّ في الأرض تجسيداً للأم الكبرى، كذلك وجدَّ في القمر، فالقمرُ هو الأرضُ السماويةُ الأكثر شفافيةٌ ونقاء، ويسودُ الاعتقادُ لدى الكثيرِ من الشعوب بأنَّ القمرَ قد جُبِلَ من أديمِ الأرض وأطلقوا عليه اسم الأرضِ العليا، وإن الاعتقاد بأنوثةِ القمر وتمثيله للأم الكبرى قد سادَ الحضاراتِ القديمة، وبقيَّت أثاره في ثقافاتِ الأقوام البدائية في عالمنا الحديث.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن الإنسانَ القديم قد رأى بأنَّ حياةَ المرأةِ الفيزيولوجية والسيكولوجية ذات طبيعةٍ قمريةٍ فهي مرتبطةٌ بدورةٍ شهريةٍ معادلةٌ لدورة القمر الذي يبدأ هلالاً في أولِ الشهرِ ليتلاشى في أخرِه. وقد كانَ سكانُ بلادِ الرافدين يعتبرون تمامَ البدر يوم تحيضُ فيه عشتار وتستريحُ من كلِّ أعمالها وقد دُعي هذا اليوم "السباتو" أي يومَ الراحةِ وهو مرتبطٌ بالمحرمات كالشروع بالسفر وأكل الطعام المطبوخ وإشعال النار، وكانوا يحتفلون به في كل شهر.

وفي اللغاتِ الحديثةِ نجدُ أثراً للاعتقاد بعلاقة طمثِ المرأة بدورة القمر ففي اللغةِ الإنكليزية نجدُ أن كلمةَ "menstruation" الدالة على الطمث إذا ما رجعَت إلى أصولها تعني التغيير القمري، وفي الفرنسية من الشائعِ أن يُشارَ إلى الحيضِ على أنه وقت القمر، وفي الهند والكونغو تُستعمل كلمة واحدة للدالةٍ على الحيض والقمر.

ولعل أكثرَ صور ارتباطِ الأم الكبرى بالقمر ظهرت في أساطير نزولِ الآلهة الأم إلى العالمِ السفلي وعودتِها كـ "إنانا أو عشتار" فقد صُوِّر هبوطها بالقمر الذي يهبطُ من الأعلى العظيم على درجاتٍ ومراحل حتى يغيبَ ويظهرَ لاحقاً.

كما أن موتَ النباتات في الخريفِ وحياتَها في الربيعِ كان سبباً لغيابِ الأم الكبرى، روح الخصوبة الكونية وعودتها حيةً متجددة، ففي الخريف تهبطُ إلى العالم السفلي لترقدَ هناك طيلة فصلِ الشتاء ومع الربيع تنتفضُ في مرقدِها ملونةً وجه البسيطة بكل أخضرٍ بهيج. لذا فقد سادَ الاعتقادُ بأن القمرَ هو المسؤولُ عن خصوبةِ النساء وهو الذي ينفخُ الحياةَ في أرحامِهن، لذلك فإن المرأةَ غير الراغبةِ في الحمل لا تنام على ظهرها ليلاً دون أن تغطي منطقتها بإحكامٍ خوفاً من تسللِ شعاع القمر.

وبالإضافةِ إلى هذه الصور أجمعين فقد وُجِدَ في المعتقدات القمرية القديمة بأن الأم الكبرى لها وجهين متناقضين ومكملين لبعضهما، فهي عنصرٌ مزدوج، ففي طورِ القمر الأول تديرُ وجهها المضيء، وجه الحياة والخصب والحب، وفي طوره الآخر تديرُ وجهها الأغبر فترسل الأمراضَ والأوبئةَ والعواصف، لذلك عُبِدَت في العصر النيوليتي كسيدة للموت كما عُبِدَت سيدة للحياة، وتدلُ طقوسُ الدفنِ التي مارسَها سكان المستوطنات الزراعية النيوليتية على أن الموتَ لم يكنْ بالنسبةِ إليهم سوى معبراً للعودةِ إلى أحضان سيدة للموت التي كانَت هي في نفسِ الوقت سيدة الحياة.

وهكذا نرى أسبقيةَ عبادةِ القمر على الشمس لارتباطِه بالأم الكبرى وعلى أهميةِ الليل لدى الشعوب القديمة، وقد ارتبطَ الليل بآلهات الأم الكبرى كـ "ليليت" ربةُ المهد، التي تحدثنا عنها سابقاً، فكلمةُ "ليليت" هي كلمةٌ سومرية lilitu مؤنثها lil أو lilu ومعناها الريح وقد صارَت تُطلق على الليل.

إلا أن الثقافة الذكرية توجَت انتصارها بإجلاءِ عشتار عن القمر، وإعطائها كوكب الزهرة، ثالثُ الأجرامِ المنيرة في السماء، ومن مدينةِ الوركاء السومرية نشأت عبادة كوكب الزهرة ونمت، حيث أطلق عليها اللسان السومري "إنانا" وتعني سيدة السماء، ومع تأسيس الدولة الأكادية تحول اسمها من "إنانا" إلى "عشتار". ومع الفتوحاتِ البابلية والآشورية لبلادِ شرقي المتوسط، رحلَّت الزهرة مع الرافدين تفرضُ عبادتها على القلوب، ففي كنعان هي "عنات" أو "عستارت"، وفي فينيقيا شمالاً ظلَّت باسمها الآشوري "استار"، وعبرَت البحر مع التجارةِ الفينيقية إلى اليونان لتُصبحَ هناك "أثينا" أو "أفروديت" بل وصلَّت إلى روما كـ "فينوس". ومن الجديرِ بالذكرِ ارتباطُ كوكبِ الزهرة عندَ العربِ بالأم الكبرى "العزى"، فكانَت تُعبد في شكلِ شجيراتٍ ثلاث مقدسات، وفروعُ الشجرةِ هي علامةُ للخصب.

وقد بقي الاعتقادُ الأكبرُ بأن نفسَ الأم الكبرى تتجهُ إلى تحسسِ العوالم الروحانية وتتلمسُ القوى الباطنية ممَّا جعلها الكاهنةَ الأولى، ولعل أول دليلٍ أسطوري وصلنا على روحانيةِ نفس المرأة وحكمتِها كان في ملحمة جلجامش فـ "أنكيدو"، رجلُ البراري المتوحش، روضَته إمرأة، فالممارسةُ الجنسيةُ التي تمت بينهما كشفَت بصيرتَه وجعلَّته حكيماً.

لذا نجد الفيلسوف يونغ كان قد ركزَّ على النظريةِ الطاوية المعروفة في "الين واليانغ" قائلاً بأن الأم الكبرى هي نمطٌ أوليٌّ مازال يفعلُ فعلَه في النفسِ البشرية، فعاطفةُ الأمِ اتجاه أولادِها هي عاطفةٌ وحيدةٌ أصليةٌ منبثقةٌ من الأمِ الكبرى.

هكذا نجدُّ أن صورةَ الأم الكبرى التجريدية لم تتعارضْ في ذهنِ الإنسان القديم مع صورٍ أخرى مشخصة للأم الكبرى، فقبةُ السماءِ هي الأم الكبرى ورداءُ الليلِ هو الأم الكبرى والمياهُ الأولى وشجرةُ الحياةِ والحيةُ والقمر، فرغم تشظي صورَتها وتحول أسمائها وصفاتها إلى ذواتٍ منفصلةٍ ظاهرياً إلا أنها تبقى متطابقةٌ باطنياً، فإن كلَّ اسمٍ من أسمائها، وكلَّ تجلٍ من تجلياتها قد حافظَ على خصائصِها جميعها.

الجزء الأول من السلسلة:

هنا

المصادر:

1- السواح. فراس، لغز عشتار- الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، الطبعة الثامنة، دمشق، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، 2002.

2- عبود. حنا، ليليت والحركة النسوية الحديثة، دمشق، منشورات وزراة الثقافة، 2007.

3- القمني. سيد، الأسطورة والتراث، الطبعة الثالثة، القاهرة، المركز المصري لبحوث الحضارة، 1999.

4- الحوت. محمود، في طريق المثيولوجيا عند العرب، دار النهار، 1979.

5- Neumann. Erich، The Great Mother- An Analysis of the Archetype، 1st press، Princeton University، 1991