الهندسة والآليات > هندسة البترول والغاز

تاريخ الذهب الأسود

استمع على ساوندكلاود 🎧

قال الكيميائيُّ الروسي ديمتري مندليف ذات مرّةٍ أنَّ استعمالَ النَّفط كوَقودٍ هو أشبه ما يكون بإشعالِ فرنِ المطبخ بالأوراقِ النقدية. قد تكونُ تلك المقولةُ مُقارِبةً للحقيقة إلى حدٍّ بعيد، لكن هل تساءلنا يومًا متى كانت بداياتُ ظهورِ النَّفط، وكيف تحوّل إلى عنصرٍ أساسيٍّ في حياتنا اليومية إلى أن أُطلِق عليه لقبُ "الذهبِ الأسود". تابعونا في هذا المقال لنتعرف أكثر عن تاريخ الذهب الأسود وبداياته.

استخدمَ البشرُ البترول منذُ حوالي 4000 سنة وذلكَ في أعمالِ البناءِ وفي الحروبِ، ومن أجلِ الضوءِ والحرارةِ بالإضافةِ للأغراضِ الطبيةِ. تموضعَت معظمُ حقولِ النَّفطِ القديمةِ على امتدادِ نهرِ الفراتِ، وفي مضيقِ كيرتش الذي يصلُ البحرَ الأسود ببحر آزوف، وفي مقاطعة زيشوان في الصين.

ذُكِرَ النفطُ في العديدِ من المصادرِ القديمة فقد وردَ في الإنجيلِ ذِكْرُ حُفَر القطران "Tar Pits" حول البحر الميّت، بالإضافةِ إلى أن العديدَ من المرجعيّاتِ أشارت إلى استخدامِ البيتومين أو القار كعازلٍ للماءِ في السلّةِ التي وُجِدَ فيها الطفلُ موسى. كما استُعمِلَ القطرانُ في سفينةِ نوح من الداخلِ والخارج.

يُعتبَرُ حرقُ منابعِ النَّفطِ طقسًا مقدّسًا في الديانةِ الزرادشتية، والتي تُعدُّ واحدةً من أقدمِ الدَّيانات، حيثُ يُعتبَرُ تقليدُ الشُّعلة الأبديّة تكريمًا لأولئك الذين سقطوا في الحروب، ويشيرُ إلى أنهم مازالوا أحياءً حتى يومنا هذا.

بدايةً بالفحم، ومن بعده جاءتِ الهيدروكربونات الطبيعية [1] لتلعبَ دورًا هامًّا في تحويلِ حضارتنا من حضارةٍ زراعيّة إلى صناعيّة. حيثُ بدأتِ الصناعةُ استعمالَ النَّفْطِ في أواخرِ القرنِ الثامنِ عشر وأوائلِ القرنِ التاسعِ عشر، أي منذُ حوالي 200 عام عندما قامَ جيمس وات باختراعِ المحرّك البخاريّ، ومن بعدِه جاءَ كلٌّ من روبرت فولتون وجورج ستيفنسون ليطبّقاه على القاربِ البخاريِّ والقاطرةِ البخاريَّة على الترتيب.

قد يبدو مضحكًا أن نعلمَ بأن أوائلَ هذهِ الآلياتِ البخاريّة لم تستخدمِ النَّفطَ على أنّه وَقود، وإنما استخدمَتْه كزيوتِ تزليقٍ في أجزائها المتحرّكة. جُمِّعَ النَّفط آنذاك من الحُفَر ومن الأسطحِ المائيّة، وعلى الرغمِ من أنهُ لم يكن كثيرًا إلا أن استعمالَه كان في الأصلِ بهدفِ التغلُّبِ على قوى الاحتكاك، أيّ كزيتِ تزليق.

استُعمِلَ أيضًا زيتُ الحوتِ في إنارةِ طُرُقاتِ المدنِ، إلا أنه لم يكن بمقدورِ صيادي الحيتانِ إنتاجَ كميّةٍ كافيةٍ منه، مما تطلّبَ البحثَ عن مصادرَ جديدةٍ للطاقة. جاءَ التقدُّم المفاجئ في هذا الصَّدد عندما قامَ مالكَيّ متجرِ أدويةٍ في مدينةِ "Lviv" الأوكرانية وهما إغناسي لوكاسايش ويان زي باختراعِ أوّلَ مصباحٍ كيروسيني عام 1853، وسُرعانَ ما استُعمِلَ هذا المصباح من أجل العمليّاتِ الليليّةِ الطارئة في واحدةٍ من مستشفياتِ مدينةِ "Lviv"، بعدَ ذلك أصبح مصباحُ الكيروسين شائعًا في كلٍّ من الشوارعِ والبيوت، ثمّ استُعمِلَ حتى خلالَ ساعاتِ النهارِ مانحًا الفرصةَ للناسِ بالعملِ بشكلٍ أفضل ولمدّةٍ أطولَ، أيّ قام النَّفطُ بإنارةِ حياة البشر.

ولأنّ احتراقَ الكيروسين المُصنَّع من النَّفط كان برّاقًا وآمناً، ازدادَ الطلبُ العالميُّ عليهِ بسرعةٍ وبدأ البشرُ بالبحثِ عن الترسُّباتِ النَّفطيّة. حُفِرَت أوّلُ بئرٍ نَفطيّة عام 1859 من قِبَل إدوين دراك، فقد كان محظوظًا كفاية ليحفرَ في تشكيلةٍ نَفطيّةٍ قريبةٍ من السطح، وأنتجت بئرهُ كميةً من النَّفطِ اعتُبرت هائلةً آنذاك. نشأتِ العديدُ من شركاتِ النَّفطِ وأفلسَت واندمَجت وتمَّ الاستيلاءُ عليها. كانت تلك المنافسة القتاليّة شرسةً، فقد تحوّلتِ التربةُ إلى مصدرٍ حقيقيٍّ لكسبِ المال.

ظهرت أولى المصافي وبدأت بالنُّشوء، فإلى جانبِ الكيروسين، أنتجت الصناعةُ زيتَ الآلاتِ والوقودَ اللذَين استُعمِلا كمصدرِ طاقةٍ للمحركات. ازدادَ الطلبُ على البنزين بشكلٍ رهيبٍ عندما صَمَّم غوتليب دايملر مُحرّك البنزين الخفيف والذي قامَ كارل بنز بتطبيقِه على السيارة، وقامَ أيضًا الأخوان رايت بتطبيقه على الطائرة. إلا أنَّ هنري فورد كان المغيِّر الحقيقيّ لقواعدِ اللعبة، حيث قامَ بتقديمِ السُّيورِ الناقلةِ للحركة إلى صناعةِ السيّارات مُعلنًا بذلكَ بدءَ عهدِ إنتاجِ السيّارات الضخم.

لم تطُل الفترة التي اعتُبِرت فيها السيّارة على أنها رفاهيّة، فسُرعان ما تحوَّلَت إلى وسيلةِ موصلاتٍ معقولةِ الثمن، أيّ تحوّلت إلى جزءٍ من الحياةِ اليوميّة.

لا يمكننا طبعاً تجاوزَ رودولف ديزل الذي صمَّمَ محرّكَ الاحتراق الداخليّ، والذي سُمِّي باسمه بعد وفاته. حيث تُستعمَل مُحرّكات الديزل حتى يومنا هذا في السيّارات والطائراتِ والسفنِ، مانحةً الإنسانَ القدرةَ على قطعِ مسافاتٍ كبيرةٍ بسرعة، وبذلك تغلّبَ على البرِّ والجوِّ والبحر.

في أواسطِ القرنِ التاسعِ عشر، كانت كلٌّ من الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ وروسيا قادةَ إنتاجِ النَّفط العالميِّ بإنتاجٍ هو الأعلى في كلٍّ من بنسلفانيا وباكو على الترتيب. في عامِ 1850 أُنتِجَ 300 ألفِ طُنٍّ من النَّفط في العالم،ِ وكانَ نصيبُ روسيا منها 101 ألفِ طُن. حيث يُعتبَر ذلك الوقت عصرَ النموِّ الصناعيِّ السريع.

أُنشِئَت شركة "Standard Oil" وهي أولُ شركةٍ نفطيّةٍ متكاملةٍ رأسيًّا في العالم في الولاياتِ المتحدة من قِبَلِ جون روكفيلير، أما في روسيا فقد قامَ الأخوان نوبل ببناءِ إمبراطورتيهم النفطيّة والتي تنازعت مع روكفيلير على الأسواقِ الأوروبيّة. تطلّبَت هذه المنافسةُ الصُّلبة معرفةً هندسيّة، الأمرُ الذي أدى إلى نشوءِ تقنياتٍ جديدةٍ. فقد دفعَ الطلبُ الكبيرُ على المعدنِ إلى صناعةِ الفولاذ، كما تسارعت عمليّةُ تطويرِ الصناعاتِ الأخرى حيثُ أصبحتِ الصناعةُ النفطيّةُ هي المحرِّكُ لهذه العمليّة.

في عامِ 1900، نما الإنتاجُ العالميُّ السنويُّ من النفطِ إلى نحو 20 مليونَ طُنٍّ توزّعت على الشكل الآتي: 9.9 مليون طُن لروسيا، و8.3 مليون طُن للولاياتِ المتحدة، و0.43 مليون طُن في إندونيسيا التي كانت تُدعى وقتَ ذاك بجزُرِ الهند الشرقيّة الهولنديّة، كما أَنتجَت كلٌّ من رومانيا وهنغاريا النمساويّة ثُلُث مليونِ طُن لكلٍّ منهما، وأنتجت اليابان 110 ألفِ طُن، وألمانيا 50 ألفَ طُن.

أصبحَ النَّفطُ مصدراً استراتيجياً كما أعطى الجيوشَ السرعةَ وقابليّة الحركة. أُنتِجت السياراتُ العسكريّةُ والطائراتُ والدباباتُ وناقلاتُ الجندِ بالآلاف. كانتِ السفنُ الحربيّة التي تعمل على الديزل أكثرَ فعاليّةً من تلك التي تعملُ على الفحم، وباتَ من الواضحِ بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى أن سلطةَ النَّفطِ هامّةٌ جدًّا للأمنِ القوميِّ، وهنا برزَ دورُ السياسةِ فقد غدا النَّفطُ ضمانًا للأمن. نما إنتاجُ النَّفطِ في الولاياتِ المتحدةِ قبلَ الحربِ العالميّةِ الأولى بشكلٍ ملحوظ، كما علّمَتْنا الحربُ العالميّةُ الثانيةُ أيضًا أنَّ من يتحكّمُ بالنفطِ يربحُ الحرب.

في عامِ 1940 ظهرت منتجاتٌ بتروليةٌ جديدةٌ، كانت هذه المنتجاتُ عبارةً عن مركّباتٍ مُصنَّعة كالنايلون والبولي إيتيلين. دوَّت هذه الصناعةُ آنذاك، فقد تحوّلَ النَّفطُ إلى مصدرٍ للبلاستيك، فلا يمكننا أبدًا تخيُّلَ حياتنا اليوم بدونِ المنتجات البتروكيميائيةِ كالأنسجةِ الصناعيّةِ والمواعينِ والأدواتِ المنزليّةِ، ... إلخ.

يتوزّعُ الإنتاجُ العالميُّ من النَّفطِ في يومنا هذا على الشَّكلِ التالي:

الولاياتُ المتحدةُ أولاً بإنتاجٍ يبلغُ 13 مليون و973 ألفَ برميلٍ يوميّاً، تليها المملكةُ العربية السعوديّة بإنتاجٍ يوميٍّ يبلغُ 11 مليون و624 ألف برميل، ومن ثم روسيا ثالثاً بإنتاجٍ يبلغُ 10 مليون و853 ألف برميل يوميّاً.

لا بُدّ وأن نذكرَ الدور الهامَّ الذي لعبتهُ الولايات المتحدة الأمريكية في تداعي أسعارِ النَّفط عالميًّا عام 2014، حيث عزّزت إنتاجَها المحليَّ من النَّفط مما خلقَ مجموعةً واسعةً من المنتجاتِ البترولية الوطنية، لتصبحَ بذلك أقلَّ اعتمادًا على استيرادِ النَّفط، ولم تعد هناك حاجةٌ لشراءِ الكثيرِ من النَّفط من روسيا ونيجيريا وفنزويلا.

أخيرًا عزيزي القارئ ما رأيك في أن تختبر معنا ما تعلَّمتَه في هذا المقال بالإجابةِ على الأسئلة التالية؟ شاركنا الإجابة.

1. متى بدأت الصناعة في استخدام النفط؟

2. في أي عامٍ قام إدوين دارك بحفر أولِ بئرٍ نفطيّة؟

3. من هم قادةُ إنتاجِ النَّفط العالمي؟

شرح المفردات:

[1] الهيدروكربونات الطبيعية: النفط والغاز الطبيعي.

المصادر:

Introduction to Petroleum Engineering، TOMSK POLYTECHNICK UNIVERSITY، Iversity platform.

هنا

هنا

هنا