الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الثورة الفرنسية – الجزء الثاني بين (مونتيسكيو) و(روسّو)

استمع على ساوندكلاود 🎧

بينما واصلتْ فكرةُ (السيادةِ المجزَّأةِ) تغذيةَ النضالِ من أجلِ الحرية، بقي مونتيسكيو أحدَ أهمِّ الفلاسفةِ السياسيِّين أثناءَ الثورةِ الفرنسية. حتى إنّ أولئك الدُّعاةَ والصحفيِّين الذين نادَوْا باسمِ جون لوك؛ بصفتِه المنظِّرَ الأبرزَ لمفهومِ الحريةِ الحديثة؛ لم يكونوا بمنأًى عن مفهومِ مونتيسكيو لأمورِ السلطة؛ فقد عَدَّ نفسَه خَلَفًا للوك في مفهومِ الليبراليةِ التقليدية، وصرّحَ بشكلٍ خجولٍ بأنه في حالِ الرغبةِ بتبنّي مبادئِ لوك العامة، فإنه يجب مراعاةُ الظروفِ الخاصةِ لفرنسا.

إلا أنَّ إحدى نظرياتِ لوك لمْ تَلْقَ اهتمامًا كبيرًا من مونتيسكيو كما لقيتْ من ثوريِّي تلك المرحلةِ من عامِ 1789م، وكانت نظريةُ لوك هذه ترى أنَّ (الحياةَ، والحريةَ، والمِلْكية) هي حقوقٌ طبيعيةٌ لكلِّ إنسان، وقد استغلَّ الثوريُّون الفرنسيُّون تلك النظريةَ استغلالًا جيِّدًا، وشجَّعهم على ذلك استفادةُ الثوريِّين الأميركيِّين من تلك النظريةِ أيضًا عامَ 1776م.

(لافايت) بلعبِه دورًا في حربِ الاستقلالِ الأميركية، و(كوندرسي) الذي مُنح لقبَ مواطنٍ فخريّ، كان كلاهُما مِن بينِ أكثرِ مَن نَشَطَ في تسويغِ قيامِ الثورةِ الفرنسيةِ أمامَ العالمِ وأمامَ الشعب؛ وذلك من خلالِ التصريحِ الذي أَدْلَيَا به في إعلانِ حقوقِ الإنسانِ والمواطن، في وقتٍ مبكرٍ؛ آب 1789م. غيرَ أنَ النُّقّادَ في مرحلةٍ لاحقة، كانوا قد نَوَّهوا إلى أنّ ذلك (التصريحَ) لا يشكِّلُ أيَّ قوّةٍ قانونيّة، وأنّ إعلانَ حقوقِ الإنسانِ لم يُحْدِثْ أيَّ فرقٍ جوهريٍّ للمؤسَّسات، وكذلك الإجراءاتُ التي يقومُ عليها نظامُ الحكمِ المَلَكيِّ الدُّستوريّ. إنّ تقسيمَ السيادةِ بين العرشِ (المَلَكيةِ) وبين السلطةِ التشريعيةِ (الشعب)، كان ما يزالُ يُعتقَدُ أنه الإنجازُ الرئيسيُّ للثورةِ عامَ 1789م.

وَضعتْ رحلةُ الملكِ إلى فارين (فرنسا) نهايةً لكل ذلك؛ فقد كَشفتْ بوضوحٍ رغبةَ المَلِكِ في الاستئثارِ بالحكم، وعدمِ مشاركةِ السيادةِ معَ الشعبِ الذي يمثِّلُ السلطةَ التشريعية. وكان فشلُ المَلَكيِّين الليبراليِّين بعد ذلك في محاولتِهم رَأْبَ الصَّدْعِ في الدُّستور؛ بمثابةِ إشارةٍ لأولئك الذين لم يرغبوا في تجزئةِ السيادةِ بين الشعبِ والعرش. وبهذا فقد أُطِيحَ بنظريةِ تجزئةِ السيادة، لصالحِ نظريةِ السيادةِ المطلقةِ أو غيرِ المجزَّأة، إلا أنَّ نظرية المَلَكيةِ الدُّستوريةِ مَهَّدت الطريقَ أمامَ النظامِ الجُمهوريّ، وما كان من مونتيسكيو إلا أن استسلمَ لروسو.

أمّا بيرك الذي كان يمتازُ ببُعدِ النظر، فقد رأى في روسو المُنظِّرَ الأيديولوجيَّ الرئيسيَّ للثورةِ الفرنسيةِ منذ بدايتِها عامَ 1790م، لكنّ ذلك لم يحدثْ إلا بعدَ قيامِ الملكِ برحلتِه إلى فارين التي قَوَّضَ فيها سمعتَه الليبرالية؛ ما أدّى إلى بروزِ (الحكمِ الجمهوريّ) إلى واجهةِ جدولِ أعمالِ الثورة، أو ما يسمى بالأجندةِ الثوريّة. وكما احتلَّ روسّو مكانَ مونتيسكيو في فلسفةِ الثورة، فقد احتلّ أيضًا مفهومُه للّيبراليةِ محلَّ مفهومِ مونتيسكيو، الذي شرحَه في (L'Esprit des loi)، أو (روحُ القوانين). ففي حين كان مفهومُ مونتيسكيو للحريةِ هو فعلَ ما يختارُه المرءُ بحريةٍ مطلقةٍ دونَ أيِّ عقباتٍ أو قيود، ما دام اختيارُه أمرًا قانونيًّا؛ فقد كان مفهومُ روسو للحريةِ هو قدرةَ المرءِ على التحكمِ في نفسِه، والعيشِ في ظلِّ قانونٍ يسنُّه بنفسِه. إذنْ ففلسفتُه في الحريةِ تقومُ على أنه لا يوجدُ ما يسمى بقضيةِ مطالَبةِ الشعبِ بتقسيمِ السيادةِ أو تقليصِها؛ لأنه يرى أنّ الشعبَ وحدَه من يملِكُ سيادةَ نفسِه. أمّا مفهومُ الدستور، فهو يرى أن الدولةَ سيدةُ نفسِها.

هذا ما كانت عليه الثورةُ الفرنسيةُ في مرحلتِها الأولى؛ حالاتٌ من التخبُّطِ بين فكرِ (مونتيسكيو)، ثُمّ (لوك)، فـ(روسو). وقد ساهم كلٌّ منهم بشكلٍ أو بآخرَ في وضعِ لَبِنَةٍ من لبناتِ صرحِ الثورةِ الفرنسية، وإن اختلفت المبادئُ والتطلُّعات.

وعلى أيِّ حال، فقد كانت المرحلةُ الأولى الطريقَ الذي مَهّدَ لانبثاقِ المرحلةِ الثانية.

تابعوا معنا في المقالِ الثالثِ من سلسلتِنا أهمَّ أعلامِ المرحلةِ الثانيةِ من الثورةِ الفرنسية، والمبادئَ والأفكارَ التي قامت عليها.

لمتابعة المقال الأوّل من السلسلة:

هنا

المصدر:

هنا