التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

كيف أصبحَ الشاي محركاً للثّورة الأمريكية؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

كيف أصبحَ الشاي محركًا للثَّورة الأمريكية؟

يُعدّ قانونُ الشاي الذي صدر سنة 1773م واحدًا من إجراءاتٍ عدة فرضتها الحكومة البريطانية المُثقلةِ بالديون على المستعمرين الأمريكيين في خلال العقد الذي سبق الثورة الأمريكية التي استمرت بين عامي 1783و1775م. ولم يكُن الهدف الأساس من القانون زيادةَ العائدات المالية الآتية من المستعمرين بقدر ما هو إنقاذ شركة الهند الشرقية المتعثّرة التي كانت تُعد أحدَ ركائزِ الاقتصاد البريطاني، إذ أعطت الحكومة البريطانية بهذا القانون شركةَ الهند الشَّرقية حقَّ احتكار استيراد الشاي وبيعه في المستعمرات الأمريكية.

إلا أنَّ هذا القانون أشعل معارضةَ المستعمرين الذين طالما رفضوا الضرائبَ المفروضة على الشاي، وبلغت مقاومتهم هذه أَوْجها مع حركة الشاي في بوسطن في السادس عشر من كانون الأول من عام 1773م. وفي هذا التحرّك؛ هاجم المستعمرون سُفُنَ شركة الهند الشرقية المحمّلة بالشاي وألقوا بحمولتها في الماء؛ ما دفع بالبرلمانِ البريطانيِّ إلى فرضِ سلسلةٍ من الإجراءاتِ الصارمةِ الرَّامية إلى إخمادِ ثورة المستعمرين ضد القوانين البريطانية فأدّى ذلك إلى نشوب الحرب بين بريطانيا والمستعمرات الأمريكية بعد سنتَين من هذهِ الحادثة.

أزمةٌ ماليةُ في بريطانيا:

عام 1763م برزت الإمبراطورية البريطانية قوةً منتصرةً في حرب السنوات السبع مع فرنسا ودول أخرى (1763-1756). ولكن انتصارها هذا -الذي أدى إلى اتساعِ نفوذها ومكاسبها الإمبراطوريّة- جَلَبَ معه حجمًا هائلًا من الديون الوطنية، ما اضطُّر بريطانيا إلى التعامل مع المستعمرين في أمريكا الشمالية بوصفهم مصدرًا بِكرًا غير مستَغَل لزيادة إيراداتهم. فعام 1765؛ سنَّ البرلمان البريطاني قانون الطوابع الذي عُدّ أول ضريبة داخلية مباشرة تُفرض على المستعمرين. وقاوم المستعمرون الضريبةَ الجديدة وافترضوا أن حق التشريع وفرض الضرائب يمتلكه الممثلون الشرعيون المنتَخَبون من المستعمرين أنفسهم فقط وليس البرلمان البريطاني، ولذلك عدّوا ضريبة الطوابع غيرَ عادلةٍ أو دستورية. لكن بعد رفضِ الحكومة البريطانية طلبَ المستعمرين لجؤوا إلى التهديد والعنف لمنع جمع ضريبة الطوابع هذه، ما دفع بالبرلمان البريطاني إلى إلغاء القانون عام 1766 لكنه لم يتنازل عن حقه في فرض الضرائب والتشريع على المستعمرات في أمريكا الشمالية.

فعام 1767م؛ قدّمَ تشارلز تاونشند Charles Townshend -المستشار البريطاني للشؤونِ المالية وجمع الضرائب- قانونًا ينُصُّ على فرضِ ضريبةٍ جُمركيّةٍ على عددٍ من السلع المستوردة إلى المستعمرات بحيث تُستخدم عائداتُ هذه الضريبة في دفع مرتّبات حُكام المستعمرات البريطانية، وتضمّنت قائمةُ السّلعِ هذه المشمولة بالضريبةِ الجديدة الشاي والزجاج والورق والدهان، وقد توقّع تاونشند انصياعَ المستعمرين للضريبةِ الجديدةِ لمّا كان للبرلمان تاريخٌ طويلٌ في استخدام الضرائب لتنظيمِ التجارةِ داخل الامبراطورية. ولكن لسوء حظه؛ أثار قانونُ الطوابع امتعاض المستعمرين تجاه الضرائبِ الجديدةِ المفروضة كلها. وفضلًا عن ذلك؛ أدى اقتراح تاونشند -استخدام ايراداتِ الضريبة الجديدة لدفع رواتب حكام المستعمرات إلى تفاقم ريبةِ المستعمرين وشكوكهم، فقد عدّوا هذهِ الخطوة محاولةً لتمكينِ الحُكام المعيّنين من التاج البريطاني على حسابِ الحكومات الممثِّلة لشعوب المستعمرات. وللتعبير عن استيائهم؛ نظَّم المستعمرون حملاتٍ شعبيةٍ لمقاطعةِ السلع المشمولةِ بهذه الضريبة. وللمرة الثانية نجحت مقاومتهم في إلغاء النظام الضريبيِّ الجديد، إذ خضعتْ الحكومةُ البريطانيةُ للأمر الواقع مع تمسُّكها بسلطتها القانونية وحقِّها بفرضِ الضرائب على المستعمرات. وعام 1770م ألغى البرلمان البريطاني الضرائب المنصوص عليها في قانون تاونشند كلها عدا الضريبة المفروضة على الشاي التي بقيت رمزًا لسلطة البرلمان البريطاني على المستعمرات الأمريكية.

إنقاذ شركة الهند الشرقية:

خففَ إلغاء القانون الأخير من حِدّة مُقاطعة المستعمرين للبضائع البريطانية، لكنّ عددًا منهم استمر في امتناعه عن شرب الشاي أو اتجه إلى استعمال الشاي الهولندي المُهرَّب والأرخص ثمنًا، فسبَّبَ ذلك ضررًا ماليًا كبيرًا لشركةِ الهند الشرقية التي كانت تمر بمرحلةٍ من الصعوبات الاقتصادية. وعلى الرغم من أنَّ التعثُّر المالي للشركة شأنٌ داخليٌ خاصٌّ بها؛ لكنَّ هذه الشركة أدّت دورًا تكامليًّا في الاقتصاد الإمبراطوري البريطاني من طريق عملها قناة للأثرياء في منطقة جنوب أسيا.

أدّت التُخمة في إنتاج الشاي ومقاطعة السوق الأمريكية له إلى كساد الشاي في المخازن وأزمةٍ أكبرَ لشركة الهند الشرقية فأقرّ البرلمان البريطاني قانون الشاي في عام 1773 خطوةً لإنقاذ الشركة. إذ نصَّ هذا القانون على منح شركة الهند الشرقية الحقَّ في تصدير الشاي مباشرةً إلى المستعمرات دون التوقف في بريطانيا؛ ودفعِ الضرائب هناك؛ ما يؤدي إلى خفض سعر الشاي. وشمل القانون تفويضَ عملاءَ محددين للشركة بالحقِّ الحصري في بيع الشاي في المستعمرات وأبقى على الضريبة المفروضة على الشاي.

تَلف الشاي:

كان الاعتقاد السائد في البرلمان البريطاني أنَّ قانون الشاي الذي خُفِّضَ سعرُه سيُهدِّئ من غضب المستعمرين؛ لكنَّ هذا الاعتقاد كان خاطئًا إذ ألحق السماحُ لشركة الهند الشرقية بتصدير الشاي مباشرة إلى أمريكا الشمالية أضرارًا كبيرة أصابت التُّجار النافذين في المستعمرات وأثارت حنقهم. ورأى مستعمرون آخرون في القانون حصانَ طروادة  الذي أُعِدّ لدفع المستعمرات إلى القبول بحق البرلمان البريطاني بفرضِ الضرائب عليهم، وزاد إعطاء العملاءِ الحقَّ الحصري لبيع الشاي من غضبهم. فأحيا قانون الشاي حملة المقاطعة التي كان المستعمرون قد بدؤوها مع قانون الطوابع، وأدَّى إلى عقد تحالفاتٍ ونشوء جماعاتٍ ضمَّت بينها الوطنيين والتُّجار على حدٍ سواء؛ كجماعةِ أبناء الحرية "Sons of Liberty"، وأنذرت هذه الجماعات عملاءَ شركة الهند الشرقية بالتخلي عن التوكيلات الحصرية المعطاة لهم. فقد تجمع المستعمرون في مرافئ مدن عدة وأجبروا سفن شركةِ الهند الشرقية على الرحيل دون تفريغِ حمولتها، وكانت أبرز هذه الحوادث تلك التي حدثت في مدينة بوسطن في مستعمرة ماساتشوستس وذلك في 16 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1773، إذ هاجمت مجموعةٌ منظمةٌ من الرجال المتنكرين بهيئة الهنود الحمر سفنَ الشركة وحطموا صناديق الشاي ورموا بمحتوياتها في ميناء بوسطن في حركةٍ عُرفت لاحقًا باسم حزب الشاي في بوسطن.

القوانين القسرية والاستقلال الأمريكي:

سبَّبَ حزب الشاي في بوسطن أضرارًا كبيرة أصابت الأملاك البريطانية وأثارت حقد الحكومة الإنكليزية، ما دفع بالبرلمان هناك إلى إقرار سلسلةٍ جديدةٍ من القوانين القسرية عام 1774؛ وقد ألغت هذه الإجراءات ميثاقَ مستعمرة ماساتشوستس وأغلقت ميناء بوسطن إلى حين دفع تكاليف الشاي التّالف من المستعمرين. وعيَّن البرلمان البريطاني الجنرال توماس غيج Thomas Gage -القائد الأعلى للقوات المسلحة البريطانية في أمريكا الشمالية- حاكمًا على مستعمرة ماساتشوستس.

فمنذ قانون الطوابع عام 1765 حذَّرَ المستعمرون المتطرِّفون من أن الضرائب البريطانية الجديدة تهدفُ إلى إلغاءِ الحكومات الممثِّلة للمستعمرات وإلحاقهم بالتاج البريطاني، وجاءت هذه القوانين القسرية لتُقنع من تبقّى من المستعمرين الأمريكيين بحقيقةِ هذه التحذيرات وجديتها. واستمرّت مقاومة المستعمرين بشراسةٍ حتى أعلنت المستعمرات استقلالها بوصفها ولاياتٍ متحدةٍ أمريكيةٍ بعد ثلاثِ سنواتٍ من إقرارِ قانون الشاي.

المصدر:

هنا